استعادة المفردات المضللة في إدارة أزمة اللاجئين بتونس

استسهال النخبة إسقاط توصيفات سلبية يعرقل المصالح الخارجية.
الأحد 2023/07/16
شعارات مربكة

خطاب النخبة التونسية الذي يتسم بالسلبية وتضخيم المخاوف يساهم في إرباك مشاريع الحكومة، وخاصة الرئيس قيس سعيد، في التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة، وهو اتفاق يقوم على تبادل المنافع وتستفيد منه تونس من خلال دعم مالي على مراحل. فهل يفيد في شيء استعادة مفردة الاستعمار في لحظة تحتاج فيها تونس إلى دعم الأصدقاء للخروج من أزمتها.

عندما تضيق بها السبل تلجأ النخبة السياسية والفكرية المؤثرة في تونس ما بعد ثورة 2011 إلى استدعاء المفردات الفكرية الجاهزة لإسقاطها على الواقع المعقد الذي فشلت في إدارته سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة.

وكشفت أزمة اللاجئين الأخيرة، التي تعرفها تونس منذ أشهر، عن استسهال النخبة في إسقاط مفردات مضللة لتوصيف الواقع.

وبدلا من قراءة موجة اللاجئين التي تجتاح المنطقة، وليس تونس فقط، اعتمادا على تحليل الظروف الموضوعية التي أنتجتها، بادرت النخبة المقربة من السلطة إلى استدعاء الخطابات القديمة عن “المؤامرات” واتهام أوروبا “الاستعمارية” بالضغط على تونس لدفعها إلى أن تكون “شرطي المتوسط”، وأن تقبل بـ”توطين” اللاجئين على أراضيها.

هذا خطاب يهرب من الواقع ويحتمي بالكتب القديمة لتبرئة نفسه، ولا يصلح لإدارة دولة في ظل تعقيدات كثيرة تحتاج تونس للتعامل معها بواقعية وبراغماتية. ومثل هذا الخطاب ورقة ضغط على الرئيس قيس سعيد وحكومته، وساهم في إرباكها ودفعها إلى تأجيل التوصل مع الاتحاد الأوروبي بشأن “شراكة شاملة” تساعد تونس ماليا واقتصاديا وتقوي دورها في التصدي لموجات الهجرة غير النظامية.

بات واضحا أن قيس سعيد يتخوف من أن يتم توظيف هذا الاتفاق بشكل يسيء إليه في الداخل، خاصة أن دور تونس في هذه الشراكة سيقوم على تشديد الإجراءات الأمنية في مواجهة قوارب المهربين مقابل الحصول على الدعم المالي.

◙ الانتظار ليس في مصلحة تونس، فالأفضل أن تواجه الهجرة غير النظامية ضمن اتفاق يضمن حقوقها ويعطيها دعما ماليا ودفعا اقتصاديا
الانتظار ليس في مصلحة تونس، فالأفضل أن تواجه الهجرة غير النظامية ضمن اتفاق يضمن حقوقها ويعطيها دعما ماليا ودفعا اقتصاديا

ويحرص الرئيس التونسي باستمرار على تأكيد أن الاتفاق مع الأوروبيين لا يعني القبول بأيّ شرط غير معلن، ولا يفوّت فرص التأكيد على أن بلاده لا تنوي لعب دور الشرطي، أو توطين اللاجئين. وهذا أحد أسباب تأجيل الاتفاق وتخيير تونس التريث قبل إعلان موافقتها.

وسيكون الاختبار الحقيقي خلال قمة الأحد التي يستضيف فيها الرئيس سعيد رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ورئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته، وهو الوفد نفسه الذي زار تونس في يونيو الماضي حاملا معه حزمة مساعدات لإقناع تونس بلعب دور أكثر فاعلية في مواجهة الهجرة غير النظامية.

لو احتكمت تونس إلى المصطلحات الفضفاضة التي يطلقها المعارضون من اليمين واليسار ما خطت خطوة إلى الأمام منذ استقلالها الوطني في 1956. فالمعارضة، التي بات البعض منها على تخوم السلطة، كانت تطلق مصطلحات مثل الاستعمار والإمبريالية والتبعية وهي تجلس على الربوة في خطاب التفافي لا يفكر في مصالح الناس ولا في طريق تدبير شؤون الدولة، وهو ما لا يدركه إلا المسؤولون الذين يباشرون مهمة قيادتها.

