استحواذ على ملكيتنا الفكرية

الذكاء الاصطناعي في طريقه أن يتحول إلى نوع من "الشنتو" كديانة بشرية تبدو في مفاهيمها السائدة مفيدة وتتقدم مع الإنسان، لكنها في حقيقتها "وعد زائف".
الاثنين 2025/03/03
كيت موس: الذكاء الاصطناعي يقوض الاقتصاد

عندما استضافت غرفة التحرير في صحيفة فايننشيال تايمز إنسانا آليا على الغداء عام 2016 من أجل تجربة قدرته على مساعدة المحررين في إنجاز أسرع للقصص الإخبارية، لم يتناول هذا الروبوت حبة بازلاء واحدة، لكن السؤال الذي أطلق في حضرته “هل نحن حقا على استعداد للعيش مع الروبوتات” فقد أهميته منذ ذلك الوقت عندما تحولت هذه الكائنات التكنولوجية إلى ذكاء اصطناعي يزيحنا عن مكاتبنا وينتج صحيفة يومية متكاملة، والأكثر من ذلك بات اليوم يهدد الملكية الفكرية للمنتج الإبداعي، شعريا كان أم روائيا!

أتذكّر أن أندرو هيل أحد أبرع صحافيي الجريدة الوردية تحدى الإنسان الآلي على الغداء عما إذا كان هو ومبرمجو شركته قادرين على تحقيق المستوى الإنساني من الحكمة.

وتحدث هيل عن نفسه آنذاك بقوله “قضيت ثلاث سنوات في بناء الثقة والمهارات متدربا عن طريق تحليل الأخبار عن أرباح الشركات. هذا هو بالضبط نوع التقارير الذي تقوم أسوشيتد برس بإنتاجه الآن تلقائيا، في شراكة مع شركة تدعى البصائر الآلية، على نحو مشؤوم بالنسبة لجميع الصحافيين.”

وأقترح أن يؤتى بأذكى إنسان آلي ليرى بعدها إن كان ما تنتجه تكنولوجيا “البصائر الآلية” يرقى إلى ما كتبه في تحليل الأخبار.

وصلنا حينها إلى نوع من اتفاق الرأي -إلى حد ما- بأن لا يكون الإنسان الآلي صحافيا إلا بحدود لا يمكن تخطيها، لأنه في كل الأحوال يستحيل عليه التعامل مع اللغة بوصفها كائنا حيّا ينمو ويتغيّر، وإعادة تشكيل العلائق بين الكلمات لا تتمّ ببرمجة آلية من أجل اكتشاف العمق الكامن فيها.

بيد أن “شات جي.بي.تي” كسر مثل هذا الاتفاق وتسربت الشكوك إلى ثقة أندرو هيل بنفسه كصحافي متميز، حتى وصلنا اليوم إلى مطالبة كبار الكتّاب بضرورة وقف اعتداء الذكاء الاصطناعي على ملكيتهم الفكرية، عندما شددت الروائية البريطانية كيت موس على ضرورة ألا يتحمل الكتاب وحدهم عبء المواجهة من الشركات التي تسرق أعمالهم من دون تحرك الحكومات لإصدار القوانين.

وتقول إن روايتها “المتاهة” مثلا استغرقت منها أكثر من عقد من البحث والتخطيط والكتابة. فترجمت إلى 38 لغة في احتفاء يليق ويكافئ الجهد الإبداعي الذي بذلته في التفكير والكتابة. وكان نجاح رواية موس العالمي سببا جعلها تتخلى عن وظيفتها اليومية لتصبح كاتبة متفرغة لابتكار نصها الإبداعي باطمئنان مجز.

وهي تطالبنا اليوم مشاركتها التخيّل حين نكتشف أن تلك الأعوام الخمس عشرة من الأحلام والبحث والتخطيط والكتابة وإعادة الكتابة والتحرير وزيارة المكتبات والأرشيفات وترجمة النصوص وتعقب الوثائق الأصلية القديمة للخروج بنهاية مقنعة في “المتاهة”، لا قيمة لها، بمجرد أن يقوم الذكاء الاصطناعي في كتابة رواية مماثلة من دون أجر وبوقت أقصر!

أليست تلك سرقة واستحواذا على الجهد الإبداعي للكاتب؟

مع ذلك فهذه الروائية التي أسهمت في إنشاء “جائزة المرأة للرواية” كإحدى أهم الجوائز الأدبية التي تمنح للكاتبات في بريطانيا متحمسة للذكاء الاصطناعي وإمكانياته. باستخدام التكنولوجيا لتعزيز وتطوير وتجربة وإبداع شيء ما يشكل جزءا من مجموعة أدوات أي فنان.

