استراتيجية للاختباء

قبل سنوات، كانت زميلتي في العمل ترتدي النقاب إضافة إلى غطاء الرأس، ولم يكن هذا الشيء يعنيني بالطبع حيث إن الأمر يقع ضمن إطار حريتها الشخصية، إلا أنني كنت أمازحها بين الحين والآخر لأن الطقس كان ساخنا أغلب الوقت من العام، كما أنها كانت تتعرض لمواقف محرجة في بعض الأحيان وغالبا ما كانت تعتذر عن دعوات الطعام مع الزميلات في المطاعم لأنها لا تستطيع أن تتناول الطعام بطريقة مريحة. كنت أتحين هذه الفرص وأسألها عن السبب الذي يدفعها إلى أن تغطي وجهها على الرغم من أن حجاب الرأس لوحده يؤدي غرضه ويرسم حدود هويتها الشخصية داخل المجتمع خاصة أن ارتداء النقاب كان قرارها الشخصي، فتجيبني؛ بأنها تشعر بالأمان والسكينة وهي تغطي ملامحها، خاصة إذا كانت تضع ماكياجا كاملا وهي ذاهبة إلى حفلة خاصة للسيدات، حتى لا تنكشف زينتها أمام الرجال الغرباء الذين قد تصادفهم في الشارع!
بعيدا عن الأسباب العرفية والدينية، فإن طريقة زميلتي للتعبير عن نفسها بدت لي في حينها وكأنها آلية دفاعية أو استراتيجية نفسية معينة، يستخدمها عقلها الباطن للتخلص من توتر ما قد يكون ناجما عن مشاعر وأفكار مزعجة، أو لإيجاد حلول لمشكلات شخصية بطريقة يمكنها أن تساير فيها موجات التوتر وتوجهها إلى سلوك ما، وقد عبّرت بطريقة مباشرة عن حاجتها إلى الشعور بالأمان والاستراتيجية التي تستخدمها للحصول على ذلك. في الواقع، كانت “تغطي” على مشاعر أخرى ربما تكون أكثر مدعاة للتوتر وربما تحاول الهروب من بعض المواقف أو الأشخاص الذين تتجنب الاتصال المباشر معهم.
يسلك بعض الأشخاص بطريقة مقاربة تماما سلوك زميلتي، فهم يلجأون إلى تغطية دواخلهم بقطعة قماش، واضحة أو افتراضية، لا يهم، يفعلون هذا للتحايل على مدّ من المشاعر المخيفة التي تقوّض لحظات السكينة في نفوسهم. وهم قد لا يدركون هذا الأمر بالضرورة في مجال وعيهم، بل يتصرفون على وفق ما تمليه عليهم المواقف والظروف بصورة لا إرادية.
في الآونة الأخيرة، انتشرت بكثرة الملابس المزودة بقبعة أو قطعة قماش موصولة مع القميص كغطاء للرأس (هوديز)، وخاصة القطع العلوية من معاطف وكنزات خفيفة وبيجامات وملابس رياضية عموما. ويتم تنسيق هذه القطع غالبا لهدف تجميلي بجعلها متدلية على الكتف، مع استثناءات قليلة لارتدائها في الطقس الممطر أو اتقاء لأشعة الشمس المباشرة في أيام الصيف، إلا أن الأولاد والبنات خاصة في عمر المراهقة أو الشباب المبكر أصبحوا يرتدونها بصورة متواصلة حتى وهم في الشارع أو الباص، أو هم جالسون في المنزل، يقرأون، يذاكرون دروسهم، يأكلون أو منشغلون بألعابهم الإلكترونية وتصفح أجهزة الكمبيوتر. ومن المرجح أن تكون هذه الصرعة محاولة أخرى لـ”الاختباء”، يمارسها صغار السن للهروب من مشاعر باتت تحاصرهم في يقظتهم ومنامهم، وهم يمارسون حقهم في الهرب منها على طريقتهم الخاصة وعندما يكونون منشغلين داخل عالمهم التقني الخاص، يتصفحون الصور والأخبار ويدردشون مع أصدقاء حقيقيين أو افتراضيين ويقطعون مدن العالم طولا وعرضا هربا من واقع لا يعنيهم وربما بحثا عن فرصة للنجاة منه.
نستخدم جميعنا هذه التقنية النفسية، فنختبئ خلف لوحة مفاتيح أجهزة الكمبيوتر، خلف صورنا الشخصية في تطبيقات الهواتف النقالة، خلف نظاراتنا الشمسية وابتساماتنا المزيفة، وبعضنا يحكم كثيرا أزرار المعطف ليتقي البرد في الشوارع الغريبة، برد الوحدة وليالي الشتاء الموحشة.