إنعام كجه جي لـ"العرب": كل شيء قد تغير في العراق حتى دجلة

"صيف سويسري" رواية جديدة عن تشويهات يتعرض لها العراقي.
الأربعاء 2024/11/13
الجوائز ليست زائفة ولا هي إكسير الحياة

حققت الكاتبة العراقية إنعام كجه جي معادلة صعبة يتمنى كل كاتب عربي بلوغها، ألا وهي ثقة القراء وانتظارهم لأعمالها الجديدة، دون سقوطها في التوجهات التجارية التي تميز بعض الكتاب الجماهيريين. إذ ربما كان للجوائز التي ترشحت إليها أعمال الكاتبة دور، وربما كان للصحافة دور أيضا، وهو ما تطرحه "العرب" من تساؤلات مع الكاتبة في هذا الحوار.

“إجازة صيفية مغرية في سويسرا. ضيافة كاملة ومصروف مُجزٍ للجيب”. قد تعتقد أن الأمر ببساطة وعذوبة تلك العبارة السابقة، لكن الأمر في الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك. بهذه المقدمة اختارت الدار المصرية – اللبنانية للنشر بالقاهرة أن تعلن عن صدور رواية جديدة للكاتبة العراقية إنعام كجه جي بعنوان “صيف سويسري”، التي تصدر أيضا عن دار منشورات تكوين في الكويت، ودار الرافدين في لبنان، وطرحت في معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي يقام حاليا.

في العالم العربي الآن قليلون هم الكُتاب الذين يمثل صدور عمل جديد لهم خبرا سعيدا مبهجا للقارئ حتى قبل أن يعرف شيئا عن أجواء وعوالم العمل، سواء أكان رواية أم مجموعة قصصية. لقد اعتاد القارئ على مدى سنوات ألا يخذله كاتبه، عبر ما يقدمه له من جذب وتشويق وعمق وإدهاش، عبر رحلات في غمار بحار جديدة مترامية الضفاف، تستكشف أعماق النفس البشرية وصراعاتها الممتدة في أتون حروب الحياة.

إنعام كجه جي واحدة من أبرز هؤلاء الكتاب الذين ينتظر العالم العربي جديدهم بشغف، وخصت الكاتبة الكبيرة صحيفة “العرب” بأول حوار لها بعد صدور روايتها، وبينما جاءت إجاباتها قصيرة مكثفة عميقة تعكس حكمة الحياة لم يكن غريبا أن يحظى السؤال عن العراق بأقصر الإجابات وأكثرها شجنا وإيلاما على الإطلاق، فالكاتبة التي غادرت بلادها إلى باريس منذ نحو 45 عاما لم يغادرها يوما نسيم دجلة وهوى بغداد.

تنويعات مختلفة

◙ رواية جديدة تسير على الدرب الذي رسمته كجه جي لنفسها فتسبر بالحكي أغوار الإنسان العراقي
◙ رواية جديدة تسير على الدرب الذي رسمته كجه جي لنفسها فتسبر بالحكي أغوار الإنسان العراقي

عن روايتها الجديدة “صيف سويسري” تقول كجه جي لـ”العرب”: “كنت أود الكتابة عن التشويهات التي يتعرض لها المواطن العراقي، النزاعات الحزبية والطائفية والعرقية وتمزق النسيج الاجتماعي، ثم حصلتُ على إقامة أدبية في مدينة بازل السويسرية، واكتشفت أنها عاصمة صناعة الدواء في العالم فقلت لمَ لا أجعلها مكانًا للرواية.”

تسير كجه جي إذًا في روايتها الجديدة على الدرب الذي رسمته لنفسها، فتسبر بالحكي أغوار الإنسان العراقي؛ نفسه ومعاناته وأزماته، تحولات شخصيته ومحاولات تشويهه، مثلما فعلت تماما في كل أعمالها السابقة، بتنويعات مختلفة عبر حكايات شيقة. وتأتي رواية “صيف سويسري” كما وصفتها الدار المصرية الناشرة لتفوح برائحة الأوطان الباكية والناس الضائعة، فتحمل معها في ثِقَل كل صفحة أطنانًا من إخفاقات أهل صفحاتها، بين جمال سويسرا والحُطام بداخل أبطالها.