وتقول “نحن بحاجة إلى الوقت للإبداع، ومن المحتمل أن يمنحنا الذكاء الاصطناعي مساحة للتنفس للقيام بالأشياء التي نحبها. لكن سرقة الملكية الفكرية هي اعتداء على الإبداع وحقوق النشر، وسوف تقوض الاقتصاد الإبداعي الرائد على مستوى العالم. لقد حان الوقت للتجمع معا والعمل من أجل ضمان حقوق الملكية الإبداعية في مواجهة هذا الغزو.”

لقد نشرت جمعية المؤلفين البريطانيين تقريرا صادما بعنوان “عالم جديد شجاع؟” ألقى قنبلة يدوية على المناقشة أحادية الجانب حول النهب غير القانوني لأعمال المؤلفين والمفاهيم الخاطئة المحيطة باقتباس الذكاء الاصطناعي لمنتجاتهم من دون ترخيص مسبق.

وطالبت الجمعية بضمان قيام مطوري الذكاء الاصطناعي بتزويد أصحاب الحقوق من المؤلفين بمزيد من الوضوح حول كيفية استخدام موادهم. وألا يتم اقتباس أعمالهم بشكل أو بأخر من قبل الذكاء الاصطناعي باسم “التقدم التكنولوجي” أو للتدريب على الذكاء الاصطناعي.

إن شركات الذكاء الاصطناعي تصور المبدعين على أنهم ضد التغيير. ولكنهم ليسوا كذلك عندما يستعينون بهذا الذكاء لتطوير مهاراتهم الإبداعية، ولا يمكن أن يقفوا مثلا أمام هذه التكنولوجيا التي تعمل بشكل رائع في التشخيص الطبي، لكن من الضروري التمييز بين الذكاء الاصطناعي الذي يمكن استخدامه بطرق مفيدة ونماذج الذكاء الاصطناعي التي تتم فيها سرقة أعمال المبدعين لتحقيق الأرباح للشركات.

ولا ينبغي هنا أن ننسى أن شركات الذكاء الاصطناعي تعتمد على المبدعين لبناء نماذجها. ودون قانون قوي لحقوق النشر يضمن للمبدعين القدرة على الاستمرار في الحياة والكتابة سوف تفتقر شركات الذكاء الاصطناعي إلى المواد عالية الجودة التي تشكل ضرورة أساسية لنموها في المستقبل.

مع ذلك تبقى ثمة مفارقة، فحتى مع انتشار الذكاء الاصطناعي في حياتنا، تظل مشاعر العداء مرتفعة للغاية. بسبب خروقات “أمن البيانات” و”انتشار المعلومات المضللة” و”التشريد الوظيفي.”

في يوم ما شبه أوسامو تيزوكا أحد أهم مطوري الرسوم المتحركة اليابانية المعروفة باسم “الأنمي” الروبوتات، بديانة “الشنتو” التي لا تضع حدودا صارمة بين الأشياء الحية وغير الحية.

لاحظ تيزوكا أن “اليابانيين لا يميزون بين الإنسان، المخلوق المتفوق، والعالم من حوله. فنحن نتقبل الروبوتات بسهولة إلى جانب العالم الواسع من حولنا، الحشرات والصخور… وكأن كل هذا شيء واحد.”

ومع أنه يصعب وصف الديانة “الشنتوية” التي لا يعرف لها مؤسس ولا معتقد تقوم عليه عكس الديانات السماوية الأخرى. إلا أن الذكاء الاصطناعي في طريقه أن يتحول إلى نوع من “الشنتو” كديانة بشرية تبدو في مفاهيمها السائدة مفيدة وتتقدم مع الإنسان بسرعة مذهلة، لكنها في حقيقتها تتحول إلى “وعد زائف” وفق عالم اللسانيات نعوم تشومسكي، عندما يحول الذكاء الاصطناعي، الإنسان إلى مجرد عقل خامل لا يعتمد إلا عليه، في وقت يقوم هذا الذكاء الاصطناعي بتحريض الإنسان نفسه على رفده بكمية ضخمة من المعلومات وتطويره بشكل مستمر ليتفوق عليه في كل شي ويجعله عاطلا عن العمل إلا من مهمة واحدة هي تطوير واستمرار عمل الذكاء الاصطناعي!

18