ارتهان التعليم في تونس لأجندة النقابات: صمت حكومي وشعبي

التلويح بمقاطعة الامتحانات يهدد بسنة بيضاء ويقود إلى غضب الشارع.
الأحد 2023/02/26
صمت غير مبرر

نقابة التعليم تراهن على عامل الوقت، وهي تمارس سياسة ذكية لتحمي نفسها من تبعات المواجهة مع الحكومة، من خلال تسويق بعض قياداتها  لدعمهم مسار الخامس والعشرين من يوليو.

تعيش تونس على وقع إضراب من نوع خاص في التعليم الابتدائي والثانوي، يقوم على منع تقديم أعداد الامتحانات إلى الإدارة، وهو ما يعني أن الدروس تتم بشكل عادي من دون أيّ هدف أو تقييم، ويمكن أن نصل في نهاية العام إلى سنة بيضاء، حيث لا تستطيع إدارات المدارس والمعاهد، ومن ثمة الوزارة، أن تعرف عدد الناجحين من الراسبين في الامتحانات، كما لا تعرف ترتيب التلاميذ، وهو أمر مهم في ما يتعلق بالمرور إلى التعليم النموذجي الخاص بالمتميزين.

إضراب صامت لكن نتائجه ستكون كارثية نهاية العام. والمفارقة أن الحكومة صامتة، والشارع التونسي صامت أيضا بانتظار أن يأتي الحل من تفاوض بين الوزارة والنقابات، وكل يلعب على عامل الوقت.

الحكومة تقول إن النقابات ستجد نفسها في مواجهة مع الأولياء خاصة أن الإضراب يشمل التعليم الابتدائي والثانوي وعدد التلاميذ فيه يتجاوز مليوني تلميذ، ما يجعل الغضب الشعبي واسعا. والنقابة بدورها تراهن على أن الحكومة ستتنازل وتقبل بشروطها خوفا من أن ينتهي الأمر إلى أزمة شعبية في قطاع حيوي.

النقابة تمارس سياسة ذكية لتحمي نفسها، فهي توحي من خلال تغريدات لبعض وجوهها بأنها من أنصار الرئيس قيس سعيد وأنها تدعم إجراءاته السابقة واللاحقة منذ 25 يوليو 2021، وهي تعتقد أن هذا سيحميها، ويحد من أوراق ضغط الوزارة عليها.

وضمن هذه الإستراتيجية، لا تلجأ النقابة إلى الإضراب المعلن، من خلال مقاطعة الدروس أو التظاهر في الشارع، حتى لا تلفت نظر الرئيس سعيد وتثير غضبه. وفي نفس الوقت تحمي نفسها وتحمي منتسبيها من خلال الالتزام بتقديم الدروس والسير في البرنامج المسطر من الوزارة حتى لا يكون لأحد عليها حجة، وحتى لا تمر الوزارة إلى الاقتطاع من رواتب المعلمين والأساتذة.

حجب الأعداد يتضرر منه التلاميذ بدرجة أولى والمربون سيجدون أنفسهم في معركة مع الأولياء

وأعلنت نقابة التعليم الثانوي، التي تقودها مجموعة سياسية موالية للرئيس سعيد، أنها ستستمر بحجب الأعداد عن الإدارة خلال الأشهر الثلاثة القادمة، مثلما فعلت خلال الأشهر الثلاثة الماضية (امتحانات كل ثلاثة أشهر)، ملوّحة بأشكال أخرى من التصعيد من بينها مقاطعة الامتحانات.

وأشار كاتب عام جامعة التعليم الثانوي الأسعد اليعقوبي إلى أن “إمكانية الذهاب في إجراءات نضالية داعمة لقرار حجب الأعداد، الذي أقرّته النقابة سابقاً، واردة، ومن بين هذه الإجراءات إمكانية عدم إجراء الامتحانات”.

من جهتها، نشرت النقابة العامة للتعليم الأساسي إعلاما للمدرسات والمدرسين بـ”الامتناع عن إعداد امتحانات الثلاثي الثاني ورفض إمداد أيّ جهة بوثائق لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالامتحانات”.

ومن الواضح أن النقابات تربح الوقت والنقاط على حساب الوزارة خاصة بعد تغيير الوزير وتعيين وزير جديد، وهو نقابي سابق قريب من الخط الذي يسيطر على النقابة حاليا.

وأيا كانت نوايا الوزير في حل الخلاف مع نقابة تعمل بدم بارد، فإنه سيجد نفسه محاصرا بالوقت وبموقف حكومي صارم بشأن رفض الزيادات في الوقت الحالي بسبب وضع المالية العمومية المرتبك وضرورة التزام تونس بالتقشف الذي تفرضه الإصلاحات الاقتصادية وشروط صندوق النقد لتمويل تلك الإصلاحات.

لكن النقابة تراهن على أن الحكومة ستضعف وتتنازل بعد أن تنازلت في يناير أمام إضراب قطاع النقل وتوصلت مع النقابات إلى حل. وقالت الجامعة العامة للنقل وقتها إنه تم “إبرام اتفاق تاريخي”، وجرى الحديث عن زيادات كبيرة لفائدة العاملين بالقطاع، وهو ما تتخذه نقابات التعليم مبررا للمطالبة بالمعاملة بالمثل.

