اختفاء المجلات الثقافية خسارة فادحة للإنسانية

أعترف أني أدين بالكثير للمجلات الأدبية منذ بداية مسيرتي وحتى هذه الساعة.
والبداية كانت مع مجلة “الفكر” التونسية التي كان يديرها الراحل محمد مزالي والأديب البشير بن سلامة.
وقتها كنت في الخامسة عشرة من عمري. وكنت أدرس في حفوز بالوسط التونسي. وفي نهاية كل شهر كنت وصديق لي مغرم بالشعر نطلب من أستاذنا في اللغة العربية أن يقتنيها لنا من القيروان حيث يقيم. وكم كنّا نسعد ونفرح حين يأتي لنا بها لنقرأ فيها قصائد جعفر ماجد، وقصص البشير خريف البديعة، وبحوثا في الفكر والتاريخ، ودراسات نقدية تطلعنا على كل جديد في عالم الأدب في تونس الستينات.
وقد ازدادت سعادتنا بالمجلة لما فتحت صفحاتها للأدباء الشبان، خصوصا لمن كانوا ينتمون لتيار “في غير العمودي والحر” لنقرأ قصائد للطاهر الهمامي والحبيب الزناد، وقصصا تجريدية غامضة إذ أن موجة الرواية الجديدة في فرنسا كانت قد بدأت تؤثر في جلّ من كانوا ينتمون إلى حركة “الطليعة” التونسية، خصوصا عزالدين المدني وسمير العيادي ومحمود التونسي.
ولما انتقلت إلى تونس العاصمة، اكتشفت مجلات أخرى، فلم أعد أقبل بنفس الشغف على قراءة مجلة “الفكر”. وكانت مجلة “الآداب الأجنبية” السورية من بين المجلات التي كنت أحرص على اقتنائها. بفضلها اكتشفت أدباء وشعراء من جميع أنحاء العالم. وبفضلها أيضا قرأت للمرة الأولى ترجمة لرائعة تي.آس.إليوت “الأرض الخراب”. كما قرأت قصصا لأدباء من الولايات المتحدة الأميركية ومن بريطانيا ومن أيرلندا.
ومن خلال مجلة “الآداب” التي كان يشرف عليها الراحل سهيل إدريس، كنت أتابع الموجات الجديدة في مجال القصة والشعر والنقد وغير ذلك. وأذكر أن “الآداب” خصصت عددا ممتازا من أعدادها الشهرية للقصة في مختلف البلدان العربية لأكتشف قصاصين ممتازين من المغرب ومن مصر ومن العراق ومن لبنان ومن سوريا.
وعندما دخلت السجن في ربيع عام 1974 لأمكث فيه أربعة أشهر،
طلبت من أخي أن يأتيني بعدد “الآداب” المذكور لكي أعيد قراءة العديد من القصص أكثر من مرة، خصوصا قصة “ليلى والذئب” لغادة السمان.
ولم تكن “مجلة المجلة” التي كان يديرها الكاتب المصري البارز يحيى حقي تقل أهميّة بالنسبة إلي عن مجلة “الآداب”. فقد سمحت لي هي أيضا باكتشاف أدباء من جميع أنحاء العالم العربي. وكان صديقي خالد النجار الذي سافر إلى المشرق العربي وهو دون العشرين، يمدني بمجلة “شعر” التي فتحت لي نوافذ عريضة على آداب العالم شعرا ونثرا. ومازلت أحتفظ إلى حد اليوم بأعداد كثيرة من مجلة “الأقلام” العراقية. وبين وقت وآخر أعود إليها مدفوعا بالحنين إلى “الزمن الجميل”.
وفي الثمانينات من القرن الماضي، كنت أواظب على متابعة مجلة “مواقف” التي كان يديرها أدونيس، ومجلة “الكرمل” التي كان يديرها الشاعر الراحل محمود درويش. وفي غربتي في ألمانيا، كانت المجلتان المذكورتان تتيحان لي متابعة الجديد في الثقافة العربية مشرقا ومغربا.
وأما المجلة الأخرى التي رافقتني في غربتي فقد كانت مجلة “الناقد” التي كانت تصدر في لندن. بفضلها اكتشفت مفكرين وشعراء ونقادا لم أكن قد سمعت بهم من قبل. وكان المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم من بين هؤلاء. وما أظن أن هناك واحدا آخر تمكن من منافسته سواء في زمنه أو بعده في كتابة مقالات مكثفة وعميقة عن الفكر الأصولي الذي كان آنذاك قد بدأ في الانتشار في العالم العربي-الإسلامي انتشار النار في الهشيم.
وكانت “المجلة الأدبية” الفرنسية التي تصدر كل شهر، تتيح لي هي أيضا التعرف لا على الأدب الفرنسي فقط، بل على جميع آداب العلم. ومن أهم مميزاتها أنها كانت تخصص في كل عدد من أعدادها ملفا خاصا لكاتب أو لشاعر أو لفيلسوف أو لعالم اجتماع لا من فرنسا فقط، بل من جميع أنحاء العالم. ولا تزال هذه المجلة تصدر إلى حد هذه الساعة إلاّ أنني لم أعد أقبل على اقتنائها مثلما كان الحال في السابق لأن الملفات التي تقدمها باتت مبتورة ومختصرة وسطحية في غالب الأحيان.
وأما المجلة التي أوجعني اختفاؤها حقا فهي “الآداب العالمية” التي ظهرت في الثمانينات من القرن الماضي. فقد كانت هذه المجلة تنشر في كل عدد من أعدادها نصوصا شعرية وقصصية ونقدية وفلسفية لكبار المبدعين في العالم، خصوصا أولئك الذين كانت تطاردهم الأنظمة وأجهزة الرقابة في بلدانهم.
الآن اختفت جل المجلات التي رافقتني في “الزمن الجميل”. ولا زلت أحتفظ بالكثير من أعدادها، وإليها أعود دائما كمن يعود إلى المنبع الأول للمعرفة. وفي كل عودة إليها أشعر أن اختفاءها خسارة كبيرة للإنسانية برمتها. وأظن أن المجلات الرصينة والرفيعة لم يعد لها مكان في عالم اليوم. لذلك هي تختفي الواحدة بعد الأخرى تاركة فراغا ما أظن أن المجلات الجديدة قادرة على ملئه.