إيمانويل ماكرون انتصر على خصومه بصيغة قدّمت لهم ما لم يحلموا به

رجل الأغنياء وخيار الأوروبيين رئيساً من جديد.
الثلاثاء 2022/04/26
حياة ماكرون سلسلة من القصص

يصف الرئيس الفرنسي المعاد انتخابه لولاية ثانية، إيمانويل ماكرون نفسه بأنه ليبرالي، ويكثر من التذكير بذلك خلال موسم الانتخابات، لكن بعد أن تنقشع غيومها يعود مجددا إلى الخطاب الشعبوي الذي جرّبه خلال عهده الأول، والذي تفوق فيه حتى على منافسته  زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، فما كان منها إلا أن أعلنت أنها وإن كانت قد هزمت هذه المرة، إلا أنها منتصرة فاليمين بات ممثلا في الفريقين معا، وهي على الأقل تقدمت حتى جاوزت 42 في المئة من أصوات الفرنسيين.

كما لم تخطئ لوبان حين رفعت على الفور، رايات الحرب استعدادا لما سمته “معركة كبيرة من أجل الانتخابات التشريعية” والتي ستنظّم في يونيو المقبل. لكن في شخصة ماكرون ما يقود إلى روح قتالية أيضا، فالرئيس الشاب يعتبر نفسه مخلّصا للفرنسيين وبلادهم من المشاكل الجوهرية التي يعيشونها وتلك التي تحيق بهم، هذا طبيعي فهو “فتى البنوك” كما كان يوصف في بداية مسيرته، ولن يتخلى عن موقعه هذا، لا هو ولا من يحرصون على بقائه داخل فرنسا وخارج حدودها عبورا إلى الاتحاد الأوروبي.

ومن أغرب ما نقلت الصحافة عن حياة ماكرون السياسية ما قاله لآلان مينك، المستشار السياسي السابق، حين التقاه أول مرة بعد انقلاب الألفية، وكان يعمل مفتشا للمالية حينها. سأله مينك “ماذا ستكون بعد 20 عاما من الآن؟” فأجابه ماكرون “سأكون رئيسا لفرنسا”.

طيف مانيت

انتهاجه سبيل مناوئيه وترديده خطابهم الانفعالي في الكثير من الأحيان، جعلا ماكرون يتوهم أن ذلك نوع من البراغماتية، لكنه بعد أن أصبح رئيسا وجد نفسه يعيّن مساعدين ووزراء أكثر تطرفا وعنصرية من خصومه

شق ماكرون طريقه وحيدا، أعزل من كل دعم سياسي تقليدي، سخروا منه وتجاهلوه، وتهكموا على سنه وقلة خبرته، لكنه كان يتقدم، حتى إنه أسس حركة “إلى الأمام” السياسية كي لا ينظر إلى الوراء. تلك الحركة التي كلفه إعداد برنامجها السياسي عشرات الآلاف من المقابلات مع المواطنين الفرنسيين في كافة أنحاء البلاد، لينشئ قاعدة بيانات لتيار سياسي هرمي يديره بمركزية صارمة.

وكانت المعركة الانتخابية آنذاك بين الحزب الاشتراكي والحزب الجمهوري على أشدها، استقطاب ترك ثغرات سرعان ما ملأها ماكرون. ولم يخطئ البعض حين وصف نبرته في تلك المرحلة بأنها نوع من التبشير الديني الذي أتقنه ببراعة بحديثه عن الحب بذراعين مفتوحتين.

لكن مع ذلك، لم يكن الفرنسيون بذلك القدر من السذاجة، فقد نظروا إلى ماكرون بنوع من الريبة والتشكك.

كل ما طرحه وقتها كان مخالفا لما يتوقعه منه الناخبون، والهدف كان إزاحة خطاب الطبقة التقليدية التي تحكمت حتى ذلك الحين بدفة السياسة. وكان يكفيه أن يعارض آراء التيارات المنافسة في كل ما تطرحه ليحظى بأصوات الناخبين ويسرق منها جمهورها. ولم يكن صعبا أن يفوز بتلك الولاية في العام 2017.

رئيس الأغنياء

● ماكرون يقبّل يد المطربة المصرية فرح الديباني التي أنشدت احتفالا بفوزه
● ماكرون يقبّل يد المطربة المصرية فرح الديباني التي أنشدت احتفالا بفوزه

 مع أن ماكرون قال من البداية إنه ابن قرية وواحد من البسطاء، إلا أن نفيه الذي كان بصيغة التأكيد عاد وأكد خطواته التي اتخذها حيال البسطاء “لقد ولدت في بلدة ريفية، في أسرة لا علاقة لها بعالم الصحافيين أو السياسيين أو المصرفيين. أقول بفخر إنني مرشح الطبقة العاملة والمتوسطة”، غير أن القرار الذي اتخذه بخفض الضريبة على الثروة على كبار أغنياء فرنسا أكسبه بجدارة لقب “رئيس الأغنياء”.