وبينما اختارت الكاتبة العراقية مدينة بازل السويسرية لتكون مكانا لروايتها كما تقول، إلا أنها لم تكتب عن باريس عاصمة النور برغم إقامتها فيها لأكثر من أربعة عقود، بل وصفتها من قبل بأنها “إبليسة كبيرة”.. فما المعنى وما السر؟ تقول كجه جي لـ”العرب”: “إبليسة بمعنى أنها شيطانة غاوية مغوية، باردة ساخنة، نظيفة ملوثّة، جميلة مُنفرة، محتضنة طاردة، وكل الصفات ونقيضها.”

وتبرر عدم كتابتها عن باريس بأنها لم تعتبر نفسها سائحة فيها ولا ضيفة ولا لاجئة ولا منفية، إنما هي في نظرها المكان الذي يوفر لها الأمان المفتقد لكي تربي أولادها وأحفادها، قائلة “والأمان، كما تعرف، هبة سماوية عظمى.”

سبق أن وصلت ثلاث من روايات كجه جي إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”، وهي “الحفيدة الأميركية” عام 2009 و”طشَّاري” عام 2014 و”النبيذة” عام 2019. وتعد هذه بذاتها قصة متفردة للكاتبة مع أكبر جائزة عربية في الرواية، والتي كثيرا ما يثار حولها الجدل مثل كل جوائز الأدب، فالبعض يتهم الجوائز دائما ويرى أنها زائفة، بينما يسعى البعض الآخر إليها بضراوة وقد يقاتل بشأنها.

لكن الكاتبة العراقية تنأى بنفسها عن هذا الجدل، فهي كما تقول لـ”العرب” لا تظن أن الجوائز زائفة وفي الوقت ذاته لا تعتبرها إكسير الحياة. وترى أنها قد تكون من محفزات القراءة، وإذا كانت ذات مقابل مالي فإنها عامل دعم للمؤلفين في واقع لا يعيش فيه الكاتب من رواياته. وبالنسبة إليها تقول “قد أكون مدّعية حين أزعم أن قارئي العراقي موجود بجائزة وبدون جائزة.”

والأمر الواضح هنا أن إنعام كجه جي تعمدت في جملتها الأخيرة أن تستخدم ألفاظا مثل “قد أكون.. مدعية.. أزعم”، رغبة في عدم إثارة أي جدل، وحتى لا يُفهم الكلام على أنه استغناء أو تعال على الجوائز بأي شكل، أما سر كلامها فهو أنها تثق بالفعل في أن قارئها يعرفها وتعرفه، يحبها وتحبه، لأنها وهي تكتب تفتح له قلبها على مصراعيه. هي لا تقول هذا الكلام لكن المحب يعرف حبيبه جيدا.

التنظير في الأدب

في مجموعتها القصصية الصادرة عام 2022 تحت عنوان لافت هو “بلاد الطاخ طاخ”، تحكي الكاتبة في قصة “الكاميرا الأولمبس”
◙ في مجموعتها القصصية الصادرة عام 2022 تحت عنوان لافت هو "بلاد الطاخ طاخ"، تحكي الكاتبة في قصة “الكاميرا الأولمبس”

ربما هي لا تميل إلى “التنظير في الأدب،” كما تقول في حوارها لـ”العرب”، وبرغم أنه يسهل كثيرا تصنيف أعمالها الروائية بأنها تندرج في إطار المدرسة الواقعية التي تستمد من الواقع حكاياتها دون ألغاز وغرائب، فإن إنعام لا تتحدث كثيرا عن مدارس الكتابة مكتفية بقولها “واقعنا العربي من الانفلات بمكان بحيث أن كل أنماط الكتابة تحتاج أحذية رياضية للحاق به".

وبينما تتجه الكتابات الحداثية إلى تهميش الحكاية في الرواية أو تفتيتها أو ربما غيابها كلية فإن الكاتبة العراقية الكبيرة تعتبر أن الحكاية مهمة بالفعل. وتقول “أن تروي معناه أن تحكي. وما يدفعني إلى الكتابة القبض على فكرة يمكن أن تكون جذابة للحكاية.”

في مجموعتها القصصية الصادرة عام 2022 تحت عنوان لافت هو “بلاد الطاخ طاخ”، تحكي الكاتبة في قصة “الكاميرا الأولمبس” حكاية البطلة الصحافية التي خسرت كاميرتها الحبيبة العتيقة بعد أن استولى عليها قهرا من تصفه بـ”فلان الفلاني” لتذهب إليه في مكتبه للمطالبة بها، فيستحيل عندئذ “أخطبوطا بعدة أذرع”، إذ أخرج الكاميرا من درج في الجانب الأيسر من مكتبه بذراع، وبالأخرى أخرج مسدسا من الجانب الأيمن. وضعهما متجاورين وقال “تعالي خذيها".

