اتحاد العمال الجزائريين: ذراع للسلطة أم شريك اجتماعي

أظهر الرجل الأول في أعرق التنظيمات النقابية الجزائرية عمار تاقجوت تفاعلًا مع دعوة الرئيس عبدالمجيد تبون لحوار وطني مفتوح، الأمر الذي يرشح المسعى للتوسع إلى فعاليات خافتة يمكن أن تعطي للحوار مسارًا أوسع بعيدًا عن التجاذبات السياسية. ولو أن الرجل أخطأ التقدير في رسالته الموجهة إلى الطبقة الشغيلة، لمّا تحدث عن أن “راحة البال أحسن من رفع الرواتب”، وهو ما قوبل بحملة استهجان تترجم الضرر الذي يطبع الجبهة الاجتماعية.
تعبير أمين عام الاتحاد العام للعمال الجزائريين عن استعداد تنظيمه للانخراط في مسعى الحوار الوطني المفتوح الذي وعد به الرئيس عبدالمجيد تبون، خلال خطاب القسم الدستوري لمباشرة مهامه في السنوات الخمس المقبلة، يعكس اهتمام وعاء كبير من الجزائريين بالمساهمة في خارطة الطريق المقبلة، شأنه في ذلك شأن الطبقة الحزبية والنقابية والجمعوية والتنظيمات المختلفة.
◄ المجتمع العمالي أنهكته الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنتهجة من طرف الحكومات المتعاقبة، ولم يجد أمامه النخبة النقابية التي توصل صوته أو تضغط على السلطات العمومية
منذ اضطلاعه بدوره المدافع عن مطالب وانشغالات الطبقة الشغيلة في خمسينات القرن الماضي ضد الإدارة الاستعمارية الفرنسية، أو أمام حكومات الاستقلال بداية من مطلع الستينات، تباينت أدوار التنظيم النقابي ومهامه، بين ذراع أيديولوجية للسلطة وبين شريك اجتماعي لها. لكن شأنه شأن التركة الموروثة عن الحقبة الأحادية، تعرض الاتحاد لهزات تنظيمية ونزيف بشري في ظل التعددية التي جاء بها التحول الدستوري لعام 1989.
قيادة الاتحاد العام للعمال الجزائريين من الصعب عليها تذكر آخر إضراب أو احتجاج عمالي تبنته، بعد أن تنصلت من مواكبة مطالب الطبقة الشغيلة وتطلعاتها، رغم الظروف الاستثنائية التي تمر بها الجبهة الاجتماعية خاصة في السنوات الأخيرة. عكفت منذ أشهر على مد جسور التواصل مع السلطة، فتماهت مع التوجهات الاقتصادية والاجتماعية المنتهجة، وعبّرت عن استعدادها للمشاركة في الاستحقاقات القادمة.
ومنذ المؤتمر الذي جاء بالقيادي المخضرم عمار تاقجوت لم يخضع الاتحاد لأيّ اختبار حقيقي يبرهن على قدرته على حشد الوعاء العمالي وإحراج الحكومة بالتنازل نسبيًا عن خياراتها وبرامجها، واكتفى برسائل عرض الخدمات على السلطة، بداية من العودة إلى تقليد “الثلاثيات” التي كانت تنعقد سنويًا بين الشريك الاجتماعي والحكومة وأرباب العمل، إلى الرغبة في المشاركة في الحوار الوطني المنتظر.
التنظيم بطابعه المطلبي يبقى يمثل قوة ناعمة في توجيه بعض الخيارات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، وهو ما يشكل متنفسًا إضافيًا للسلطة أمام ضغط الطبقة السياسية والحزبية، كما يعتبر فرصة للمزايدة بما أن المجتمع يضم فاعليات مختلفة يتوجب الأخذ بأفكارها وتصوراتها، وأن الأمر لا ينحصر على التنازل للقوى السياسية فقط.
