إندونيسيا بوابة واشنطن لتعزيز جهود الإصلاح الديني

تعقد جماعة نهضة العلماء الإندونسية، وهي جماعة إسلامية محلية، مؤتمرا على مدى يومين في العاصمة جاكرتا لرعاية “التطلعات الحضارية المشتركة” لإندونيسيا والولايات المتحدة والإسلام، وذلك بحضور وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الذي تدفع إدارته باتجاه تعزيز جهود الإصلاح الديني التي تقودها هذه الجماعة في مواجهة الأصولية.
جاكرتا - من المقرر أن يعزز وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، جهود أكبر حركة إسلامية في العالم لإعادة صياغة الخطاب الديني الإسلامي خلال زيارة مقبلة لإندونيسيا كجزء من جولة آسيوية تشمل ثلاث دول، حيث تتركز استراتيجية الولايات المتحدة للإصلاح الديني على مساندة حركات التجديد، التي يمكن أن تحقق الإصلاح الإسلامي وتعبئ الأوساط المسلمة ضد التطرف والراديكالية.
وتساهم جماعات دينية محلية على غرار جماعة نهضة العلماء والجماعة المحمدية التي ابتعدت عن نشأتها السلفية إضافة إلى الحركة الصوفية للدعم والإرشاد في معاضدة المجهود الحكومي لنبذ التطرف والراديكالية في إندونيسيا، حيث يعد هدفها الأساسي إبراز الصورة السلمية المعتدلة للإسلام، وهي تحظى بتأييد الجماهير لما لها من أنشطة خدمية عديدة في مجال إنشاء المدارس الدينية، وكفالة الفقراء والأيتام، والمساهمة في الحفاظ على وحدة المجتمع الإندونيسي.
ولجماعة نهضة العلماء أربعة مواقف “اجتماعية”، التوسط والاعتدال – التسامح – التوازن – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترى الجمعية أن المبدأ الأخير “لن تحصل الحياة ظاهرها وباطنها على السعادة إلا به”.
وتأسست جماعة نهضة العلماء في 31 يناير 1926، من طرف هاشم ألشرعري، كمحاولة لجمع شمل علماء المعاهد الإسلامية الإندونيسية في بداية القرن العشرين، “من أجل تنظيم أنفسهم والنضال للمحافظة على حضارة المسلمين التقليدية”، وهي مؤسسة تتبع في مذهبها الديني مذهب أهل السنة والجماعة، في حين تقول وثائق الجمعية إنها من حيث النظرية الواقعية “فإن الجمعية مرتبطة بنظرية الشيخ أبي الحسن الأشعري وأبي المنصر الماتوريدي في العقيدة، وبالمذاهب الأربعة في الفقه وهي الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، وبآراء الغزالي والجنيد البغدادي في التصوّف”.
ومن جهة أخرى تعتمد المؤسسة على “هيئة بحث المسائل”، التي هي من الأدوات التي تعمل على تنفيذ سياسة “نهضة العلماء” المتعلقة بمجال الأحكام الفقهية، وترتكز في ذلك على بحث وحل المسائل الدينية الموضوعية والواقعية والقانونية “التي تحتاج إلى قرار الحكم”.
كما تعتمد الجماعة على برامج تراها أساسية، هي “دراسات المسائل الواقعية الاجتماعية” و”إعداد ونشر فتاوى الأحكام الشرعية” و”تطوير معايير الكتب الفقهية” ثم “العمل على قرار الحكم أو المسائل الاجتماعية الدينية في دائرة جمعية نهضة العلماء”.
انفتاح أميركي
يكتسب انفتاح بومبيو على جماعة نهضة العلماء، وهي جماعة إسلامية قوية يقدر عدد أتباعها بـ50 مليون شخص، أهمية إضافية على خلفية دفع إدارة ترامب لإعادة تعريف حقوق الإنسان ومفاهيم حرية الدين على حساب الحقوق الأساسية الأخرى قبل الانتخابات الرئاسية والتي قد يخسرها الرئيس الجمهوري.
