احتفاء الجزائريين بأبطال الأولمبياد رسالة إلى صناع الفشل

أظهرت الاحتفالات الشعبية التي نظمها الجزائريون لأبطالهم المتوجين في أولمبياد باريس 2024 انفجارًا للأفراح وشغفًا بالانتصار، في رد فعل على انتكاسات السياسة والاقتصاد والاجتماع. فقد كان عدد محدود جدًا من الميداليات كفيلاً بإخراجهم إلى الشوارع والساحات والمطار لاستقبال هؤلاء الأبطال والاحتفال بإنجازاتهم.
وهذه من المرات النادرة في العقدين الأخيرين التي يحتشد فيها الجزائريون ويخرجون شحنات الفرح والغبطة المكبوتة، والتي فقدوها بسبب تراكمات الفشل في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليؤكدوا للداخل والخارج أنهم كغيرهم من الشعوب يتوقون إلى الحياة الأفضل والمناخات الإيجابية، بعيدًا عن أجواء الصراعات والأزمات المركبة.
في ذروة الأزمة الأمنية والسياسية في تسعينات القرن الماضي كان الملايين من الجزائريين يبحثون عن النجاة من همجية الحرب الأهلية، وبعدما فقدوا آنذاك كل شيء يصنع الشعور بالأمل والفرح لم يبقَ لهم إلا متابعة أخبار وإنجازات العداءين البطلين نورالدين مرسلي وحسيبة بولمرقة، لأنهما الوحيدان اللذان رفعا اسم الجزائر الجريحة آنذاك في المحافل الرياضية الدولية.
◄ للرغبة في العيش الرغيد السعيد، وكسر سلسلة الانكسارات والهزائم، آليات ناعمة وأخرى خشنة، لكن الهدف واحد هو الرغبة في تغيير الأحزان واليأس إلى الفرح والسعادة
ولأن النكسة شملت كل القطاعات، فإن القطاع الوحيد الذي بقي قادرًا على إخراج شحنات السعادة هو الرياضة؛ فعلى الرغم من مرضها وتغلغل الفساد في أوصالها استطاعت توجيه أنظارهم إلى ما تبقى منها، ككرة القدم، فقد احتفوا أيما احتفاء بمنتخبهم في مونديالي 2010 و2014، وحزنوا حزنًا شديدًا في مونديال 2022.
وبمقارنة بسيطة بين حصيلة الجزائر وحصيلة الأمم الكبرى في أولمبياد باريس، يظهر أنه لا مجال للمقارنة، لكن حجم الابتهاج والغبطة كان أعلى بكثير لدى الأولى، بينما اقترب لدى الثانية من خانة “العادي”، والفارق هنا أن شعوب الأمم المتطورة يتوزع فرحها يوميًا على مختلف المجالات، والرياضة هي جزء من كل، بينما يتمسك الجزائريون والعرب عمومًا بأي قشة نادرة تثير سعادتهم ليفرغوا عليها كل مشاعرهم وأحاسيسهم.
من أصعب وأعقد الحالات النفسية أن يعم الحزن والانقباض ليشملا فئات عريضة من المجتمع، وليس أفرادًا أو مجموعات محدودة، فهموم الحياة اليومية وخطاب وممارسات اليأس طالت عموم الجزائريين بسبب صراعات الساسة واللوبيات والمصالح وفشل المؤسسات الرسمية المتعاقبة، إلى درجة دخول “طريق القوارب” كمصطلح جديد بين العامة للتعبير عن مسالك الفارين من وطنهم.
لكن شعور الحزن واليأس لا يمكن أن يصمد أمام أي بارقة أمل أو نصر رمزي، ليخرج مكنون الفخر والابتهاج لدى شعب أثبت أنه قنوع ومسالم، ويتربص بأي فرصة ليعبر عن توقه إلى الحياة الإيجابية وواقع الكرامة والاحترام من طرف حكامه ومسؤوليه، خاصة وأن العالم صار قرية صغيرة لا مجال فيه لإخفاء مظاهر السعادة والابتهاج.
لقد لامس رئيس الوزراء السابق المسجون عبدالمالك سلال الحقيقةَ في أحد تصريحاته، في تعليق له على ظاهرة الهجرة السرية، بأن “شبابنا لا ينقصه المال أو العمل.. يريد أن يعيش حياته”، نعم ليس الشباب فقط بل الجزائريون كلهم يريدون أن يعيشوا الحياة التي يحلمون بها والتي يرونها في مشارق الأرض ومغاربها، بعيدًا عن منغصات الخطاب السياسي الخشبي، والواقع الاقتصادي المتهرئ، والنمط الاجتماعي المنغلق.
أزمات متراكمة وفشل مزمن سرقا الفرحة من الجزائريين، ولذلك لما توجت كيليا نمور وإيمان خليف وجمال سجاتي في باريس خرج الكل يحتفل في الجزائر وخارجها، وجرت النزالات بشبابيك مغلقة ورفعت الرايات والأناشيد برمزيتها في باريس ومختلف المدن الفرنسية.
◄ الاحتفالات الشعبية التي نظمها الجزائريون لأبطالهم المتوجين في أولمبياد باريس 2024 أظهرت انفجارًا للأفراح وشغفًا بالانتصار، في رد فعل على انتكاسات السياسة والاقتصاد والاجتماع
ولأنه شعب مهووس بالنصر، يكفيه أدنى استفزاز ليلتف حول أبطاله كي يعوض ركام الهزائم، فقد خرج خرجة رجل واحد في مونديال 2010 بعد التأهل المثير للجدل والأزمة على حساب المنتخب المصري، وبنفس الموقف التف في 2024 حول الملاكمة إيمان خليف، لما شعر بتآمر جهات وقوى معادية على بطلته، فباتت باريس وصالة “رولان غاروس” تهتفان بحياة إيمان.
والذي يعرف هذا الشعب ينصح منافسيه بعدم استفزازه، لأن حب النصر عقيدته، وكان بإمكان مشاركة خليف أن تمر مرور الكرام، لولا الحملة الاستفزازية التي دخلت أروقة مجلس الأمن الدولي، وهو ما حول الملاكمة إلى لبؤة على الحلبة والجالية إلى صوت واحد يهز الصالة الباريسية، نكاية في كل من أراد السوء بابنتها البطلة.
نزعة حب الحياة الأفضل هي التي حركت الجزائريين كرجل واحد للتمرد على الاستعمار الفرنسي، والقيام بثورة مسلحة يشهد لها القاصي والداني، ونفس الشعور والأمنية فجرا الشارع في أكتوبر 1988، وهما اللذان بلورا الحراك الشعبي في 2019. وكما احتفى الشعب بأبطال أولمبياد باريس، ليؤكد شغفه بالسعادة والفرح، عبر عن نفس الشعور في المحطات المذكورة، حتى وإن اختلفت الطرق والوسائل.
للرغبة في العيش الرغيد السعيد، وكسر سلسلة الانكسارات والهزائم، آليات ناعمة وأخرى خشنة، لكن الهدف واحد هو الرغبة في تغيير الأحزان واليأس إلى الفرح والسعادة، فهو شعب كغيره من الشعوب يطمح للأفضل والأرقى، وإذ عبر بليونة مع أبطال الأولمبياد وقبلهم منتخب الكرة، فيعبر أيضًا بخشونة لما يحاصره الفشل واليأس، وتلك خصلته عبر العصور.