"ابنه" مسيرة منبوذ يبحث عن أبيه ملك الشعب

هناك روايات تتناول التاريخ في قصص خيالية تنطلق من مكونات وأحداث تاريخية حقيقية لتنسج حكايتها الخيالية، وهي الأكثر إثارة لقرائها من خلال المزيج المثير التي تخلقه بين الوقائع والشخصيات الحقيقية ونظيرتها المتخيلة، على غرار رواية “ابنه”.
يروي السويسري تشارلز ليفنسكي في روايته “ابنه” قصة صبي ينتشل نفسه إلى الحياة لينجو من أسوأ الظروف بقوته الخاصة، ويحارب كل ما يواجهه ويتبع آثار مصيره.
القصة خيالية تأتي على خلفية تاريخية تم بحثها بشكل مثالي من خلال وقائع تاريخية أوروبية. اخترع ليفنسكي كل شيء تقريبا – باستثناء الأدلة التاريخية التي تشير إلى أن الإمبراطور الفرنسي المستقبلي لويس فيليب ـ جلس على العرش الفرنسي بين عامي 1830 و1848 باسم الملك لويس فيليب الأول، أنجب طفلا من طاهيته في سويسرا، والذي نشأ بعد ذلك في دار للأيتام في ميلانو، لكن “كل ما هو معروف عن الابن الذي أنجبه دوق أورليان من الطاهية ماريان بانزوري هو أنه ولد في ديسمبر 1794 وتسلم في دار للأيتام في ميلانو”.
رحلة البحث
الرواية، التي ترجمتها أستاذة الأدب الألماني هبة شريف وصدرت عن دار العربي، جاءت في ثلاثة أجزاء، يحتوي كل منها على فصول قصيرة مرقمة. وقد انطلق فصلها الافتتاحي من الجزء الأول باثنين من حفار القبور يحفران قبرا لميت عثر على جثته في الشارع عارية، ربما تمت سرقته، فوباء الكوليرا والجوع والفقر المدقع يدفع إليهما يوميا الكثير من الجثث. إنهما يقضيان الوقت في المقبرة حيث يناقشان قصة حياة كل جثة يقومان بدفنها. إنه العام 1832 حيث ينتشر وباء الكوليرا في أوروبا وفرنسا خاصة. إنه وقت ممتع لحفار القبور: “ست جثث”.. يقول حفار القبور العجوز: “يوم جيد”.
وفي الفصل التالي، وصف لعملية ولادة يقوم بها الطبيب البروفيسور موسكاتي في قاعة المحاضرات بالجامعة، كمادة تعليمية إذا جاز التعبير، “إنها ولادة صعبة والمرأة تصرخ من الألم”. ينصح موسكاتي طلابه “لا ينبغي أن يزعجكم ذلك. لا يجب أن يسمح الطبيب لنفسه بالتشتت”. ويطرح بهدوء بعض الأسئلة الإضافية قبل ولادة الطفل بمفرده. “إنها حية، يصفق الطلاب، وينحني الأستاذ مثل الممثل”. ينتهي الأمر بالطفل، واسمه لويس شابو، في دار للأيتام في ميلانو، والتي تديرها أم صارمة.
يطور ليفنسكي قصة حياة لويس شابو بشكل شعري خيالي، متعاطفا ومعززا تعاطفه مع تقدم الحبكة، ولكنه يعتمد دائما على ظروف حقيقية، وبالتالي يقدم رؤى حية لتلك الحقبة التاريخية من القرن الـ19. يصف الحاجة الكبيرة إلى دور رعاية الأطفال، التي كانت غالبا ما تكون مكتظة ويديرها رجال دين متشددون “الأم الرئيسة عليها أن توفر الطعام لأكثر من خمسين طفلا. لم يكن ذلك صعبا إذا كان الأطفال أكبر سنا، فيمكن تقليل نصيب كل واحد منهم. لكن لا بد أن يجد الرضع من يرضعهم. وقد جلبوا إليها اليوم رضيعا، هذا ما أبلغها به المستشار، دون سابق إنذار. هكذا بين ليلة وضحاها. قال: لقد دفعت مصاريفه مقدما، للثمانية عشر عاما كلها”.
يصف المؤلف مهنة بطل الرواية لويس بشكل شعري وبكلمات قوية ويقدم رؤى أيديولوجية عن الحياة في أوائل القرن التاسع عشر. لويس هو فتى نحيف يتعرض للمضايقة والتعذيب من قبل أقرانه في دار الأيتام التي تسمى “المارتينيت”، والتي لا تزال موجودة في ميلانو حتى اليوم. كان لويس في السادسة من عمره عندما كان يتعرض للضرب والإذلال يوميا. لكنه لم يكن يدافع عن نفسه، إنه يسعى للحصول على كل عار حتى يتم إبعاده وعزله من جانب أقرانه.
وعندما يبلغ الطفل الثانية عشرة من عمره، يدخل في خدمة رجل ثري مسن “الماركيز” تتوق دار الأيتام للاستيلاء على ميراثه بعد وفاته. إن رغبة الماركيز العجوز في الاستعانة بخدمات صبي صغير تخلق شعورا بالنذير. ومع ذلك، كما تبين الأمور، فإن الماركيز ليس شاذا للأطفال ولا ساديا، ولكنه أصبح المعلم الصارم للصبي غير المتعلم.