وتأتي المحطة الإندونيسية في نهاية جولة بومبيو، والتي ستبدأ بالهند وسريلانكا، حيث تتنافس الجماعة، وهي حركة مجتمع مدني مستقلة، عالميا مع السعودية والإمارات اللتين تدعمان جهود حشد القوة الناعمة الدينية وإعادة تعريف الإسلام المعتدل.
وعلى عكس منافسيها من القوة الناعمة، أوضحت جماعة نهضة العلماء تعريفها للإسلام المعتدل باعتمادها في عام 2015 لمفهوم نوسانتارا أو الإسلام الإنساني الذي يدعو إلى تبني إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بشكل كامل.
وتقدم دول مثل السعودية نفسها كنموذج لأشكال غير محددة من الإسلام المعتدل تتجلى من خلال المشاركة في الحوار بين الأديان ودرجات متفاوتة من التسامح الديني.
وتوقفت المملكة عن معالجة مفاهيم إشكالية لاهوتية مثل مفهوم الكفار أو الكفر، والإشارة الإسلامية إلى غير المسلمين، والعبودية، والذمة، وأهل الكتاب الذي يعترف به الإسلام ولكنه يُعطى مكانة أقل من المسلمين، والردة، والشرك.
جماعة نهضة العلماء تدعو إلى تبني إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بشكل كامل ضمن تعريفها للإسلام
واتخذت جماعة نهضة العلماء خطوات أولية في هذا الاتجاه حتى لو كان لا يزال لديها طريق طويل لتقطعه، حيث أصدر الآلاف من علماء الدين التابعين للجماعة فتوى أو رأيا دينيا قضى على فكرة الكفار، وأزال فعليا أحد أركان التصورات الإسلامية عن السيادة الدينية.
واستنادا إلى تصريحات قادة نهضة العلماء، من المرجح أن يتخلص علماء الجماعة بعد ذلك من المفهوم القانوني للرق والعبودية.
وسيأتي الاختبار الأساسي للجماعة من خلال تعاملها مع مفاهيم الردة والتجديف، وهي مفاهيم من المؤكد أنها ستكون أكثر عاطفية وإثارة للجدل. و يقول مسؤولو الجماعة إن الجماعة قبلت منذ فترة طويلة عمليا التحول عن الإسلام.
ويعتقد خبراء في الإسلام السياسي أن صياغة “إسلام إنساني” يبدو شعارا أقرب منه إلى واقع عملي وإمكانات بحثية وفقهية لدى هذه الجماعة من أجل جسر الهوة بين الإسلام والحياة في منطقة بشرية كبرى، مشيرين إلى أن الأمر في غاية الصعوبة، لكن وجود الرغبة يمثل خطوة ضرورية لأي مشروع نوعي.
ويشير اعتراف بومبيو بجماعة نهضة العلماء إلى أن الإدارة الأميركية أدركت أن الإصلاح الديني من المرجح أن يتم تنفيذه بنجاح من قبل فاعلين مستقلين في المجتمع المدني يتمتعون بمؤهلات دينية مناسبة وأتباع كثر بدلا من الدول.
وهذا اعتراف يسلط الضوء ضمنيا على حدود الجهود التي تبذلها الدول، بما في ذلك السعودية والإمارات، لتحديد جوهر الإسلام بالإضافة إلى طموح ماكرون لحل مشاكل الدين.
وتؤكد التقارير المحلية إن العمليات الانتحارية والتفجيرات التي نفذها إسلاميون في إندونيسيا، وما تبعها من حملات شيطنة للإسلام والمسلمين المحليين، دفعت الجماعة التي لا تطالب بتطبيق الشريعة، وتقيم علاقات متينة مع محيطها الديني والعرقي المختلف، إلى المثابرة من أجل إحياء الهوية الإندونيسية للإسلام، والتخلص من ميراث الإسلام المتشدد.
