إيمان مرسال شاعرة وكاتبة تمزج مواهبها لإنتاج جمال مبهر

بدا فوز الشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بجائزة الشيخ زايد للأداب هذا العام خبرا مُنتظرا. فمُنذ إعلان القائمة القصيرة للمرشحين للجائزة لتتضمن اسم الشاعرة والأكاديمية المصرية وكان هناك اتفاق ضمني بين معظم مَن قرأوا كتابها المرشح بأنها الشخص المنتظر والمستحق للجائزة، لأنها في كتابها “في أثر عنايات الزيات” كشفت لجمهور الثقافة العربي أنهم أمام موهبة فريدة في الكتابة قد يندر تكرارها.
هذا الكتاب قدم مضمونا مختلفا تماما عما تضمّه العشرات من الكتب في المكتبات، تتجاوز كثيرا حدود كتابة السيرة الذاتية أو الغيرية المعتادة. لا بطل واحدا للكتاب، إنما بطلان هما الكاتب والمكتوب عنه، وبين السيرة الغيرية والذاتية، يوجد تداخل غريب يمتزج فيه الباحث مع المبحوث عنه في نقاط التقاء واتفاق في الأحاسيس والأفكار. ولا زمن وحيدا للعمل، إنما تراكمات أزمنة تشابكت وتداخلت معا لترسم معاني عدة لانطفاء الحلم وخفوت الأمل وانسحاق الإنسان تحت وطأة بيئته وزمانه.
ويقدم الكتاب حزمة فنون ثقافية متنوعة ممتزجة معا، تتراوح بين الكتابة الشعرية، السرد، الاستقصاء الصحافي، استعراض الشهادات بتحليل مضمونها، ورص المعلومات المستكشفة، لتتوالد الدهشة اللذيذة لنص عصي على التصنيف.
بين كُتب قديمة مُستهلكة مرصوصة لهواة القراءة الفقراء الذين يرتادون سور الأزبكية في وسط القاهرة، عثرت مرسال قبل أكثر من عشرين عاما على رواية صغيرة بعنوان “الحب والصمت” لكاتبة غير معروفة تُدعى عنايات الزيات، صدرت مطلع السبعينات من القرن الماضي، وقرأتها لترتبك، وتشتعل روحها بلهيب لا ينطفئ بقدر ما حوته من عذابات وأوجاع إنسانية.
سألت الشاعرة عن صاحبة الرواية، فلم تجد مَن يعرفها، ثُم جرها السؤال إلى آخر عندما علمت أنها ماتت منتحرة، وأن الرواية صدرت بعد وفاتها. جذبها خيط طويل لا تعرف آخره لتدور خلفها، وتُلملم بقاياها وتستمع لشهادات وحكايات وقصص، وتزور أقاربها ومعارفها وقبرها لترسم سيرة من شظايا متناثرة لمبدعة قهرها الزمن والمجتمع وفشلت في نشر روايتها الموجعة، فماتت دون أن تراها في أيدي القراء.
كانت مرسال جديرة بنيل جوائز عدة فاتتها في ظل استقلالها وغربتها، لكن يبدو أن الجوائز تصادف كثيرا مستحقيها مهما حاولوا التملص، والإفلات من اللمعان المتعمد، فحياتهم المُلخصة في سطور الإبداع أبقى من سيرة معلوماتية دوُنت عنهم على صفحات الإنترنت.
ولدت بقرية صغيرة بالدقهلية شمال القاهرة، تُسمى بيت عدلان تتبع مركز بني عبيد، في نوفمبر سنة 1966، ودرست الأدب العربي في جامعة المنصورة، وتخرجت منها لتعمل معيدة بالجامعة، وناقدة أدبية في بعض الإصدارات الثقافية المتخصصة ثم حصلت على الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة، قبل أن تسافر إلى بوسطن بالولايات المتحدة، ومنها إلى كندا، حيث تعمل أستاذة مساعدة للأدب العربي بجامعة ألبرتا.
ممر معتم للرقص
خلال مشوارها المهني، خاضت تجارب الكتابة الشعرية والنثرية مبكرا، حيث أصدرت سنة 1990 ديوانها الأول “اتصافات”، ثم نشرت بعد خمس سنوات ديوان “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص”، وتوالت إصداراتها الشعرية بعد ذلك لتضم “المشي أطول وقت ممكن”، و”جغرافيا بديلة”، و”حتى أتخلى عن فكرة البيوت”، فضلا عن كتاب “كيف تلتئم”، وقيامها بترجمة سيرة الشاعر الأميركي تشارلز سيميك المعنونة بـ”ذبابة في الحساء”. وقد ترجمت أعمالها الشعرية إلى 22 لغة أخرى من بينها الهندية الإسبانية والروسية.