“ما الذي تجيد عمله؟” سأل الماركيز. قال لويس شابو “لا شيء”. قال الماركيز “هذا مفيد. فالكتابة على ورقة بيضاء أفضل”. من هنا يبدأ الماركيز في تعليم الطفل أولا “الأخلاق الحميدة، ثانيا الثقة بالنفس، وثالثا الاقتناع بأنه يجب عليك الدفاع عن نفسك وقضيتك. حتى لو لم تكن محترفا في المبارزة، عليك أن تجرؤ على خوض مبارزة إذا كان لا مفر منها”.
التاريخ مضمن في السرد حيث يدمج الكاتب الحقائق بعناية تامة في كل الأحداث دون أن ينصب تركيزه على التاريخ
يمتص لويس معرفة المركيز وحكمته وتنمو ثقته بنفسه. لا يريد مرة أخرى أن يكون ضحية. وعند وفاة الماركيز، يتعين عليه العودة إلى دار الأيتام، ولكن سرعان ما يهرب. ومع ذلك، فإن الأوقات صعبة، وهناك فرص قليلة لشخص مثله. لذلك ينضم إلى الجيش النابليوني ويشارك في الحملة الروسية التي تنتهي بكارثة. يعود بيده اليمنى المصابة بجروح بالغة. لقد سئم من الحياة ويريد إنهاء كل شيء. لقد أصبح الجوع هو خبزه اليومي، لكن الصيدلي الذي يذهب إليه لشراء السم يثير رغبته في اكتشاف والديه والبحث عن أصوله.
البحث عن جذور المرء، والشكوك والمصاعب التي تأتي من أصل غير معروف، يشكل محورا مهما يمكن قراءة الرواية منه، حيث إن نسب المرء لا يؤدي بالضرورة إلى الخلاص. اللقاء مع الأم أكثر من مزعج، والبحث الإضافي عن الأب قد يؤدي إلى نتيجة تصيب بخيبة الأمل والغضب. وهنا يربط الروائي دوافع بطله في القصة بمهارة شديدة حتى نتمكن من فهم أفعاله، حتى نعتبرها الحل المنطقي في إطار بحثه المستمر الذي لا يتزعزع عن أصوله.
في بحثه يأتي لويس إلى Reichenau في غراوبوندن. يعلم هناك أن الأم كانت الطاهية اسمها ماريان بانزوري. وكان شابو اسم أحد المعلمين المحليين. لكن مدير المدرسة السابق ألويس جوست فقط هو الذي يعرف المزيد. حدد موقعه في زيزر. يقول جوست إنه يستطيع التواصل مع والدته رغم أنه ينصح بعدم الزيارة، كون الأم تعاني من اعتلال عقلي منذ فترة طويلة نتيجة النزيف الذي أصابها عقب عملية الولادة ثم أخذ ابنها وإيداعه في دار الأيام، ومن ثم لا يمكنها التعرف عليه والتعامل مع حقيقة كونه ابنها الصغير. وأما الأب فلا يرغب في البوح به “لدي الجواب ولا أستطيع أن أعطيه لك”.
أسلوب سردي
يستقر لويس ويصبح مواطنا محترما داخل المجتمع ويكون أسرة، حيث تزوج من سيراينا، وأنجب ابنته ميا وقام بتربية لورين معها، وهو الطفل الذي وجده وزوجته بين أحضان امرأة ميتة. وهو ناجح كتاجر نبيذ، ورغم كل الصعاب، يبدو أنه وجد السعادة، لكن سره المزعج لا يزال ينخر روحه.
يخاطر بكل ما يملك، ويسافر إلى باريس حيث تستعر الكوليرا بعد أن اكتشف أن “ملك الشعب” لويس فيليب الأول (1773 – 1850)، والذي اعتلى العرش عام 1830، عمل مدرسا للغة الفرنسية في رايشيناو أثناء فراره من الاضطرابات الثورية وتسمى بأسماء مختلفة منها اسم “شابو”. وهو، لويس شابو، الأمر الذي يؤشر إلى أنه ربما يكون “ابنه”.
إن الحروب التاريخية في هذه الفترة متضمنة في السرد، حيث تم دمج الحقائق بعناية في كل هذه الأحداث دون أن ينصب التركيز على التاريخ، بل على قصة منبوذ انطلاقا من دار الأيتام التي يتم وصف الأوضاع داخلها وتأثير أهوال الحروب على نزلائها من الأطفال.
إن السرد واضح للغاية ولم يتم التلاعب به، فالخيوط التاريخية المنسوجة في السرد جذابة يمكن الاستمتاع بها. كما أن التغيرات السريعة والمتكررة في إيقاع اللغة، ولكن المتسقة دائما مع الحدث، تخلق توترا خاصا بها. ويتم ضمان ذلك من خلال 106 فصول قصيرة بشكل متساو، وعادة ما يبلغ طولها ثلاث صفحات فقط، ومن ناحية أخرى من خلال سلسلة قصيرة ومتقطعة من الجمل. يتم عرض الحياة البسيطة في القرن الثامن عشر بالألوان. هناك أيضا روح الدعابة التي يمكن العثور عليها.
يذكر أن تشارلز ليفنسكي ولد في زيورخ عام 1946، وهو كاتب مستقل منذ عام 1980. نال شهرة دولية بروايته “ميلنيتس”، التي نالت العديد من الجوائز، بما في ذلك الجائزة الفرنسية لأفضل كتاب أجنبي، وجائزة مؤسسة “شيلر” الألمانية، وجائزة أفضل رواية ألمانية. كما رشحت روايته “أنديرسين” في القائمة القصيرة لجائزة الكتاب السويسري، ورشحت روايته “كاستيلاو” لجائزة الكتاب الألماني، ورشحت رواية “جيرون” لجائزة الكتاب السويسري. يعيش تشارلز ليفنسكي في فرنسا في الصيف، وفي زيورخ في الشتاء.