لوالدين طبيبين ولد ماكرون في بلدة أميان عام 1977، لكن طيفا بقي يحوم حوله طيلة سنوت طفولته، حتى هذه اللحظة، إنها جدّته مانيت التي صار حفيدها رئيسا للجمهورية الفرنسية، بعد أن زرعت في وعيه كل تلك الأحلام والطموحات وعلمته التعلّق بالثقافة والمعرفة، بل إنه يصفها بأنها حملت إليه كل أفكار اليسار الفرنسي القديم.

حياته سلسلة من القصص التي يشوبها التحدي والإصرار على الفوز، وغالبا ما كانت تلك القصص تنتهي بفوزه بالفعل. زواجه من معلمته رغم معارضته ووضعها الأسري، ورغم رفض عائلته، صار حقيقة، شعوره بأنه أهم أبناء جيله، منحه ولع خوض المغامرة مع من هم أكثر شأنا منه، وأكبر سنا، وحين كان يدرس الفلسفة ربط اسمه باسم بول ريكور أحد أهم الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، حتى إنه شاركه في إعداد وتحرير كتابه “الذاكرة، التاريخ، النسيان”.

أنهى دراسته للعلوم السياسية في باريس، وتخرّج من المدرسة الوطنية للإدارة وكان من بين أفضل 15 طالبا، وبسبب تميّزه تم تعيينه مفتّشا في المالية. وعمله كمفتش قاد خطاه نحو مصادفات ستغير حياته، فمن خلال تفاعله مع لجنة شكلها الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي بغرض إيجاد أفكار تساعد على إعادة إنعاش الاقتصاد الفرنسي، تمكّن ماكرون من توطيد صلته برئيس تلك اللجنة وهو المفكّر الفرنسي اليهودي جزائري الأصل جاك أتالي، الذي أخذ بيده ودفعه نحو الاقتصاد وعالم بنوك روتشيلد السخي.

أوروبا وكما تحتاج زيلينسكي يحارب قيصراً طامعاً بها، سيكون عليها أن تنهض اقتصاديا وتحقق ما أسماه قادتها بـ"الاستقلال" الغازي عن روسيا بقادة من طراز ماكرون

أتالي رأى أن على ماكرون أن يعمل في السياسة، من خلال الانتخابات. وكي يبدأ هذا بشكل صحيح، يجب أن يكون بالتنسيق مع فرانسوا هولاند الذي كان بحاجة إلى مستشار اقتصادي. هنا اقترح أتالي اسم ماكرون على هولاند، لينضمّ إلى فريقه في حملته الانتخابية العام 2016. المستشار الاقتصادي الخاص للمرشح إلى الرئاسة سيصبح بعد الفوز بالانتخابات سكرتيرا للرئيس ومسؤولا عن القضايا الاقتصادية والمالية.

وخلال سنوات عمله مع الرئيس هولاند، كان صوته يعلو يوما بعد يوم، حتى بات قادرا على رفض قرارات الرئيس نفسه، كما حين استقال من منصبه قرب الرئيس احتجاجا على عدم تعيينه في حكومة مانويل فالس، ولم يمض الكثير من الوقت قبل أن يغير فالس موقفه ويطلب تكليف ماكرون بحقيبة الاقتصاد.

انحنى ماكرون على يد المطربة المصرية فرح الديباني التي أنشدت النشيد الوطني الفرنسي خلال الاحتفال بإعادة انتخابه، وهي أول مغنية أوبرا عربية تصبح عضوا في أكاديمية الأوبرا الوطنية بباريس، غير أن هذا لا يجعل من ماكرون صديقا للمهاجرين، فالليبرالية لا تربح عادة في معارك الأيديولوجيا إذا ما ترافقت مع إخفاقات اقتصادية، وما الذي بوسعها أن تقدمه للغاضبين؟ لغة العقل؟ الوقت ليس وقتا للعقل، مهاجرون من كل مكان، ووباء اجتاج العالم فدمّر اقتصاد الكوكب، لم يكن أمام ماكرون خلال سنوات ولايته الأولى سوى طريقين: الأولى الالتصاق بالاتحاد الأوروبي، والذي كان المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل تحرص على تدعيمه بشخصيات من طراز ماكرون، شابة ومندفعة ويمكن أن تبقى لعقود قادمة.

