اتفاق الهجرة مع أوروبا ليس هدفا.. المهم النتائج

الأوروبيون متحمسون لتوقيع اتفاق الهجرة مع تونس في أقرب وقت، قد يكون ذلك غدا الاثنين، لكن الرئيس قيس سعيد مازال يدرس مسودة الاتفاق ويريد منه أن يكون مستجيبا لمطالب تونس من الشراكة الجديدة بعيدا عن التأويلات السلبية التي يرددها البعض بشأن التوطين. قيس سعيد يبحث عن الحلول بعيدا عن الاستعراض السياسي والإعلامي.
يبدي الأوروبيون تحمّسا كبيرا لإبرام اتفاق مع تونس تنهض فيه بدور أكبر في مواجهة تدفقات المهاجرين التي لا تتوقف عبر البلاد باتجاه أوروبا. لكن تونس لا تبدي التّحمس نفسه، رغم أنه في الظاهر مكسب سياسي مهم للرئيس قيس سعيد، ولتونس التي صارت وجهة كبار المسؤولين الأوروبيين ومحور تصريحاتهم خلال الأسابيع الماضية.
تقول مصادر من داخل الاتحاد الأوروبي إن تونس طلبت المزيد من الوقت لدراسة مسودة الاتفاق. واضح أن الرئيس التونسي لا تهمه الحفاوة السياسية ولا تصريحات الدعم والمساندة، ولكن يهمه محتوى الاتفاق وما سيجلبه لتونس من مزايا قياسا بما سيحصل عليه الأوروبيون، أي أن يكون اتفاقا متوازنا ومتكافئا لا يتم تمرير مصالح الآخرين عبره من خلال صيغ مبهمة يمكن تأويلها لاحقا بما يتناقض مع الموقف التونسي المعلن.
والأمر نفسه يتم من خلاله التعامل مع الاتفاق الذي يعرضه صندوق النقد الدولي على تونس، فليس مهما الرقم المالي المعروض، وإنما المهم تأثيراته على المديين المتوسط والبعيد.
لقد أوصل الرئيس التونسي إلى الأوروبيين وصندوق النقد رسالة واضحة مفادها أنه من الضروري دراسة ما يتقدمون به للتوصل إلى حل وألا تكون الزيارات والتصريحات جزءا من حلقة سياسية مفرغة لا تقود إلى نتائج ملموسة.
لا ينظر الرئيس قيس سعيد إلى إنجاز اتفاق مع أوروبا يخصّ الهجرة على أنه مكسب في حد ذاته، وهو يريد الحصول على مواقف واضحة بشأن صيغ الدعم التي ينوي الاتحاد الأوروبي تقديمها بعيدا عن التصريحات المتفائلة ومحاولات استعجال التوصل إلى اتفاق وكأنه حل سحري لمشكلة معقدة عجزت حكومات كثيرة عن إدارتها بشكل منفرد أو عبر قوانين وقرارات من جانب واحد.
كما أن الرئيس سعيد لا يولي الوعود والتصريحات التي تشيد به أو بحكومته اهتمامًا بالغا، ويريد أن يرى حلولا عملية تصب في مصلحة تونس بشكل واضح وفعّال، من دون أن تتخلى عن واجبها في مواجهة تدفقات اللاجئين غير النظاميين، التي زادت الأعباء الملقاة على عاتقها.
هي قضية عابرة للدول وتحتاج إلى قرارات وتوافقات عابرة للدول لمواجهتها، وليس الاتفاق السياسي سوى الصورة الأخيرة التي تعكس مقاربات فعالة وبعيدة المدى لمواجهة الأزمة، هذا إذا كان الهدف منه التوصل إلى حل على المدى البعيد.
هذا وجه الخلاف بين الرئيس التونسي ونظرائه الأوروبيين، هو يريد حلولا تعالج مشكلة الهجرة في دول الانطلاق، وهم يريدون اتفاقا أمنيا لمنع وصول المهاجرين من تونس إلى أوروبا، وهي مقاربة لا تمتلك مقومات النجاح لأن تونس ستحول كل جهودها إلى مهمة مقاومة الهجرة غير النظامية وتترك الاهتمام بقضاياها الأخرى.
وبدلا من تطوير الاقتصاد وجلب الاستثمارات وتحسين الخدمات يصبح شعار الحكومة التونسية بناء منظومة أمنية قوية للتصدي لموجات اللاجئين. ولن تقدر على ذلك ولو حرصت، لأن القضية في أصلها ليست أمنية، وأعداد اللاجئين ستتكاثر وتتضاعف مرات ومرات، حتى لو نهضت تونس وليبيا والجزائر والمغرب ومصر بأدوار كبير في منع مرور اللاجئين بأراضيها.
والجدير بالذكر أن تريث تونس في توقيع الاتفاق، والتركيز على تدقيق بنوده وتأويلاتها، يظهران أن الخلاف يتعلق بالتفاصيل وليس بالمبدأ، أي أنه لا حديث عن توطين لاجئين أفارقة في تونس كما يذهب إلى ذلك الكثير من التونسيين ضمن مصادرة مسبقة.