◄ الرجل الأول في أعرق التنظيمات النقابية الجزائرية عمار تاقجوت أظهر تفاعلًا مع دعوة الرئيس عبدالمجيد تبون لحوار وطني مفتوح،
الاتحاد العام للعمال الجزائريين، الذي فقد المبادرة والتأثير في الطبقة العمالية منذ عدة عقود بسبب ارتمائه في أحضان السلطة، فبعد حشر نفسه في حلف القوى الجمهورية التي ضغطت على الجيش لإبطال انتخابات التسعينات، وجد نفسه يؤدي دور الذراع الاجتماعية للسلطة، الأمر الذي كلفه هشاشة كهشاشة القوى الموالية للسلطة، وفقد تأثيره في المجتمع العمالي لصالح نقابات مستقلة أثبتت في أكثر من مرة قدرتها على الحشد والتعبئة.
وهي نقطة ضعف تعرفها السلطة جيدًا، وتوظفها في تطويع وإدارة أذرعها المختلفة حسب الحاجة والهدف، ومن استعصى عليها تثير ضده حركات تصحيحية تطيح بالمتنطعين وتأتي بوجوه أخرى أكثر ولاء لها، كما حدث مع التنظيم نفسه، ومع أحزاب وتنظيمات أخرى، كجبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي وحركة مجتمع السلم.. وغيرها.
لا يمكن لتلك القوى والاتحاد العام للعمال الجزائريين واحد منها، أن يغرد خارج سرب السلطة، فتوزيع الأدوار والمصالح والمزايا والمكاسب تتحرك دائمًا بإيعاز خفي، ولذلك يستحيل رؤية جبهة التحرير الوطني أو التجمع الوطني وغيرهما من الطحالب الحزبية خارج دائرة السلطة، لأن وجودها بات مربوطًا بها وليس ببرامجها وقواعدها الشعبية.
ومع ذلك يبقى الاتحاد العام للعمال الجزائريين، والفاعليات الأخرى، تمثل أصواتًا محايدة داخل المجموعة الوطنية، ويمكن أن تستمع إليه السلطة وحتى الشركاء الآخرون، لما يمثلونه من مسار ثالث بين الطرفين التقليديين (السلطة والمعارضة)، الأمر الذي يشكل نقطة توازن تغني السلطة عن تقديم التنازلات المؤلمة، بما أن الطرف المذكور موجود ويؤدي دوره على ما يرام.
◄ الاتحاد تعرض لهزات تنظيمية ونزيف بشري في ظل التعددية التي جاء بها التحول الدستوري لعام 1989
يمكن لقيادة الاتحاد التي أشادت في وقت سابق بحزمة الإجراءات الاجتماعية، مثل منحة البطالة ورفع الرواتب والمعاشات، أن تكون قوة اقتراح داخل الحوار الوطني المقترح، لكن لن تكون ممثلًا حقيقيًا لأفكار الطبقة الشغيلة وتصوراتها، فالفجوة عميقة بينها وبين قواعدها العمالية، شأنها في ذلك شأن الأحزاب التي تتودد للسلطة في الاستحقاقات وتكتفي في الغالب بقوافل الانتهازيين والذباب الإلكتروني.
المجتمع العمالي أنهكته الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنتهجة من طرف الحكومات المتعاقبة، ولم يجد أمامه النخبة النقابية التي توصل صوته أو تضغط على السلطات العمومية، ولذلك فهو لا يختلف عن المجتمع الآخر الذي أنهكه الإقصاء والتهميش، ولذلك لم يبق أمامه إلا معاقبة السلطة بالعزوف عن استحقاقاتها الانتخابية، وفي المحصلة سيذهب قادة الأحزاب والجمعيات والنقابات إلى جلسات الحوار، دون شرعية تمثيلية تسندهم، وهي نقطة ضعف تلاحقهم وترهن مصير الحوار برمّته.
بين أداء دور الذراع وبين دور الشريك تكمن عقيدة النضال النقابي من أجل الطبقة العاملة أو من أجل المصالح الضيقة، ويبدو أن اللبس بين الموقفين هو الذي أغرق الأمين العام السابق عبدالمجيد سيدي سعيد في مستنقع السلطة خلال الأعوام الماضية لدرجة الرقص والابتهاج بفوز الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة بولاية رئاسية رابعة، ثم دعمه بقوة مشروع الولاية الخامسة التي فجرت غضب الجزائريين في 2019. وفي 2024 يأتي عمار تاقجوت على مسار مهادن لم يظهر إلى حد الآن إن كان من أجل صوت العمال في محطة الحوار المنتظر، أم من أجل أغراض أخرى لا تختلف عن أغراض سلفه المسجون لصلته بـ”العصابة”.