إهمال المحليات يفضي إلى عالم رخو يؤجج التطرف

فشل إدارة الشؤون المحلية بالمجتمعات العربية يمثل ثغرة للتنظيمات المتطرفة من أجل الولوج إلى عقول المواطنين الكادحين الذين لا يشعرون بتحسن الظروف المعيشية.
الاثنين 2019/05/06
الشارع العربي يطالب بحقه في عدالة اجتماعية

يقع سوء منظومة المحليات على رأس الأسباب التي وضعت العالم أمام تحولات غير مسبوقة لصعود التطرف السياسي والديني. ويرى خبراء أن الاهتمام بعمودي السياسة والاقتصاد على حساب العمود الثالث، وهو المجتمع المحلي، أوجد خللا في النظام العالمي، وأفضى إلى تكوين شعور عام يرغب في تغير شمولي وهدم للكثير من ملامح النظم القائمة.

تتواتر الأسباب حول صعود التطرف بأشكاله المختلفة، سواء أكان سياسيا أم دينيّا، وإحدى الأطروحات المقدمة دائما هي فشل النظام الرأسمالي في استيعاب طموحات المواطنين. لكن يغيب بشكل دائم الفهم الدقيق لحالة عدم الاستقرار وفقدان التوازن في النظام العالمي، والذي يخلق أنماطا مشوهة من الفكر السياسي والاجتماعي.

قدم خبراءٌ النظامَ العالمي الحالي في شكل مبنى هندسي يقوم على ثلاثة أعمدة رئيسية؛ الأول سياسي وهو الدولة أو الحكومة المركزية، والثاني اقتصادي وهو الأسواق، أما الثالث فهو المجتمع المحلي.

تعمل الأعمدة الثلاثة بشكل متواز على تحقيق أهداف الرأسمالية، من خلق مجتمع حركي متماسك ومتشابك مع سوق تنافسية مبدعة. ويفسر كتاب “العمود الثالث: كيف تخلت الأسواق والحكومات عن المجتمع، الذي صدر حديثا للاقتصادي الهندي راغورام راجان، الأكاديمي ومحافظ البنك المركزي الهندي السابق، ما يحدث حاليا من تطورات غير مسبوقة تهدد استقرار العالم وتخل بتوازنات النظام العالمي نتيجة إهمال عمود المحليات على حساب ترجيح كفة الحكومة والسوق الحرة.

يوضح راجان أنه على مدى سنوات طويلة تم التركيز على الحكومة المركزية والأسواق والتفاعل بينهما، وتم إغفال العمود الثالث المتعلق بدور البيئة المحلية وسلطة البلديات، وتمت تقوية العمودين الأول والثاني على حساب الثالث، ما أدى إلى حدوث خلل ترتبت عليه العديد من النتائج السلبية.

الملف الحاضر الغائب

يؤكد كتاب "العمود الثالث: كيف تخلت الأسواق والحكومات عن المجتمع" أن إهمال عمود المحليات يهدد استقرار العالم
يؤكد كتاب "العمود الثالث: كيف تخلت الأسواق والحكومات عن المجتمع" أن إهمال عمود المحليات يهدد استقرار العالم

يشير الكاتب -وهو واحد من الاقتصاديين القلائل الذين تنبأوا بحدوث الأزمة المالية العالمية عام 2008 - إلى أن الجدل السياسي يركز على قضية الحكومات في مقابل الأسواق، أو خفض الضرائب في مقابل زيادتها، أو الحد من التشريعات واللوائح التنظيمية في مقابل تشديدها، وبالرغم من أهمية هذه الأمور فإنها لا تشغل اهتمام المواطن العادي، وما يعنيه كيفية وصول الخدمات والأنشطة الاقتصادية إليه. يمكن التدليل على ذلك بأن عدم شعور المواطن بالنمو الاقتصادي والتحسن المعيشي على مستوى الحي الذي يقطن فيه أو الشارع الذي يسير فيه يوميا، وعدم القدرة على التغيير، أنعشا فيه الرغبة في البحث عن نظم بديلة، وأصبح أكثر انفتاحا على الإيمان بتوجهات متطرفة وأيديولوجيات يمينية شعبوية تقول له “النظام القديم لا يعمل ونحن سنقدم إليك نظاما قوميا بدلا من البالي”، الأمر الذي بنى عليه اليمين الشعبوي والجماعات الدينية المتطرفة فلسفتهما الاستقطابية، ونجحا إلى حد كبير في الوصول إلى هدفهما.

وتمثل الدول العربية التي تصاعدت فيها موجات الاحتجاج في العقد الأخير أكبر مثال على ذلك. ففي كل من مصر وتونس ومرورا بليبيا واليمن وسوريا ونهاية بالجزائر والسودان، تفشّت مظاهر إهمال الجوانب المحلية، مثل سوء البنية التحتية وغياب أساسيات الغذاء وعدم الوصول إلى التحسن الذي تتغنى به الحكومات، وكلها كانت وقودا للاحتجاج والسخط.

وقالت شيرين فهمي، أستاذة السياسة الدولية في الجامعة البريطانية بالقاهرة، إن ملف تطوير المحليات ظل غائبا عن أذهان الكثير من الحكومات، ولا يدرك المسؤولون أن بداية النجاح الحقيقي تبدأ بالقضاء على الفساد المحلي المستشري في جسد الدولة. وأضافت في تصريحات لـ”العرب” أنه بعد سقوط الرئيس حسني مبارك في مصر في 11 فبراير 2011، طُرحت تساؤلات عديدة عن أسباب الغضب الشعبي ضده، على الرغم من صعود معدلات النمو الاقتصادي في عهده لأرقام غير مسبوقة، وكانت الإجابة أن “التحسن الاقتصادي لم ينعكس على حياة المواطنين وخرجوا للمطالبة بسقوط النظام الحاكم”.