هل يمكن أن يقبل عاقل فكرة أن تونس ستغامر، بإرادتها أو تحت الضغط، بتوطين عشرات الآلاف من سكان جنوب الصحراء لتزيد الأعباء على أعبائها المحلية وتعقيدات أوضاعها؟
◙ التريث التونسي يبعث إلى الأوروبيين رسالة واضحة مفادها ضرورة دراسة ما يتقدمون به للتوصل إلى حل
تسعى تونس من خلال هذا التريث إلى تحسين شروط استفادتها من الدعم الأوروبي ضمن معادلة رابح – رابح؛ أوروبا ستربح وجود دولة متماسكة على حدودها الجنوبية تساعدها على تأمين حدودها وتنسق معها أمنيا في مجالات مختلفة، وتونس تربح دعما ماليا يساعدها على تخطي الصعوبات المالية والاقتصادية، كما يصبح لها صديق يدعم موقفها في مفاوضات صندوق النقد الدولي بشأن تجنب الشروط التي ترى أنها يمكن أن تؤثر على وضعها الداخلي، ويمكن أن تثير احتجاجات اجتماعية هي في غنى عنها.
وشراكة رابح – رابح أشار إليها بيان قمة الاتحاد الأوروبي الجمعة في بروكسل، والتي تبنت مسار الشراكة مع تونس على قاعدة تبادل المنافع.
ورحب المجلس الأوروبي في بيان له بـ”العمل المنجز بشأن حزمة شراكة شاملة متبادلة المنفعة مع تونس، تستند إلى ركائز التنمية الاقتصادية والاستثمار والتجارة، وانتقال الطاقة الخضراء، والهجرة والاتصالات بين الناس، ويدعم استئناف الحوار السياسي في إطار اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وتونس”.
وتحدث أحمد ونيس وزير الخارجية التونسي الأسبق في تعليقه على هذه الشراكة بالقول إن الأوروبيين والتونسيين يبحثون عن صيغة من التعاون تخدم الجميع، ووصفها بالشراكة المتكاملة المتكافئة والواعدة، مشيرا إلى أن التأويلات بشأن التوطين لا تستند إلى وقائع. وبمرور الوقت يتأكد أن الحوار التونسي – الأوروبي مبني على المقاربة التي أشار إليها قيس سعيد أكثر من مرة، وهي أن تونس ترفض أن تكون حارسا للحدود، وتطالب بمقاربة أشمل لمواجهة أزمة الهجرة.
وقال قيس سعيّد في يونيو المنقضي إن “تونس لن تقبل أبدا بأن تكون حارسة لحدود أي دولة أخرى (لم يذكرها) كما لن تقبل بتوطين المهاجرين في ترابها”.
وجدّد موقفه الذي يقضي “بضرورة اعتماد مقاربة جديدة بخصوص ظاهرة الهجرة غير النظامية تقوم على القضاء على الأسباب لا على محاولة معالجة النتائج”.
وكشفت التصريحات الأوروبية عن أن كلام قيس سعيد صحيح، ومبني على معطيات من داخل النقاش بين الطرفين، ولا يهدف إلى طمأنة شريحة واسعة من الشارع التونسي لا يرضيها العجب في رجب، وترى أن أي تقارب أو تعاون محكومان بنظرية المؤامرة.
اقرأ أيضا:
لم تشترط إيطاليا على تونس، مثلما جاء في تصريحات رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، مقابل ما تحصل عليه من دعم أن تمنع بشكل بات مرور أي لاجئ، فهذا أمر غير ممكن، ولا اشترطت عليها استعادة من عبروا الحدود البحرية التونسية نحو إيطاليا من تونسيين وأجانب.
المسار التفاوضي إلى حد الآن يقوم على زيادة الجهد وتحسين القدرات من أجل لعب دور أكثر فاعلية في صد القوارب غير القانونية.
من الضروري أن يفهم التونسيون وضعهم في هذه المعادلة، فهم ليسوا في وضع ضعيف وبلا أوراق، كما أنهم ليسوا في موقع من يتعالى على الدعم. منزلة بين المنزلتين تحتاجها تونس كما أوروبا للاستمرار في مسار الشراكة الذي توافقا حوله منذ سنوات ما قبل الثورة، ولكل طرف فيه حقوق وواجبات.
لا يمكن انتظار أن تتولى أوروبا إغراق تونس في الدعم والمساعدات والاستثمارات، هكذا مجانا من دون أن تؤدي تونس أدوارها في مقاربة الشراكة، ومن بين هذه الأدوار التحرك بالجدية والقوة اللازمتين للتصدي لقوارب الهجرة.
إن مرونة تونس في التعامل مع الأوروبيين مهمة من أجل تأمين الاتفاق، لكنها لا تعني تقديم التنازلات خاصة ما تعلق بالخطوط الحمراء التي يرسمها قيس سعيد منذ مدة.