خطاب تجريم العالم والعلاقات الخارجية تحت مسميات براقة تغري الشباب عادة يتماشى مع من يكتفي بإطلاق التصريحات أو إصدار البيانات، ولا يتماشى مع من يقود السلطة. وهذا ما اكتشفناه ما بعد الثورة حين استلم معارضون سابقون قيادة الدولة سواء في فترة الترويكا (2012 – 2013) التي أنتجت تحالفا بين إسلاميين ووسط اليسار، أو لاحقا في حكومات نداء تونس التي ضمت إسلاميين وليبراليين ونقابيين وشخصيات يسارية بعضها من الحزب الشيوعي ومن أقصى اليسار.

لم تجد هذه النخب التي استلمت السلطة، أو دخلت شريكا ولو هامشيا فيها، من خيار سوى ترك شعاراتها جانبا، وسلوك الطريق الليبرالي المباشر في إدارة الدولة، والتحرك في كل الاتجاهات لتحصيل القروض وعقد “الشراكات” التي تجلب الدعم بهدف إنفاقه في حينه لإنقاذ الحكومات المتتالية أمام سطوة المطلبية المتزايدة وتمدد نفوذ النقابات داخل الدولة.

الذين يضغطون اليوم بكل الوسائل لإرباك قيس سعيد ودفعه إلى وقف المسار التفاوضي مع أوروبا بشأن اتفاق الهجرة على قاعدة رابح – رابح لو استلموا السلطة في هذا الوضع لكانوا وقعوا الاتفاق وحصلوا على الأموال وأنفقوها سريعا لتثبيت وجودهم في السلطة.

إن الدول التي صنعت في السابق مفردات الإمبريالية والتحرر واستقلال القرار الوطني في مواجهة التبعية والارتهان للخارج، مثل الصين وروسيا والجزائر، هي نفسها الآن التي كسرت تلك التابوهات وبنت علاقاتها الخارجية على قاعدة تبادل المصالح مع دول كانت تصفها بالإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة.

ولا تمتلك تونس الوقت من أجل اختبار الشعارات القديمة. ولا يمكن لبلد محاصر بالأزمات أن يرفع شعارات تخلت عنها دول غنية ولديها عائدات كبيرة من النفط والغاز.

ماذا تستفيد تونس من تأجيل الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة بعد أن كان سيوفر لها فرصة مهمة لالتقاط الأنفاس ومفاوضة صندوق النقد في ظروف أفضل. هل يمكن أن نسبّق مصلحة الأفكار والشعارات على مصلحة البلاد خاصة أن البدائل منعدمة، وأن الحديث عن الاعتماد على الذات والتقشف أمر لا يبدو ممكنا في مجتمع تعوّد بأن تقوم الدولة بتوفير كل حاجاته من الداخل والخارج.

لو احتكمت تونس إلى المصطلحات الفضفاضة التي يطلقها المعارضون ما خطت خطوة إلى الأمام منذ الاستقلال

يمكن أن يتفهم الأوروبيون الحرج الذي يشعر به قيس سعيد بسبب الحسابات الداخلية، وهو ما قد يكون دفعهم إلى تأخير توقيع الاتفاق خلال زيارة الوفد الثلاثي الأوروبي في 11 يونيو الماضي، لكن هل يقبل الأوروبيون بالمزيد من التأجيل في ظل تزايد موجات اللاجئين والتعقيدات الأمنية التي تلازمها؟

من مصلحة تونس أن تسارع إلى حسم موقفها بشأن الاتفاق الذي عرضه عليها الاتحاد الأوروبي، كي لا يفوتها الوقت وتجدَ نفسها خارج اتفاق يعنيها بشكل مباشر، خاصة أن أوروبا لن تستمر في الانتظار وقد تخطو خطوات عملية لوقف تدفقات الهجرة غير النظامية باعتماد الخيار الأمني.

الانتظار ليس في مصلحة تونس، فالأفضل أن تواجه الهجرة غير النظامية ضمن اتفاق يضمن حقوقها ويعطيها دعما ماليا ودفعا اقتصاديا بدل أن تجد نفسها في مواجهة حقيقة جديدة تتولى فيها أوروبا إرجاع المهاجرين إلى الدول التي انطلقوا منها، وعلى رأسها تونس.

وهناك مخاوف جدية من أن يقود تأجيل اتفاق الهجرة مع الغموض الذي يرافق اتفاق تونس مع صندوق النقد إلى قناعة لدى الأطراف المتعاملة مفادها أن الحكومة التونسية تتهرب من الاتفاقيات، وأن المسألة تتعلق بمخاوف سياسية داخلية أكثر منها حسابات المصلحة الاقتصادية.

6