إلياس الفخفاخ رئيس حكومة تونس ظهير سياسي أم رجل دولة؟

بعد الانفراجة النسبية التي عرفتها تونس في التعامل مع الوباء، بدأ السجال يلوح حول إلياس الفخفاخ والتكهنات تتزايد حول إمكانية أن يكون رئيس الحكومة التونسية فعلا رجل المرحلة. بينما يتساءل البعض عن احتمال أن يكون الرجل مجرد ظهير سياسي لـ”حكومة الرئيس”، فيما بدأت صورته تخفت نسبيا لتحيل إلى الواجهة زعيم حزب حركة النهضة راشد الغنوشي الذي غطت شطحاته على أكثر من صعيد على رئيس الحكومة الحالي.
أثار تكليفه من قبل رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد، بعد فشل حكومة الحبيب الجملي في نيل الثقة الكثير من التساؤلات. لكنه تجاوز تلك العقبة ليخضع لأول اختبار حقيقي مع تفشي فايروس كورونا العالمي. هذا الاختبار على أهميته وسّع دائرة التشاور والتفاهم بين مختلف مكونات المشهد السياسي بما أعطى حلولا إضافية للحكومة الجديدة وضعتها على طريق النجاح، لكنه نجاح ظرفي.
المحسوب على التكنوقراط
الفخفاخ يدعو، في تحذير واضح موجه إلى الغنوشي، إلى الكفّ عن إدخال البلاد في أي اصطفاف كان. لافتا إلى أن موقف تونس واضح ولا يحتاج تفسيرا، نظرا لعلاقاتها الراسخة مع جيرانها
شغل الفخفاخ العديد من المناصب الوزارية سابقا، وحَلُم يوما بالرئاسة عندما نافس في الاستحقاق الانتخابي في أكتوبر الماضي، لكنه غادر السباق مبكرا برفقة ثلة من الوجوه السياسية خضعت لعقاب الصندوق، ليعود الرجل من جديد بمهمة يقول مراقبون إن أغلب الترشيحات لم تكن تصبّ لفائدته فيها. هو قيادي ينتسب إلى حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات ”اجتماعي ديمقراطي ولا يمتلك مقاعد في البرلمان“ يتولى رئاسته السياسي المخضرم ورئيس المجلس التأسيسي سابقا مصطفى بن جعفر.
هو ابن صفاقس، ثاني مدينة اقتصادية في تونس، حيث ولد بها عام 1972. وتخرج من المدرسة الوطنية للمهندسين، وتخصص في مجال الهندسة الميكانيكية. ولاحقا حصل على درجة الماجستير في الهندسة الميكانيكية من مدرسة إينسا بمدينة ليون في فرنسا وعلى درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة إيسون في فرنسا.
في بداية حياته العملية، عمل في فرنسا وبولندا في شركة عالمية للنفط قبل أن يعود إلى تونس ويتقلّد منصب مدير عام لشركة “كورتيل” المتخصصة في صناعة مكونات السيارات.
اقتنع الفخفاخ بمبادئ ثورة الحرية والكرامة التي أطاحت في يناير 2011 بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ليلتحق بها ويعلن دعمه لمطالبها. وما يشدّ الانتباه في مسيرة الرجل قبل الثورة، أنه عايش فترات ما من تاريخ النظام السابق وزامن على أقله الفترة الأخيرة قبل سقوط نظام بن علي، ما يعني أنه متشبّع بالأفكار التي كان التونسيون يحلمون بتحقيقها وتجسيدها على أرض الواقع بعد سقوط ما يعرف بـ”المنظومة القديمة”.
لكن بعض المنتقدين للرجل يغمزون إلى كونه يحسب على مجموعة التكنوقراط الذين عاشوا في أوروبا وتغذوا بالفكر الفرنسي ويحملون جنسيات مزدوجة، وكان ذلك مثار جدل أثناء عرض أعضاء حكومته على البرلمان في فبراير الماضي لنيل الثقة.
ورغم كونه حظي بترحيب واسع من أغلب الأحزاب السياسية وأطياف واسعة من المجتمع المدني، إلا أن بدايته لا تزال محل أخذ ورد بين جميع المراقبين للمشهد السياسي التونسي. يقول المدافعون عنه إن الأزمة التي عاشتها تونس منذ تولي الحكومة الجديدة بدّدت أي أمل في تصحيح المسار والانطلاق في قطار الإصلاح كما وعد بذلك الرجل في أول خطاب له أثناء أدائه اليمين الدستورية برفقة فريقه الحكومي. فيما يرى منتقدون أن اصطفافه عمّق الأزمة بين أركان الحكم في تونس ورفع من منسوب التوتر بين الرئاسة والبرلمان.
لكنّ أيا من الموقفين لا يوفي الرجل حقه وقد يذهب بعيدا عن أي تحليل منطقي يُراد من ورائه كشف الواقع الذي وجده رئيس الحكومة الجديد أثناء توليه مهمته التي يبدو أن مسارها بدأ شاقا ويميل ناحية تعرجات سياسية قد تحيد بالفريق الحكومي الذي يقوده عن أي نفس إصلاحي يروم التقيّد به وتنفيذه على أرض الواقع.