ويقول فرانتس ماغنيس سوسينو، عالم اللاهوت الذي أقام في إندونيسيا لسنوات طويلة، إن المجموعات المتطرفة محدودة التأثير السياسي، إذ فشلت محاولاتها عام 2001 لفرض الشريعة على المسلمين وتضمينها في الدستور، وذلك برفض مجلس الشعب الاستشاري الإندونيسي (البرلمان) وبأغلبية 81 في المئة من الأصوات لهذا الأمر. ويضيف سوسينو أن تلك الحادثة وغيرها تكشف أن التيار العريض لما يقارب 220 مليون إندونيسي يقف بالمرصاد ضد التطرف.
وتأتي المساعي الأميركية أيضا في الوقت الذي بدأ فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمته المعلنة لإصلاح ما أسماه إسلاما “يمر بأزمة في جميع أنحاء العالم” في أعقاب القتل البشع لصامويل باتي، مدرس يبلغ من العمر 47 عاما على يد متطرف إسلامي من أصول شيشانية بعد أن استخدم رسوما متحركة تصور النبي محمد في فصل دراسي حول حرية التعبير.
ويرى محللون أنه ينبغي أن تشمل أولويات السياسة الأميركية للتجديد الديني النهوض بالأعمال والأفكار الداعية للتحديث الإسلامي، ومخاطبة الأطراف الإسلامية المعتدلة الناشئة على أسس معيارية، والتركيز بدرجة أكبر على الإصلاحات الاجتماعية والتعليمية والدينية.
بيئة طاردة للتطرف
يعرف عن تاريخ الإسلام في جنوب شرق آسيا أنه تاريخ لنوع فريد من التسامح الديني والتواصل الحضاري بين الإسلام، والهندوسية والبوذية وغيرها من العقائد الآسيوية، ما أرسى تسامحا يلمسه المواطنون على جميع الأصعدة الاجتماعية والتعليمية والسلوكية.
ويبلغ عدد مسلمي إندونيسيا حوالي 209.120.000 نسمة، وتُعتبر إندونيسيا أكبر دولة إسلاميّة في العالم من حيث عدد سكانها المسلمين، إذ أن نسبة مسلمي العالم هو 88 في المئة، وتُشكل إندونيسيا ما نسبتهم 13 في المئة من مجموع سكان العالم المسلمين، وهي نسبة تشهدها البلاد منذ عام 2016.
وسعت الدولة الإندوينسية على نحو خاص لتبني عدد من الأيديولوجيات الوطنية التي من شأنها الحفاظ على التماسك القومي بين المسلمين وكافة عناصر المجتمع ونجحت في ذلك إلى حد كبير، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود خطاب راديكالي يحاول تقويض المنجز المحلي.
واتجه النظام في إندونيسيا إلى تبني أيديولوجية “البانكاسيلا”، والتي تعد منذ تم التنصيص عليها في دستور 1945 إلى الآن بمثابة الأيديولوجية الرسمية للدولة، وتنأسس على خمسة مبادئ بسيطة مترابطة لا تزال تقوم بدور مهم في تجسيد البعد الديني، والخط الفكري العام للنظام، وتشكل بالتالي أحد العناصر الحاكمة في النظام الإندونيسي التي تلتزم بها مختلف الأديان، والقوى السياسية دونما اعتراض كبير على مكوناتها التي تتمثل في: وحدانية الخالق، ووحدة الأمة الإندونيسية، والديمقراطية الموجهة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والحفاظ على الواجهة الإنسانية المتحضرة.
ونجحت الدول المسلمة في جنوب شرقي آسيا (خاصة ماليزيا وإندونيسيا) في دمج الإسلام في الحياة السياسية، بدرجة فاقت تجربة دول المركز في الشرق الأوسط. وقد لعب هذا الدمج دورا مهما في تقليل النزعة لدى شعوب المنطقة من تشكيل الحركات الأصولية.
وقد أخذ هذا الدمج أشكالا ومستويات عدة، بدءا من السماح بتأسيس أحزاب سياسية إسلامية (حالة الحزب الإسلامي في ماليزيا) وتشكيل الحركات الاجتماعية الدينية (جماعتا نهضة العلماء والمحمدية في إندونيسيا) والتي منحت أوضاعا قانونية، والمشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية، بحيث عملت تلك الأحزاب والجمعيات من داخل النظام السياسي ووفق قواعد اللعبة السياسية والأطر القانونية والدستورية القائمة.