يمكن للوزير الجديد محمد علي البوغديري الذي لديه خبرة بالتفاوض وقرب من النقابات أن يستغل فترة ما قبل الامتحانات للتوصل إلى حل ولو مؤقت بين الحكومة والنقابات

مع مرور الوقت، لن تستمر “الحرب الباردة” بين نقابات التعليم والوزارة. ولا شك أن الحكومة ستتحرك إما بالاستجابة للمطالب أسوة بجماعة النقل، وهذا ما سيفتح الباب أمام تحرك نقابات جديدة للمطالبة بالزيادة، ونعود إلى مربع العشرية الماضية حين قبلت الحكومات المتتالية بأسلوب ليّ الذراع للحفاظ على بقائها، وإما بإعلان رفضها للمطالب ونقل الضغط إلى النقابة من خلال تحويلها إلى مواجهة بينها وبين الشارع.

وهناك دعوات للاستنجاد بالرئيس سعيد لحسم هذا الخلاف، وهذا ما بادرت به المنظمة التونسية للتربية والأسرة التي دعت رئيس الجمهورية إلى “التدخل السريع والعميق لوضع حدّ للأزمة ” التي تعيشها الساحة التربوية بتونس، تبعا لموقف الطرف النقابي القاضي بمواصلة حجب أعداد التلاميذ والتصعيد بعدم إجراء الامتحانات.

وقالت المنظمة، وهي تجمّع للأطراف المتدخلة في العملية التربوية، إن تواصل الأزمة التعليمية يعمّق نفور التلاميذ من المدرسة ويدفع إلى التوجّه نحو التعليم الخاص ويضرب بالتالي مبدأ العدالة الاجتماعية.

ولا شك أن هذه الأزمة ستأخذ بعدا آخر إذا مرت النقابة في تنفيذ تهديدها بمقاطعة امتحانات الثلاثي الثاني بالنسبة إلى التعليم الابتدائي أو الاستمرار في حجب الأعداد بالنسبة إلى التعليم الثانوي، وأن الخلاف سيجر الأولياء إلى التحرك للضغط على الحكومة لتقوم بدورها كجهة ضامنة لإنقاذ السنة الدراسية، وفي نفس الوقت، وهذا هو الخطير، أن يتحول الخلاف إلى توتر مباشر بين الأولياء والمعلمين والأساتذة في ساحات المدارس أو المعاهد، وما قد يتبعه من عنف وتهديد خاصة بعد أن تزايدت حوادث الاعتداء على المربيين والإداريين في السنوات الأخيرة.

ويمكن للوزير الجديد محمد علي البوغديري الذي لديه خبرة بالتفاوض وقرب من النقابات أن يستغل فترة ما قبل الامتحانات للتوصل إلى حل ولو مؤقت بين الحكومة والنقابات. فإذا كانت الحكومة لديها استعداد للاستجابة لمطالب النقابات المالية فلتتحرك من الآن، هذا الوقت ملائم لحل المشكلة، ولا معنى لتأجيل تدخلها إلى آخر السنة والتحرك فقط لإنقاذ الامتحانات الوطنية. ومثلما توصلت إلى حل في الجزء المتعلق بالملف المالي مع نقابات النقل يمكنها أن تفعل ذلك الآن وتؤجل نقاط الخلاف الأخرى.

Thumbnail

لكن إذا لم تكن لها النية أو القدرة لحل هذا الخلاف بتقديم التنازلات، فعليها أن تتحمل مسؤوليتها في إنقاذ الموسم الدراسي، فهذا واجبها.

أما بالنسبة إلى النقابة، فمن حقها أن تطالب أو تحتج أو تضرب، لكن ليس بهذا الأسلوب، فحجب الأعداد يتضرر منه التلاميذ والأولياء بدرجة أولى، والحكومة يمكن أن تدفع إلى التصعيد، وفي آخر العام قد تتخذ قرارا بإنجاح الجميع. وبالنسبة إلى الامتحانات الوطنية ستجد لها حلا بأيّ صيغة.

لكن المربين سيخسرون بدورهم، ليس بالاقتطاع من الرواتب، فتلك جزئية صغيرة، ولكن النقابة ستدفع بهم ليكونوا في مواجهة غضب الناس، وهو أمر قد يمسّ من حياتهم الخاصة في وضع يسهل فيه تحويل أي جهة إلى متهم يواجه بغضب الناس. ومن واجب النقابة ألا تقود منتسبيها وهم بعشرات الآلاف إلى مواجهة خاسرة.

ونأمل أن يتم التسريع بتشكيل المجلس الأعلى للتربية ليكون فضاء حقيقيا لملامسة مشاكل التعليم، وألا يكون هيكلا فوقيا يكتفي بإطلاق التصريحات الكبرى عن إصلاح التعليم، دون الخوض في الشروط الموضوعية التي قادت إلى تراجع المدرسة العمومية، ومن بينها الوضع الاجتماعي للمعلمين والأساتذة، وفهم خلفيات الدروس الخصوصية، وعدم ترك هذا المجلس للعبة تقاسم النفوذ بين الوزارة والنقابة مثلما حصل في لجان سابقة للإصلاح.

أولى شروط هذا الإصلاح النأي به عن التسييس من السلطة ومن النقابات وتوسيع دائرة المساهمين لتشمل الخبراء في مجال التربية.

6