اتفاقية أضنة.. أداة ضغط لا إطار تعاون

لم يكن الاستدعاء المفاجئ لاتفاقية أضنة من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائه بضيفه التركي سابقة في ملف التدخل التركي في سوريا، إذ سبق للأتراك الإشارة إلى هذه الاتفاقية عدة مرات خلال السنوات الماضية، كلما حاولوا إيجاد التبريرات لعمل عسكري في شمال سوريا.
وبالدرجة نفسها التي تفاخر بها الإعلام المؤيد للرئيس الروسي بنباهة قيادته السياسية وقدرتها على اكتشاف أدوات إبداعية لتسيير العلاقات الدولية ومهارتها في سحب السلاح من يد الخصم ووضعه على عنقه في الوقت الذي كان يلوّح به في الهواء استعراضا أمام مؤيديه وتخويفا لأعدائه، فإن مؤيدي النظام الحاكم في سوريا تفاخروا بقدرات من يؤيدون في استغلال أدوات اتفاقية مهملة للضغط على الخصم ودفعه إلى تغيير سلوكه السياسي، متغافلين عن حقيقة أن ما يتفاخرون به اليوم ما هو إلا اتفاقية إذعان وخنوع وقعت عليها قيادتهم “الممانِعة”، وتنازلت بموجبها عن أي مطالبات بأراض كانت تعتبر حتى ذلك الوقت جزءا من بلادهم، وأعطت لدولة معادية الحق في اقتحام حدودهم وشنّ الحروب داخلها والسيطرة عليها، ليجعلوا بذلك من عطاء الذليل انتصارا لعزيز يطالب عدوه باستئناف العلاقات معه.
وكانت اتفاقية أضنة التي وقعت في العام 1998 ثمرة لاستراتيجية تركية استمر العمل عليها طيلة التسعينات لإضعاف حزب العمال الكردستاني، وتضمنت إجراءات داخلية وخارجية كان منها الضغط على أهم داعمي الحزب وهو النظام الحاكم في سوريا، والذي أذعن للمطالب التركية بعد تهديده بالحرب وتدخل وساطات عديدة بين الطرفين.
والجزء الأهم من تلك الاتفاقية والذي يرى كل فريق فيه أداة مفيدة لنيل مراده هو الملحق الرابع الذي تضمن مادة وحيدة تقول “يفهم الجانب السوري أن إخفاقه في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية، المنصوص عليها في هذا الاتفاق، يعطي تركيا الحق في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كيلومتر”.
أردوغان حاول باستعادته لمضمون الاتفاقية الضغط على النظام السوري من جهة وروسيا من جهة أخرى، وهذا ما لم يفلح فيه كما يبدو
فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان شعر بأن هذه المادة تعطيه الحق في اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات داخل الحدود السورية دون قيد أو شرط، ونبّهه بوتين إلى أن هذه الاتفاقية ثنائية وتندرج في إطار العلاقات بين الطرفين وهي مقطوعة حاليا، في حين ركّز بشار الأسد على أن التزامه بالاتفاقية مندرج في إطار المعاملة بالمثل بعدم السماح بانطلاق أنشطة من داخل حدود سوريا موجهة لزعزعة الاستقرار في تركيا، والمقصود بها آنذاك نشاطات حزب العمال الكردستاني العسكرية والإعلامية والمالية واللوجستية، أي أن ذلك مرتبط بممارسة الحكومة التركية للأمر نفسه تجاه الأنشطة المنطلقة من داخل تركيا التي يرى النظام أنها مزعزعة للاستقرار في سوريا، ولذلك أعلن أن تركيا هي من خرقت الاتفاقية التي تريد اليوم تطبيق بنودها.
وبالإضافة إلى ذلك فإن النظام السوري يأمل من الإجراءات المنصوص عليها لتنفيذ الاتفاقية، والمتضمنة فتح خط اتصال بين الأجهزة الأمنية وتعيين مسؤولين أمنيين عن تنفيذها في البعثات الدبلوماسية في تركيا وسوريا، أن تُجبرَ تركيا على إعادة العلاقات الدبلوماسية المنقطعة منذ سنوات بإغلاق السفارات في البلدين، في الوقت الذي يخوض فيه النظام معركة إعادة العلاقات الدولية معطيا أهمية كبيرة للمنظمات والبعثات الدبلوماسية والزيارات الرسمية.
