إنهم.. يفتقرون إلى ثقافة رقعة الشطرنج

إذا كانت رقعة الشطرنج بمثابة اختبار عال إلى درجة يسمح فيه بتخريج مدرس فيزياء لألبرت أينشتاين فإنها يمكن أن تكون عاملا حيويا لصناعة سياسيين قادرين على أكثر من محاكاة استراتيجيات بريجينسكي وكيسنجر.
السبت 2021/12/04
صانعة القادة السياسيين المحنكين

لكم أن تتخيلوا كم من السياسيين العرب المستحوذين على القرار وراسمي الاستراتيجيات لمستقبل بلداننا، قادرون على التنافس في ما بينهم على رقعة الشطرنج. ليكون السؤال معبرا عن الخيبة السياسية التي نعيشها، من فيهم قادر على تحريك قطعة بطريقة غير عشوائية على الرقعة؟ هل فيهم من يتقبل دلالة أن رقعة الشطرنج كانت الأهم في قصور الملوك والأباطرة وقادة الجيوش في صناعة التاريخ، إلى أن انتقل الشغف بالشطرنج إلى منازل السياسيين الملهمين؟

لم يكن الشطرنج قطعة أثاث مجردة، إنه يعبر بامتياز عن القدرة على التفكير بالنسبة إلى اللاعبين، لكنه أيضا يقدم دروسا في طبيعته لا تقل إلهاما للسياسيين. وبينما تحول رجال الدين في العالم العربي إلى سياسيين، تغير السؤال من البراعة في التفكير أمام الرقعة إلى جدل أحمق عن تحريم الشطرنج بوصفه ملهاة تبعد العبد عن الله.

كان واحدا من أشهر رجال الدين في العراق، الذي عُد محركا لحشود من القطيع البشري بوصفه مرجعا ناطقا ومقربا من الناس، عندما سُئل عن قدرته في معرفة أحوال الناس ومساعدتهم على التفكير في ترتيب حياتهم المثقلة بالصعاب، قال أنا أقرب إلى همومهم ولست معزولا عنهم، ولا تأخذني مطالعة أعيان الشيعة وفقههم عن معرفة سعر كيلو الطماطم في السوق!

تحولت تلك الجملة إلى نوع من الحكمة الفريدة عند أتباع هذا المرجع. وبالطبع سيصبح أي سؤال لهذا الفقيه عن قدرة الشطرنج في مساعدة الناس على التفكير نوعا من العبث آنذاك.

واليوم يبدو تحول السؤال إلى أبناء هذا المرجع والسياسيين الذين خرجوا من تحت عباءته عن الشطرنج نوعا من الكوميديا، فمن منهم أصلا يحلل مباراة الشطرنج، ليجعل منها درسا سياسيا في التفكير؟

الأمر لا يقتصر على هذا المثال العراقي، فالمشهد أكثر تشاؤما مما يمكن أن يجعل ثقافة التفكير التي يرسخها الشطرنج قائمة لدى جيل من سياسيين مسكونين بالسلطة وامتيازاتها وبخرافة التاريخ الملتبسة، من دون استلهام شيء من دروسه الثمينة.

ترسيخ ثقافة الشطرنج تحرض على أفكار سياسية تكاد تكون مفقودة اليوم في التقاليد السائدة، فرقعة الشطرنج تقود إلى الطرق المؤدية إلى الأعداء المحتملين، مثلما تعلم على اليقظة واتخاذ القرار الصائب في التوقيت المناسب

يكاد يكون مشهد الممثل تيم حسن في مسلسل “الهيبة” مثالا مفيدا، عندما وجد رقعة شطرنج في صالة قصر غريمه في التنافس على الاستحواذ والسلطة، سأل ما هذه؟ لم يقدر له أن عرف من قبل الشطرنج مثلما أتقن التعامل مع السلاح بشجاعة. وعندما شرحت له وظيفة الشطرنج وطريقة تحريك القطع على الرقعة صنع منه عبوة ناسفة، انفجرت على غريمه بمجرد تحريك أول بيدق!