الطريق الثانية كانت انتهاج نهج مناوئيه اليمينيين، وترديد خطابهم الانفعالي والعنصري في الكثير من الأحيان، وظن ماكرون أن ذلك سيتم بسهولة وببراغماتية نافذة، فتوافق أولا كوزير مع الحكومة الاشتراكية، ثم ما لبث أن قال لا يمين ولا يسار، وبعد أن أصبح رئيسا عيّن حوله مساعدين ووزراء أكثر تطرفا وعنصرية من خصومه مثل وزير التعليم ميشيل بلانكير، ووزيرة المواطَنة مارلين شيابا، ووزير الداخلية الشهير جيرارد دارمانان الذي عتب على لوبان زعيمة اليمين واتهمها بأنها صارت مع الوقت طرية حيال المسلمين. حتى إن ماكرون التقى بمنافسه إيريك زمور حسبما سرّب الأخير، وقال له إنه يتفق معه حول مواضيع عديدة مثل الغزو الذي تتعرض له فرنسا من المهاجرين، وكذلك حل خطر الإسلام. وهو على كل حال أشرف بنفسه على إصدار قانون الانعزالية الإسلامية.

وصرّح الوزير دارمانان آنذاك قائلا “بلدنا يعاني من نزعات انعزالية، وعلى رأسها التطرف الإسلامي الذي ينخر وحدتنا الوطنية”.

لكن هذا كله انتهى في ذروة الانتخابات الأخيرة، فقد أحذ ماكرون يحذّر من اليمين ومواقفه، ومن الحديث عن الحجاب والطعام الحلال والتضييق على المسلمين الأمر الذي وصفه بأنه سيتسبب في حرب أهلية.

حروب أوروبا

● رسائل بوتين الأولى حول أوكرانيا وجهها إلى العالم عبر تعامل غير تقليدي لقيه منه ماكرون الذي لا ينسى
● رسائل بوتين الأولى حول أوكرانيا وجهها إلى العالم عبر تعامل غير تقليدي لقيه منه ماكرون الذي لا ينسى

حين أوشك الرئيس الروسي على غزو أوكرانيا كان ماكرون أول المتوجهين إليه للتفاهم حول الأمر. عندها حاول بوتين توجيه رسائل إلى العالم عبر التعامل غير التقليدي وغير اللائق الذي ووجه به ماكرون في روسيا. من الطاولة المتطاولة إلى ترك الضيف يمشي وحيدا إلى غير ذلك من الاستعراضات التي امتصها ماكرون كما كان يفعل دوما.

لكن الفترة التي صعد فيها نجم ماكرون وتفتح خلالها وعيه كانت فترة إيمان بأوروبا الموحدة القوية، هذا اليقين لن يتمكن من العيش وسط تهديدات بوتين الأمنية والاقتصادية. لذلك كان على ماكرون أن يضع نفسه لا كمرشح للفرنسيين وحدهم، بل للأوروبيين جميعا الذين يحتاجون إلى قيادة قوية للمرحلة القادمة.

لوبان لم تخطئ حين رفعت فور إعلان النتائج، رايات الحرب استعدادا لما سمته "معركة كبيرة من أجل الانتخابات التشريعية"

هناك العديد من الصعوبات التي سيكون على ماكرون اجتيازها للقيام بالمهمتين التي أطلق عليها تعبير “إشعاع فرنسا داخليا وخارجيا”، فالناخبون يقولون إنهم صوتوا له لأنهم اختاروا الاستقرار ولا يريدون خوض مغامرات مع لوبان، لاسيما بخصوص المهاجرين والإسلام وما كشف عنه ماكرون نفسه حول التمويل الذي تلقاها حزبها من البنوك الروسية.

فرنسا، مثل غيرها، لا تزال لم تتعاف بعد من عاصفة كورونا وآثارها القوية على الاقتصاد العالمي، تضاف إلى هموم ماكرون مسألة الحركات الاحتجاجية للسترات الصفراء التي لم يجر حل مشاكلها بشكل جذري حتى الآن.

وإلى جوار الرئيس الشاب فولودومير زيلينسكي الذي يحارب القيصر الروسي الطامع بأوروبا، حربا فعلية تحرق المليارات، سيكون على أوروبا أن تنهض اقتصاديا وتحقق ما أسماه قادتها بـ”الاستقلال” الغازي عن روسيا. وهذا الدور جاهز اليوم لكافة النظريات الاقتصادية غير التقليدية التي يؤمن بها ماكرون.

● العديد من الصعوبات سيكون على ماكرون اجتيازها لتحقيق ما سماه بـ"إشعاع فرنسا داخليا وخارجيا"
 العديد من الصعوبات سيكون على ماكرون اجتيازها لتحقيق ما سماه بـ"إشعاع فرنسا داخليا وخارجيا"

12