ابن "المنظومة الجديدة"
ينطلق العد الفعلي للفخفاخ من لحظة توليه حقيبة السياحة في حكومة “الترويكا الأولى” أو ما يمكن تسميته بـ”المنظومة الجديدة” كما يتجسد ذلك على أرض الواقع، وكان يقودها آنذاك حمادي الجبالي.
شارك في تلك الحكومة باعتباره ينتمي إلى حزب التكتل الذي كان شريكا في الحكم آنذاك. لكن هذه المرة وقع الاختيار عليه دون أن يكون حزبه ممثلا بأي مقعد في البرلمان. وقد أثار هذا المعطى الكثير من الأسئلة خصوصا لدى أنصار النهضة الذين رأوا فيه خيارا تركيعيا من الرئيس سعيّد ولم يباركه رئيسها، فيما قال عنه مدافعون من بقية الائتلاف الحاكم الآن، على غرار حركة الشعب والتيار الديمقراطي أساسا، إنه اختيار ذكي لرجل قادر على التفاعل إيجابيا مع الظرفية التي تمر بها تونس، خصوصا أنه تقلّد مناصب وزارية حساسة خلال فترات صعبة وقادر على تحريك عجلة الاقتصاد.
إثر استقالة الجبالي من منصبه، على وقع جريمة اغتيال الذي طال الحقوقي شكري بلعيد، تم تعيين الفخفاخ في منصب وزير المالية بحكومة علي العريض. لكن هذه الحكومة لم تعمّر طويلا على وقع ارتدادات الاغتيال الأول ومفاعيل الاغتيال الثاني لنائب مجلس النواب محمد البراهمي، لتتم الإطاحة بها إثر اعتصام الرحيل الذي انطلق من أمام مقر المجلس الوطني التأسيسي التونسي إلى عدة مدن تونسية أخرى، أبرزها سوسة وصفاقس، وكان مطلبه الوحيد حل المجلس التأسيسي وحكومة العريض والرئاسة.
اليوم يتجدد المشهد ذاته لكن هذه المرة لا بجريمة اغتيال إنما على وقع معركة كسر عظم بين كتلة الدستوري الحر بقيادة عبير موسي من جهة وحركة النهضة الممثلة برلمانيا بوجوه شتى سئم التونسيون تواترها منذ ثورة يناير 2011 وزادهم حنقا حصول راشد الغنوشي على رئاسته بعد توافق مصلحة مع كتلة قلب تونس انتهى به إلى سدة الحكم.
التاريخ يعيد نفسه
تحديات المرحلة الحرجة التي تلف الوضع محليا وإقليميا، تواجهها شخصية الفخفاخ الوازنة سياسيا نوعاً ما، لكن تفاعلها داخل مشهد سياسي مرتبك غطى على كل نفس حيوي يروم الرجل إظهاره للتونسيين الشغوفين بالتغيير واتخاذ قرارات جريئة
رغم تراجع حزبه، التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، شعبيا في انتخابات أكتوبر 2014 وانتخابات 2019؛ إذ لم يتمكن من الحصول على أي مقعد في البرلمان، واصل الفخفاخ نشاطه في التكتل عكس قيادات أخرى انسحبت أو غيّرت الانتماء.
استمر مؤمنا بأفكاره الاجتماعية والديمقراطية. دافع خلال حملته الانتخابية الرئاسية في سبتمبر الماضي عن قيم التعايش مع الآخر المختلف والعدالة الاجتماعية وخاصة ضرورة تطوير التعليم الحكومي وتوفير الخدمات الصحية الراقية لكافة المواطنين.
يقول عنه عارفون إنه يرتبط بعلاقات واسعة مع الناشطين المدافعين عن قيم الثورة من كافة القوى السياسية مثل الإسلاميين والمنتسبين لتيارات يسارية واجتماعية ديمقراطية مختلفة. وبخلاف حزبه، توقع متابعون للفخفاخ فور الإعلان عن اختياره أن يجد دعم عدة كتل برلمانية مثل حركة النهضة، وحركة تحيا تونس، التي تشير مصادر مطلعة إلى أنها من اقترحت اسمه على الرئيس سعيد.
لكن بين الفينة والأخرى ومع كل معترك سياسي تدخله تونس بمفاعيله المتنوعة برلمانيا وحزبيا ورئاسيا أيضا، يقرّ مراقبون بأن الرجل يلوح متروكا في الزاوية عكس رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد الذي عرفت عنه تحركاته النشطة ومجاراته لجميع المآزق التي وضعتها له حركة النهضة في كل مرة.