كانت الكتابة مختلفة فاختلف النص، لكنه عبّر في النهاية عن خيط خفي ممتد بين عنايات الزيات وإيمان مرسال، وسحبته الأخيرة لتُعيد كتابة الزمن، المشاعر، الهواجس، الأفكار، والمجتمع المحيط.
الكتابة هي كُل شيء لدى مرسال، فهي رسول غرام، دواء طبيب، نصيحة صديق، عطر نادر، بيان سياسي، وفرحة كشف، وهي التي قادتها للإبداع، الاختلاف، التميز، للسفر، التعلم، التجريب، التدريس، البحث، الاختبار، ثم للمزيد من الكتابة.
ترى مرسال أن الكتابة كل شيء ولا شيء في آن واحد، كما قالت في حوار قديم نشر بجريدة “أخبار الأدب” القاهرية في نوفمبر 1995، حيث أكدت أنها تشك إن كانت الكتابة ستظل مكانا للتوهج بالنسبة لها أم لا، لكنها مع ذلك تعتقد أنها المكان الوحيد لهذا التوهج المنتظر، وتستعير عبارة الشاعرة الأميركية إميلي ديكنسون التي تقول “ما أستطيع أن أفعله سأفعله، وما لا أستطيع يجب أن يظل مخبوءا في اللامكان”.
الكتابة هي كُل شيء لدى مرسال، فهي رسول غرام، دواء طبيب، نصيحة صديق، عطر نادر، بيان سياسي، وفرحة كشف، وهي التي قادتها للإبداع، الاختلاف، التميز، للسفر، التعلم، التجريب، التدريس، البحث، الاختبار، ثم للمزيد من الكتابة
رغم ذلك تبدو مرسال مهووسة بتعدد خيارات الكتابة والحرية التي تمنحها لنا، فتقول عن ذلك في مقال منشور لها بمجلة الثقافة الجديدة المصرية في ديسمبر 2013 “لعلّ أجمل ما في فِعل الكتابة هو تعدّد الاختيارات، لا نهائيّتها. كأننا نتعلّم ونحن نكتب حُريّة الاختيار بين إمكانات شتّى لم نر مثلها في الواقع، إنّها الحُريّة الوحيدة التي نعمل من أجلها بإخلاص، ذلك أننا نستحقها.. إنها أكبر من الحُريّة التي حصلنا عليها أو حتى طالبنا بها داخل الأسرة والمدرسة والعمل والصداقة والحب”.
تأتي سمة التميز الحقيقية لدى المبدعة المصرية من كونها باحثة في الأساس، تستلهم الجديد، وتفتش عن المخبوء، وتسعى إلى غير المعتاد. يقول الناقد الأدبي سيد محمود لـ”العرب” إن نموذج مرسال كشاعرة وكاتبة “شديد الندرة في عالمنا العربي، فهي صاحبة موهبة حقيقية، تنأى بذاتها عن الصخب والضجيج، ولا تنشغل إلا بصناعة الجمال، هي بمثابة يد تحفر في حائط وتنقب ثغرة لنطل منها على عوالم أخرى زاهية”. بينما يؤكد الشاعر محمد رياض بدوره أن مرسال “طاقة مثالية للموهبة المستعرة التي لا توقفها حدود ولا تعطلها عراقيل، إنها تعرف كيف ترسم الجمال اللافت لطالبيه من عشاق الكلمة، وجمهور الشعر”.
صانعة الجمال
تتكرر التوصيفات لدى أكثر من ناقد أدبي وفني، وجميعهم يتفقون على أن إيمان مرسال صانعة جمال محترفة تعتمد على الكتابة، شعرا أو نثرا.
ليس مثل الحروف من لآلئ يُمكن نسج عقود مُبهرة منها، لذا فإنها تُقدم بها نفسها للعالم فتقول “إيمان/ طالبة بمدرسة إيمان مرسال الابتدائية/ ولم تستطع عصا المدرِّس الطويلة/ لا والضحكات التي تنط من الدِّكات الخلفية/ أن تنسيني الأمر/ فكَّرت أن أُسمّي شارعنا باسمي/ شرطَ توسيع بيوته/ وإقامة غُرف سرية/ بما يسمح لأصدقائي بالتدخين داخل أسِرَّتهم/ دون أن يراهم أُخوتُهم الكبار”.
