إهدار دم اللغة

تضع شركة أنظمة وبرمجيات كندية شهيرة لمساتها الأخيرة على قاعدة بيانات ونظام رقمي مكتوب بمساعدة الذكاء الاصطناعي، يتعامل مع اللهجة العراقية حصرا وإقصاء كل ما له علاقة باللغة العربية الفصحى.
توظف هذه الشركة حاليا المئات من العاملين العراقيين لتحميل قاعدة بيانات ضخمة من الجمل والكلمات الدارجة وفق تسجيلات صوتية استلت من التعامل اليومي بين أفراد عراقيين في محادثات عبثية وتبادل كلام فارغ لا ينم عن أي فائدة، بما فيها الكلام الضحل والبذاءة والشتائم والتعبيرات التي تنم عن جهل وأميّة معرفية وتخلف لغوي وثقافي.
ليس معروفا بعد، الهدف من هذا النظام التكنولوجي والجهة التجارية التي ستقوم بتسويقه، وما هي قيمة الخدمة التي يوفرها للمدونة الثقافية والاجتماعية العراقية. وبغض النظر عن استحالة التوصل إلى صيغة مقبولة في كتابة الكلمات الدارجة لأنها تلفظ بطرق مختلفة بين فئات المجتمع العراقي من الشمال إلى الجنوب، فإن المشروع بالأساس لا يتعامل مع اللغة ككائن حي ينمو ويتطور، بقدر تعامله مع لهجة كائن لغوي عليل وواهن.
وإذا أهملنا عن قصد نموذج العمل التجاري المبني على الربح وحده، فإن المشروع الذي على وشك الاكتمال، يهدف بلا أدنى شك إلى عزل الثقافة العراقية عن تاريخها ومحيطها العربي وتقديم بديل شاذ لقاموس عراقي جديد، عندما تعمل الخوارزميات على اعتبار الضحالة والركاكة في التعبير نموذجا معرفيا وتقديمها في تطبيقات وأنظمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرقمية.
لنا أن نتخيّل العمل الذي يقوم به مئات من الذين وظفتهم الشركة الكندية حاليا وكلهم من العراقيين من داخل وخارج البلاد في تحميل مئات الآلاف من الكلمات الدارجة استنادا إلى مقاطع صوتية استلت من محادثات هاتفية وخطب وشجارات وصراخ وخلافات، لتلقين الذكاء الاصطناعي بأن كل هذا الهراء معبر عن المدونة الثقافية والاجتماعية العراقية الجديدة. وبناء نظام يعرّف نفسه بقاموس اللغة العراقية! حيث برمجت الخوارزميات على عدم التعامل مع أي كلمة عربية فصحى إلا إذا نطقت في جملة دارجة.
إنه لأمر مخيف أن يكون نموذج الأعمال هذا مثالا تاريخيا معبرا عن المجتمع العراقي، عندما يجتث منه صوت السياب ومسرات فؤاد التكرلي وأوجاعه، ونخلة غائب طعمة فرمان، وعندما لن يسمح لعبدالخالق الركابي أن يذكّر بمكابدات عبدالله العاشق وسابع أيام الخلق. ولن يكون في تلك المدونة الضخمة مساحة لمملكة محمد خضير السوداء، مثلما سيقول هذا النظام التكنولوجي للأجيال القادمة تلك هي مدونة العراق الثقافية وهي أهم من كل شعر عبدالرزاق عبدالواحد وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر، تحت ذريعة أن اللهجة العراقية هي المعبّر عن الثقافة السائدة في إعلام رقمي قائم ومستمر.
من العصي تفهّم أهداف هذا البرنامج التجاري الضخم إن لم يكن إهدار دم اللغة العربية، وتقديم المدونة الحضارية العراقية بطريقة شاذة ومعزولة عن تاريخها ومحيطها اللغوي. عندما تكون لهجة الضحالة والركاكة مثالا يعتدّ به!
هذا النظام التكنولوجي الذي يدار بميزانية مالية مليونية، من غير المعروف من يقف خلف تسويقه بعد اكتماله، لكن مجرد معرفة فرق العمل التي تدفع منذ أشهر بتوثيق كم من المفردات العراقية الدارجة بما فيها الكلمات البذيئة التي لا جذر ولا معنى لغويا لها، في خوارزميات الذكاء الصناعي. نكتشف الجهد المبذول في إنتاجه وبفريق برمجي دولي وظف لحدّ الآن المئات من العراقيين أغلبهم من الشباب في عملية تحميل الملايين من الكلمات.
عندما يكون هذا النظام الرقمي متاحا قريبا أمام المستخدمين على تيك توك وفيسبوك وبقية مواقع التواصل، سيكون عندها جيوش من الحمقى الذين وصفهم أمبرتو أيكو في يوم ما، بممثلين عن المعرفة وصناعة الأفكار! وستكون الفكرة البغيضة التي رفض أن يكون غونتر غراس جزءا منها، هي القائمة آنذاك. ولن يكون بمقدور المحتفين بالعمق التعبيري أن يرتدوا ربطات عنقهم احتراما لقواعد اللغة، فالركاكة ستكون حينها الممثل الجديد عندما تدخل التاريخ بقوة الرقمية، فمن بمقدوره بعدها إزاحتها.