اتفاقية تونس - الاتحاد الأوروبي.. كل أسباب النجاح متوفرة رغم العراقيل

الورقة الوحيدة التي لا يزال يرفعها الجميع ضد الجميع في تاريخ العالم الحديث والمعاصر هي “ورقة حقوق الإنسان” فكل جماعة تعزز حجتها ضد الطرف الآخر بالمزيد من الحديث عن التظلم والانتهاكات والاستبداد بالحكم.. وكل يدعّم رأيه، فـ”يا ليت شعري ما الصحيح؟”.
آخر وأشرس المعارك التي اكتست في ظاهرها شكلا حقوقيا، هي ما حصل على إثر مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي في الأيام الماضية، حول إرساء شراكة إستراتيجية شاملة في التنمية والطاقات المتجدّدة ومكافحة الهجرة غير النظامية، إذ تحركت، وبشكل متزامن، كل من منظمتي العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش لانتقاد الاتفاق باعتباره “تواطؤا” ضد المهاجرين وطالبي اللجوء من أفارقة جنوب الصحراء، على وجه الخصوص.
وساند هذا التحرك داخل تونس وخارجها، أفراد وجماعات مناوئة للرئيس قيس سعيد، قبيل أيام من الذكرى الثانية لحل البرلمان والحكومة التي كانت تسيطر عليها حركة النهضة الإسلامية بزعامة راشد الغنوشي الذي أودع السجن مع آخرين بتهمتي الفساد والتآمر على أمن البلاد.
◙ الأيادي المرتعشة لا تقوى على البناء، والجبناء لا يصنعون التاريخ، لذلك كانت – ولا تزال – الاتفاقيات التاريخية هي تلك التي يوقعها القادة الاستثنائيون الذين يفكرون في مستقبل شعوبهم
وهكذا انضوت حول “يافطة حقوقية مشتركة”، وتحت ذرائع مختلفة إلى حد التناقض، جماعات ضغط أوروبية تريد الإبقاء على الجرح مفتوحا دون حلول حاسمة، وكذلك ساندتها جهات محلية تكن العداء لحكومة سعيد وتناصبه الثأر من حركة 25 يوليو 2021، تحت ذرائع إنسانية من بينها أن الاتحاد الأوروبي يقبل عبر اتفاقيته مع تونس بـ”تزايد حركة القمع سامحا للسلطات التونسية بترك المئات من الأشخاص، من بينهم أطفال، عالقين على الحدود الصحراوية التونسية، دون ماء أو طعام أو مأوى”.
لم يعد مستغربا أن تلتقي أصوات تحسب على معارضة ما بعد 25 يوليو 2021، في تونس، بأصوات أوروبية متشددة تناصب العداء لمشروع سعيد الإصلاحي، فهذه ألفة الحامدي رئيسة ما يعرف بـ”حزب الجمهورية الثالثة” في تونس، تشبه الاتفاقية بتلك التي وقعت عام 1881 وتمكن على إثرها الانتداب الفرنسي من دخول تونس، وذاك ماتجاي نميك عضو البرلمان الأوروبي يقول إنه “لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يكون جزءًا من انهيار الديمقراطية التونسية على يد الرئيس قيس سعيد”.
ولو عدنا بشكل موضوعي إلى مذكرة التفاهم هذه التي وصفت بـ”التاريخية” من قبل مراقبين دوليين يتمتعون بقدر كبير من الحياد والموضوعية، لوجدنا أن السياسي فيها يتراجع لصالح كل ما هو اقتصادي وتنموي بشري يخدم شعوب المنطقة ولا يتنافى مع حقوق الإنسان أو يهين كرامة التونسيين في جعلهم حراسا على الحدود كما أكد الرئيس سعيد.
ربما تكون المآخذ الوحيدة على الاتفاق – كما تؤكد جماعات حقوقية – أنه قد تم التفاوض عليه من دون إسهام كامل للمجتمع المدني وغياب ضمانات حاسمة بشأن حقوق الإنسان. ولم يضم المؤتمر الصحفي الذي عقده قادة تونس والاتحاد الأوروبي عقب الاتفاق أي صحافيين.
هذه المآخذ يمكن مناقشتها وأخذها بالحسبان ومن ثم تداركها زيادة في الشفافية واحتراما للرأي العام، لكنها ليست بـ”الكارثية” إلى درجة وصفها بـ”الإذعان أو التنازل أو التفريط” كما يصر على ذلك المزايدون باسم حقوق الإنسان من أولئك الذين لا تهمهم معاناة الشعوب بقدر ما تهمهم مصالحهم والأجندات التي يقومون على خدمتها.
◙ لم يعد مستغربا أن تلتقي أصوات تحسب على معارضة ما بعد 25 يوليو 2021، في تونس، بأصوات أوروبية متشددة تناصب العداء لمشروع سعيد الإصلاحي
المتفرجون الجالسون على التلة ليسوا كأولئك الذين يمشون على الجمر داهسين عليه، والاقتصادات المنكوبة والأزمات والكوارث التي تستنزف بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط ينبغي أن تتوقف بفعل اتفاقيات جريئة وحاسمة وشجاعة، لكنها عادلة بالتأكيد، وإن اجترحت بعض الحلول الصعبة والقاسية أحيانا.
الأيادي المرتعشة لا تقوى على البناء، والجبناء لا يصنعون التاريخ، لذلك كانت – ولا تزال – الاتفاقيات التاريخية هي تلك التي يوقعها القادة الاستثنائيون الذين يفكرون في مستقبل شعوبهم بمعزل عن المصالح الظرفية الضيقة، وما يمكن أن يقول عنهم الناظرون أمام أنوفهم والمصطادون في المياه العكرة.
ولأن قدر تونس أن تكون بوابة مشرعة نحو أكثر من اتجاه، ومسرحا وقفت على خشبته أكثر من ثقافة وحضارة، فكان – ولا يزال – الأجدر بها أن تكون أرض لقاء وتفاهم واتفاق على سنّة الاختلاف الحميدة بين الشعوب.
وليس هناك أجل وأنبل من أن يستحضر الرئيس التونسي ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني في بهو قصر قرطاج الرئاسي المطل على المتوسط، وثيقة المعاهدة الأولى بين روما وقرطاج عام 508 قبل الميلاد، وهي معاهدة صداقة ومساعدة بين القوّتين الناشئتين من المتوسّط، وفيها تتجلى أعلى مظاهر التعاون المشترك والاحترام المتبادل بين الشعوب كما ذكر المؤرخ بوليبيوس.ولكنه، حتما – ولأسباب ما – لم يذكر المعارضين للاتفاقية، سواء كانوا في روما أو قرطاج.