تعتقد أنها كانت أكثر جمالا مما عليه لولا الكتابة التي استنزفت سحرها. وتكتب في إحدى قصائدها “جيدٌ/ أن أعيد تأمُّلَ صور الطفولةِ/ فقد أُزيح فكرتي المستقرّة/ عن أنني كنتُ مشروعا
جميلا لشخص آخر/ أفسدتهُ رهاناتي الناجحة”. لذلك تبدو مسكونة بفكرة التحليق منذ الصغر، تنظر إلى الأعلى وتبحث عن السماء، لذا تقول في إحدى قصائدها “فقط أزداد نحولا كأنّني أجهّز
نفسي لطيران ذاتي”. في الوقت ذاته فهي تعي جيدا أنها مختلفة عمن حولها “تمنحك الصدفة اسما ملتبسا يثير الشبهات حولك”. لكن الأسى والألم يلازمانها منذ الطفولة، لذا تكتب “وسيعرفُ كلٌّ منّا/ أنّ الآخر يحمل فوق ظهره/ طفولةٌ حُرِمَت من الذهابِ إلى مدينةِ الملاهي”.
لكن تجربتها الشعرية يقودها الراحلون، فالفقد البشري أكثر آلامها منذ رحلت والدتها وهي لا تزال طالبة في الصف الثالث الإعدادي، وحتى رحيل صديقتها المقربة سهام، ثم وجعها الشديد في وفاة صديقها الشاعر أسامة الديناصوري. من هنا يتكرر استدعاء الموت كصديق مقرب في الكثير من القصائد، إذ تقول عن وفاة المقربين داخل محيط أسرتها “كأن الموت هوية ناقصة لا تكتمل إلا في مقبرة الأسرة”.
تقول في قصيدة أخرى بعنوان “التابوت يسعنا معا”، “من أجلك أكنس حياد وجهي/ وأضع الشبق بلمسات محسوبة/ التابوت يسعنا معا/ لماذا لا تأتي/ أشك في حزنك/ أنت واقف ما زلت على قدميك/ أنيق بلا تحفظ”. وفي تصورها، حتى أولئك الذين ينتحرون فهم “بلاشك وثقوا في الدنيا أكثر مما يجب/ فظنوا أنها تنتظرهم في مكان آخر”.
وثمة حيوات وبهجة وجمال وعوالم سحرية في الموت، وهو ما يظهر في قصيدتها العذبة “إيميل من أسامة الديناصوري” تقول فيها على لسانه “صباح الخير يا إيمو/ كله تمام/ أكثر ما يعجبني في ما يُسمى العالم الآخر هو بعده عن فيصل/ تصوري لا توجد هنا مساجد ولا مؤذنون/ ولا وزارة للثقافة/ ولا أوتوبيسات للنقل العام/ كل النساء../ كل النساء جميلات وكريمات حتى أنني لم أر محجبة واحدة في الشوارع”.
ظلال الحياة والموت
كل شخص يرحل، ترثه مرسال ليترك فيها بعضا من جماله وألقه، إذ تقول عن ذلك في إحدى قصائدها “يبدو أنني أرثُ الموتى/ عندما عدتُ مع الأقدام الكبيرة/ من دفن أمّي/ وتركتُها تُربِّي دجاجاتها في مكان غامض/ كان عليّ أن أحرسَ البيتَ من تلصُّصِ الجارات/ وتعوَّدتُ الجلوسَ على العتبة/ في انتظار البطلة التي يظلمونها دائما/ في المسلسل الإذاعي/ يومَ حصلتْ صديقتي على تأشيرة/ لاختبارِ جسدها في قارة أُخرى/ ورغم أنها لم تَنسَ – كعادتِها ـ سجائرها على مائدتي/ تأكّدتُ أن التدخينَ ضرورةٌ/ وصارَ لديّ دُرجٌ خاصٌ/ ورجلٌ سريٌّ/ هو ذاتُه حبيبُها القديم”.
أما مرور العمر فلا يُشتتها مثل الآخريات، فلا الزمن يمنحها الزهد والحكمة، ولا اقتراب الموت يدفعها للتريث والندم، لأن الجمال في الفطرة الإنسانية دون تزويق أو تجميل.
تقول مرسال “بعض الناس يظنون أن الحقائق تصبح قريبة بعد الأربعين/ أين الذنوب، والحزن المفاجئ أمام تل من الفاكهة على عربة يد في شارع منسي/ لم يتبق سوى طابور من الموتى الذين ماتوا ربما لأنني أحببتهم/ بيوت للأرق داومت على تنظيفها بإخلاص في أيام العطلات/ هدايا لم أفتحها لحظة وصولها/ قصائد سرقت مني سطرا سطرا حتى أنني أشك في انتمائها لي/ رجال لم أقابلهم إلا في الوقت الخطأ/ ومصحات لا أتذكر منها إلا الحديد على الشبابيك”.