هكذا يبرع جيل من السياسيين الوضيعين في إلغاء التفكير في المستقبل، من أجل الاستحواذ على مكاسب الحاضر عبر تحويل أسلوب العمل السياسي إلى ثقافة العبوات المفخخة وتهديد المعارضين والخصوم بها.

ترسيخ ثقافة الشطرنج تحرض على أفكار سياسية تكاد تكون مفقودة اليوم في التقاليد السائدة، فرقعة الشطرنج تقود إلى الطرق المؤدية إلى الأعداء المحتملين، مثلما تعلم على اليقظة واتخاذ القرار الصائب في التوقيت المناسب. بينما يمكن الاستفادة من القرار الخطأ للبحث عن البدائل المتاحة للتفكير بالحلول وتجنب الخطأ لاحقا.

لم يفرط نابليون بونابرت بشغفه بالشطرنج، وكان يأخذ أنفاسه ويستعيد تفكيره أثناء القتال بجلسة شطرنج. لينين كان يلعب الشطرنج كثيرا ويحرض عليه، لأنه مقتنع بأهميته في رفع ثقافة الشعوب. الدروس التي استلهمها لينين من الرقعة لم تكن تكتفي بذلك. ففي الشطرنج السياسي كل شيء مسموح به وفق براغماتية نيكولو ميكافيلي في كتابه الشهير “الأمير”. يقال إن هتلر كان لا ينام قبل قراءة ما يتسنى له من فصوله.

لذلك أرى أن الشطرنج يصنع ثقافة لا تقتصر على اللاعبين البارعين. إنه أحد أهم المعلمين الذين يثق بهم التاريخ لتقديم الدروس للقادة. فالسياسيون بحاجة إلى من يستمع ويناقش أفكارهم التي رسموها على الرقعة التي تتعامل مع شخص واحد مسؤول عن كل شيء، أبقته مستيقظا طوال الوقت، ما يجعلها عملية اختبار بالغة الأهمية للثقة بالخصوم والتفكير بدحرهم أو إخضاعهم.

فإذا كانت الرقعة بمثابة اختبار عال إلى درجة يسمح فيه بتخريج مدرس فيزياء لألبرت أينشتاين، فإنها يمكن أن تكون عاملا حيويا لصناعة سياسيين معاصرين قادرين على أكثر من محاكاة استراتيجيات زبغنيو بريجينسكي وهنري كيسنجر.

اليوم تبدو جيوش العالم أكثر قلقا على الأمن السيبراني من الحروب التقليدية، لذلك استعانت شركة “أفاست” المتخصصة في الأمن السيبراني بأسطورة الشطرنج غاري كاسباروف ليكون سفيرا لها.

ينادي كاسباروف بإجراء نقاش عام جدي في العالم الحر لإصدار توصيات للحكومات المختلفة بهدف تخطي التحديات الجديدة، معبرا عن أسفه عن كون العالم غير الحر أكبر حجما، فهو يمثل 60 في المئة من إجمالي بلدان العالم، إذا ما اعتبرنا الهند بلدا ديمقراطيا. أما إذا بدأنا في التشكيك بوضع الهند، فستكون الأرقام أسوأ بعد.

في يوم ما طالب جيريمي كوربين زعيم المعارضة البريطانية المتمثلة بحزب العمال من رئيسة الوزراء آنذاك تيريزا ماي، التعلم في سياستها من خطط مدربي كرم القدم في النوادي البريطانية بعد الانتصارات التي تحققت لفرق ليفربول ومانشستر سيتي. ابتسمت ماي ورحبت بالدرس الرياضي الذي اعتبرته ملهما سياسيا بحق، فهي وكوربين كانا يدركان أن جوزيب غوارديولا قضى وقتا طويلا مع لاعب الشطرنج الروسي غاري كاسباروف قبل أن يتوصل إلى خططه البارعة مع مانشستر سيتي في ملاعب كرة القدم.

9