وتابعت “يربط المحللون دائما بين الاحتجاجات وزيادة الضرائب، وهي مسألة تبدو منطقية، لكنهم يغفلون جوانب أخرى، مثل دفع عجلة الإدارة المحلية عبر تمكينها ماديا وقانونيا لتصبح لها يد مباشرة في إصلاح حياة المواطنين”.

عادة لا يدخل ملف تطوير المحليات ضمن أولويات الكثير من المسؤولين في بعض الدول العربية، وبدا ذلك واضحا في أولوية الاهتمامات بالجانب الاقتصادي والحكومي مثلما عمدت الحكومة المصرية خلال السنوات السابقة إلى وضع خطط تنمية طموحة وقامت بثورة تشريعية كبيرة، ولم تقم بإصدار قانون جديد للمحليات أو إجراء انتخابات محلية منذ حوالي تسعة أعوام.

لا تغيب الرؤية ذاتها عن الواقع اللبناني، حيث خرج المواطنون للاحتجاج على انتشار النفايات في الشوارع في بيروت، إلى جانب انتشار الفساد وزيادة نسب البطالة، وكلها ملفات تتعلق بفشل الإدارة المحلية بشكل أساسي.

ظهرت هذه الملامح في احتجاجات السودان والجزائر، حيث جاءت على رأس طلبات المتظاهرين المناداة بالقضاء على الفساد الحكومي والإطاحة بجميع المسؤولين الذين ارتكبوا أخطاء، بداية من رأس السلطة حتى أصغر رئيس قطاع محلي أو بلدية في البلاد.

لا تقتصر أزمة غياب الاهتمام بالمحليات على تأجيج غضب المواطنين، إنما باتت بيئة رخوة ملائمة لنمو التطرف بصور غير مسبوقة، حيث تستغل التنظيمات المتشددة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الحادة لتستقطب تابعين لها. وتشير عدة دراسات متخصصة في الحركات الإسلامية الحديثة إلى أن نمو الجماعات المتطرفة في مصر مثلا بدأ من المناطق الشعبية، وتحديدا من الأحياء الأكثر فقرا والتي تعاني من بنية تحتية متهالكة وفوضى إدارية في الشوارع والأزقة.

 ويمثل فشل إدارة الشؤون المحلية بالمجتمعات العربية ثغرة للتنظيمات المتطرفة من أجل الولوج إلى عقول المواطنين الكادحين الذين لا يشعرون بتحسن الظروف المعيشية، حينها يشعر الفرد بأنه أصبح مطالبا بالخروج بنفسه لصناعة التغيير اللازم. ويتحول الفعل المصاحب للتغيير غالبا إلى احتجاجات وتظاهرات أو انضمام إلى أحزاب ومجموعات راديكالية راغبة في الهدم الكامل لتحقيق شعارات توحي ببناء عالم جديد.

وتلفت شيرين فهمي إلى أنه مثلما يدعم أوروبيون الأحزاب اليمينية الشعبوية للتغيير، أصبحت جماعات متطرفة، مثل الإخوان المسلمين، تحظى بالكثير من التعاطف في بعض الدول العربية معتقدة أنها تتبنى الدين منهجا يستطيع تشكيل نظام سياسي بديل.

التمكين والتثبيت

راغورام راجان: العالم يجب أن يولي تطويرَ المحليات أهميةً كبيرة
راغورام راجان: العالم يجب أن يولي تطويرَ المحليات أهميةً كبيرة

علق عالم الاقتصاد راغورام راجان في كتابه قائلا “انتقال عملية صنع القرار من المجتمع المحلى إلى المستوى الوطني ثم إلى المستوى الدولي، أدى إلى تزايد إحساس المواطن العادي بفقد السيطرة على حياته، والعالم يجب أن يولي تطويرَ المحليات أهميةً كبيرة لأسباب لا تتعلق فقط بالتنمية الاقتصادية، إنما تتصل أيضا بمواجهة قوى التطرف السياسي”.

يبدو السر كامنا في منظور تمكين المحليات بشكل صحيح داخل المجتمعات العربية التي يتمركز الحكم الإداري فيها في يد الحكومات، وضرورة تصحيح المعادلة المختلة.

وتتمحور أدوات التمكين الأساسية حول اللامركزية، والحاجة إلى الدفع مرة أخرى بعملية اتخاذ القرارات إلى المجتمع المحلي، وتبني ما يعرف بـ”الشمول المحلي”، ويشمل ذلك توفير القدرة اللازمة للمجتمع المحلي من أجل  تنمية موارده المالية من خلال فرض رسوم أو ضرائب لتمويل الأنشطة المحلية، بدلا من اعتماد المحليات على الموازنة المركزية للدولة، والتي في الغالب تدعمها بميزانيات لا ترقى إلى تحقيق تنمية ملموسة.

يعني ذلك اجتزاء السلطة من يد الحكومات العربية بصورة تسمح لمسؤول الحي أو المحافظ باتخاذ قرارات مستقلة تساهم في تطوير منطقته، وتصطدم تلك الأطروحة غالبا بشعارات رنانة تحذر من النظام اللامركزي الذي يقوض بنيان الدولة.

وما يقوض تلك العملية هو اصطدامها بالسلطة المطلقة التي تحظى بها الحكومات، ورفض التخلي عنها، ولذلك يصعب تصور تطبيق نظام سياسي -كالنظام الفيدرالي-، مستقبلا في أي بلد عربي يبحث عن هوية سياسة جديدة بعد أن طالته رياح التغيير.

6