أردوغان لم يكن غافلا عن هذه الأمور ولا شك عندما لوّح باتفاقية أضنة، ولذلك فإنه سارع للإعلان عن وجود اتصالات بين حكومته وحكومة النظام السوري، هي كافية في نظره لاستئناف البنود الإجرائية في الاتفاقية أي التواصل بين أجهزة الاستخبارات، كما أن مسألة تبادل المسؤولين الأمنيين المشرفين على تنفيذه يمكن تحقيقها على أي مستوى من البعثات الدبلوماسية، ولا يشترط تمثيلا بمستوى سفارة.
ولكن ما يقف عثرة في وجهه هو ربط استحقاق تركيا باتخاذ ما تراه من الإجراءات الأمنية خلف حدودها بإخفاق النظام السوري في اتخاذ التدابير والإجراءات الأمنية التي تضمن تنفيذ بنود الاتفاقية، ما يفتح باب الخلاف حول الجهة التي تحدد نجاح النظام في تنفيذ ما بها أو لا، حيث ستفسّر تركيا هذا الأمر بمجرد وجود مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية لكونهم جزءا من حزب العمال الكردستاني داخل الحدود السورية وقيامهم بنشاطات معادية لتركيا أيا كانت.
هذه الأمور، كلها، دفعت الكثير من المحللين إلى الاعتقاد بأن كل الحديث عن اتفاقية أضنة لا يتعدى في الوقت الحالي كونه محاولة من الأطراف المختلفة لاستغلالها في الضغط على أطراف أخرى، إذ لا نية للمعنيين بها، وهما النظامان الحاكمان في تركيا وسوريا، الدخول في مشروع عمل مشترك في ظل الحرب الناشبة بينهما بالوكالة على أقل تقدير.
النظام السوري يأمل من الإجراءات المنصوص عليها لتنفيذ الاتفاقية، والمتضمنة فتح خط اتصال بين الأجهزة الأمنية وتعيين مسؤولين أمنيين عن تنفيذها في البعثات الدبلوماسية في تركيا وسوريا
وقد كان في نصيحة بوتين لقوات سوريا الديمقراطية بالتفاوض مع النظام بُعيْد تأكيده على سريان اتفاقية أضنة ما يشير إلى هذا الأمر بوضوح، أي تخييرها بين الرضوخ لشروط النظام ودخولها بالكلية في طاعته والتنازل عن كل ما نالته من مكتسبات خلال السنوات الماضية، أو توقع إعلان النظام، ومن ورائه روسيا، عجزه عن تنفيذ اتفاقية أضنة وفتح الباب بذلك أمام اجتياح الجيش التركي لمنطقة شرق الفرات بمدى يتجاوز الكيلومترات الخمسة التي حددتها الاتفاقية. كما كان في نصيحته لأردوغان بالتواصل مع النظام بهذا الخصوص ابتزاز له بإرضاء شريكه في الاتفاقية قبل التفكير في الاستفادة لوحده من ثمارها، وبهذه الأسلوب تصوّر النظام أيضا إعادة الحياة إلى الاتفاقية القديمة.
وقد كان المسؤولون الأتراك على علم مسبق بهذا التصور الروسي لتفعيل الاتفاقية، فقد شرح الجنرال إسماعيل حقي بكين، المشرف السابق على تنفيذ اتفاقية أضنة من الجانب التركي، تصور الروس بخصوص إنهاء وجود وحدات حماية الشعب بقوله “على تركيا الدخول من الشمال، في حين تقوم سوريا بالهجوم من الجنوب، وهكذا يتم تطهير المنطقة من الإرهابيين، وبعد فرض النظام تنسحب تركيا”، بحسب ما نقله أحد المواقع التركية.
أما أردوغان الذي حاول باستعادته لمضمون الاتفاقية الضغط على النظام السوري من جهة وروسيا من جهة أخرى، وهذا ما لم يفلح فيه كما يبدو، فقد أراد منه الضغط على الولايات المتحدة طلبا للاتفاق معه وتفصيل المنطقة الآمنة على حدود التصور التركي عن طريق التلويح باتفاق مع روسيا بهذا الخصوص، وهذا حسب بعض الصحافيين المؤيدين له.
وفي ظل هذا الجدال حول اتفاقية أضنة تبقى تصورات الأطراف المختلفة رهينة المنع الأميركي لأي تحرك تركي في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية من دون التنسيق معها، فإذا جرى هذا التحرك في ظل التواجد الأميركي فلن تكون لروسيا ونظام الأسد شروط يفرضانها على هذا التحرك أو مقابل يطلبانه لقاء الموافقة عليه، وإن تأخر حتى انتهاء الانسحاب الأميركي الذي لا يعلم موعده، فعندها يمكن إدخال اتفاقية أضنة ضمن قضايا الحل النهائي التي تزعم أطراف مباحثات أستانة أنها عاكفة على حلها.