عدد مسلمي إندونيسيا يبلغ حوالي 209.120.000 نسمة، وتُعتبر إندونيسيا أكبر دولة إسلاميّة في العالم من حيث عدد سكانها المسلمين
وفي ماليزيا قد وصل هذا الدمج إلى المشاركة المباشرة في الحكومات، مثل انضمام الحزب الإسلامي في ماليزيا إلى الحكومة الائتلافية في عام 1974 وتشكيله الحكومة المحلية في ولاية كيلنتان في عام 1990 وولاية تيرينجانو في عام 1999.
ورغم النمو السريع لتنظيم داعش في جنوب شرق آسيا، فإنه لم يجد وصفة النجاح المثالية له هناك ولم يتمكن من تحقيق أي نجاحات ميدانية كبرى كما حصل في الشرق الأوسط.
وتعزو مجلة فورين أفيرز الأميركية هذا الأمر إلى وجود ندرة في القادة لدى التنظيم، فبعد مقتل إسنيلون هابيلون ومسلحين بارزين آخرين في ماراوي (الفلبين)، سقطت فعليا عباءة القيادة في جنوب شرق آسيا.
كما أعاقت الاعتقالات أيضا نشاط تنظيم الدولة، فمنذ 2013 أوقفت ماليزيا وحدها حوالي 519 مشتبها به بتنفيذ عمليات إرهابية، عدد كبير منهم كانوا مرتبطين بالتنظيم. كما أن الأجهزة الأمنية في جنوب شرق آسيا كانت أكثر استباقا في تعاطيها مع تهديد التنظيم مما كانت عليه مع القاعدة.
وشهدت المنطقة أيضا تعاونا أكبر بين حكوماتها في التصدي لخطر التنظيم، بما في ذلك القيام بدوريات بحرية مشتركة في محاولة لوقف تدفق المسلحين من وإلى جنوب الفلبين. وأسفر هذا التنسيق الأمني عن القبض على قياديين واثنين من أبرز منظري التنظيم هناك، وهما زعيما “جماعة أنشاروت دولة” الإندونيسية، أبوبكر باعشير وأمان عبدالرحمن.
وتعتبر فورين أفيرز أن المقاتلين المحليين في جنوب شرق آسيا اهتموا بتنظيم الدولة أكثر من اهتمام التنظيم بهم. كما أن ملامح التنظيم في المنطقة غير واضحة، ووجوده تحكمه اعتبارات دعائية أكثر من كونه يعكس وجودا منظما بقيادة مركزية وهيكلية تنظيمية واضحة وقوية.
وتشير دراسة أعدتها مؤسسة “راند” الأميركية إلى أن الإسلاميين المعتدلين يشكلون الغالبية العظمي من سكان العالم الإسلامي، وهم يعبرون عن الإسلام المحافظ، ويؤكدون على السير على خطى السلف، والتمسك بالجانب الروحي للإسلام. وهم يعتمدون على المذاهب الأربعة في فهمهم للإسلام. ووفقا لهذه الدراسة فإن هؤلاء الإسلاميين من ألدّ أعداء السلفيين الجهاديين ووجبت مساعدتهم ومعاضدة مجهوداتهم.
وترصد الدراسة مجموعة من المؤسسات في جنوب شرق آسيا يمكن النظر إليها باعتبارها من الشركاء المحتملين في شبكة الإسلاميين المعتدلين ومنها المدارس الإسلامية المنتشرة في جنوب شرق آسيا خاصة مدارس الفلاحين والطلبة.
و بناء على ذلك يوصي الباحثون بأن تشرع الولايات المتحدة في بناء شبكات من الإسلاميين المعتدلين، وأن يكون ذلك جزء من الاستراتيجية الأميركية الشاملة حول هذا الملف وهو ما يمكن تحقيقه من خلال وجود جهاز مؤسسي يقوم بهذا الجهد.