خافت البطلة وانصرفت، مضت مقهورة أو كما تقول بنفسها في القصة “غادرت المكتب والمقر والشارع والحي. تمنيت أن أطير خارج المدينة وأهجر البلد كله. لم أكن غاضبة أو مغتاظة أو حزينة أو مقهورة أو قرفانة. كنتُ حانقة. معنى كتبتُه كثيرا ولم أختبر معناه.”

ثم تعود لتتخيل صديقتها الكاميرا وهي تقتص من المسؤول الذي استولى عليها بأن تبصق في وجهه كلما أمسك بها، ثم تنتحر وترمي نفسها ساقطة على الأرض بقوة، تتهشم ولا تستسلم، لتقول البطلة في النهاية “أعرف نفسي في مواقف هزيمتي. أرفع علامة المنتصر وأنا أمسح دمعتي بردني.”

البطلة الصحافية في أعمال إنعام كجه جي نموذج متكرر، تعبر من خلاله برقة وسرد شيق عن وقائع أليمة وواقع سيء، ما يدفع القارئ أحيانا إلى الظن بأن بعض القصص تبدو أقرب إلى السيرة الذاتية، لاسيما أن الكاتبة التي درست الصحافة في جامعة بغداد عملت طويلا في الصحافة والإذاعة العراقية ومازالت حتى اليوم تكتب المقال الصحفي.

تسأل "العرب" الكاتبة العراقية عن هذا الشكل من السرد الحر، وما إذا كان يعد ميلا إلى خلط أجناس الكتابة دون تقيد بالنوع أو الشكل في الأدب باعتبار أن المهم هو التدفق والجذب. لتجيبنا "بما أننا اتفقنا على أن الروايات حكايات، فالحياة هي المصدر مع نسبة معقولة من ملح الخيال. لا أفهم في الأجناس ولا في الخلط. بلغت من العمر ما يتيح لي أن أكتب ما يحضر إلى خاطري دون حواجز.”

متعة الصحافة والأدب

◙ شهادات عن مسيرة مظفرة لكاتبة استثنائية
◙ شهادات عن مسيرة مظفرة لكاتبة استثنائية 

كان طبيعيا أن يتوقف قطار الحوار في الحال عند محطة الصحافة، وتأثيرها في الرحلة الأدبية للكاتبة، التي كثيرا ما يقال عنها إنها بدأت متأخرة نوعا ما، ويتم توجيه أصابع الاتهام في مثل هذه الأحوال إلى الانشغال بالعمل الصحفي، لكن الكاتبة العراقية تفند كل هذا بكلمتين، هما “الصحافة متعتي.”

تقول لـ “العرب”: “لم تعطلني الصحافة عن الكتابة الأدبية ولم تؤخرني. أؤمن بأن كل شيء في حياتي يأتي في أوانه. وكثيرًا ما قلت إن عملي فيها هو ينبوع شخصياتي الروائية. وأمنيتي أن تساعدني أناملي على مواصلة الضرب على الأحرف والاستمرار في عملي الصحفي حتى النهاية".

◙ العراق.. تلك هي المسألة، منه المنطلق وإليه الوجهة، هذا ما تنطق به حروف وكلمات إنعام كجه جي دوما في أدبها

العراق.. تلك هي المسألة، منه المنطلق وإليه الوجهة، هذا ما تنطق به حروف وكلمات إنعام كجه جي دوما في أدبها، بل في أي سطر تخطه أناملها. لذلك سألتها عن أول صورة تحضر إلى مخيلتها عندما يُذكر اسم العراق.. أصورة من الماضي أم الحاضر؟.. مبهجة أم أليمة؟

"النخيل وضحكة أمي" هذا أول ما ردت به قائلة إنها مازالت تربي في بيتها فسيلة في "كشتبان” وترى “الوالدة” تضحك لها من غيمة عالية. لكنها ترى أيضا أن كل شيء قد تغير في عراق اليوم عن الماضي “حتى دجلة الخير،” كما تقول.

سؤال أخير، وإجابة من أربع كلمات؛ لماذا تغير العراق؟ ما كلمة السر؟ الدكتاتورية أم الاحتلال الأميركي أم حل الجيش العراقي أم دستور المحاصصة الطائفية أم غيرها؟ تجيب إنعام كجه جي “كلها.. وتراجع حسّ المواطنة.”

13