في أول تصريح عقب اختياره للمنصب، أكد الفخفاخ أنه سيعمل على أن تتكون حكومته من “فريق مصغر منسجم وجدي يجمع بين الكفاءة والإرادة السياسة القوية والوفاء للثوابت الوطنية وأهداف ثورتنا المجيدة“. وتعهد في فيديو بثته الرئاسة التونسية عبر فيسبوك بالعمل على “إرساء شروط ومؤسسات الدولة العادلة والصادقة والقوية”، ووصف الدولة “العادلة والصادقة والقوية” بأنها الدولة التي “تنصف فئاتها وجهاتها الأضعف وتنهي عقود الفقر والتهميش”. كما تعهد الفخفاخ بالامتناع “عن الدخول في أي مناكفات أو نزاعات سياسوية ضيقة”.
هذا الكلام يستشعر التونسيون جانبا صدقيا فيه أحيانا فيما يلفّ الغموض جوانب عديدة منه خصوصا في علاقة بالمنظمة النقابية الأكبر في تونس الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يبدو أنه مصرّ على الدخول في معركة كسر عظم مع الحكومة بعد محطة تهدئة مؤخرا خاضها الطرفان بالنقاش على أمل إخماد لهيب الاحتجاجات الاجتماعية المطلبية التي عاشتها تونس فور خروجها من دوامة أزمة كورونا وتنذر بتصعيد أكبر في الأيام القادمة.
إضافة إلى العلاقة المتوترة مع اتحاد الشغل تعمل بعض الأحزاب الموالية لحركة النهضة، أساسا ائتلاف الكرامة وقلب تونس، على تدوير أسطوانة الفراغ السياسي وغياب الحزام السياسي الكافي للحكومة بما يجعلها عاجزة عن الدفع بخطوة الإصلاح الاقتصادي إلى الأمام ومعالجة مشاكل التنمية ومحاربة الفساد. هذا الثالوث الذي يتكرر طرحه على أجندة جلّ حكومات ما بعد الثورة دون أن تتخذ أيّ منها قرارات جريئة، ما يدفع إلى التشكيك في قدرة الحكومة الحالية على الإيفاء بمطالبها مثلما سبقها من الحكومات.
ند للغنوشي أم ظل لسعيّد
خلافا لكل تلك العراقيل تبرز العلاقة المتوترة مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي من أكبر العوائق التي تهدد بنسف المسار السياسي ليس فقط لحكومة الفخفاخ وإنما قد تتعدى مفاعيله إلى أبعد من ذلك بما أنه بات يهدد السيادة الخارجية لتونس في علاقة بالملف الليبي وعدة ملفات أخرى إقليمية ودولية تتطلب توافقا لا سياسة مناكفة وتضليل.
وفي هذا الإطار يطرح سؤال ملحّ يفرض نفسه: أي موقف لرئيس الحكومة من مسائل حيوية تهم مصلحة البلاد داخليا وخارجيا؟ كيف يفهم المتابعون مسألة الحدود التي لا يجب أن يتداخل فيها عمل الحكومة مع عمل البرلمان والرئاسة؟ لماذا تكاد تختفي صورة الفخفاخ وراء صورة الرئيس سعيد دون أن تتناظرا تماما مثلما كان عليه الوضع مع يوسف الشاهد والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي قبل فك الارتباط؟ كل هذه الأسئلة الحارقة باتت تبحث عن إجابات داخل مشهد سياسي تغلب عليه الضبابية وزادته توترا التحركات المرتبكة لرئيس حركة النهضة وتدخله في العديد من الملفات آخرها دعوته إلى توسيع التحالف الحكومي.
لكن الحوار الذي أجري مؤخراً مع رئيس الحكومة على قناة “التاسعة” الخاصة يبدو لدى البعض أنه وضع النقاط على الحروف وكانت رسائله مباشرة إلى الغنوشي بتفصيل مدقق عكس مقاربة واسعة للحكومة ومن ورائها رئاسة الجمهورية بخصوص العديد من الملفات وعلى رأسها الملف الليبي.
دعا الفخفاخ في تحذير وجهه إلى الغنوشي إلى الكفّ عن إدخال البلاد في أي اصطفاف كان، لافتا إلى أن موقف تونس واضح ولا يحتاج تفسيرا نظرا للعلاقات الراسخة مع جيرانها وأيضا لرؤيتها المعاضدة للجهود الدولية بأن تكون راعية للحوارات بين الليبيين على قاعدة تقريب وجهات النظر لا تغذية النعرة بين هذا الطرف أو ذاك.
أما داخليا، فقد فسر الرجل مقاربة الغنوشي للوضعية الحالية التي يمرّ بها الائتلاف الحكومي والدعوة إلى إدخال تعديلات عليها وتوسيعها ولائحة سحب الثقة منه، بكلمات واضحة لا لبس فيها حين قال “أنا قراري لا يتغيّر. اخترت الطريق الصعب وأريد أن أواصل في هذا الطريق، جئت من أجل قضية إصلاح البلاد وإخراجها من الخطأ الذي تسير فيه ولن أحيد عنها".
الفخفاخ شخصية وازنة من حيث موقعها السياسي وتطلعات المرحلة الحرجة التي تلف الوضع محليا وإقليميا، لكن تفاعلها داخل مشهد سياسي مرتبك غطى على كل نفس حيوي يروم الرجل إظهاره للتونسيين الشغوفين بالتغيير واتخاذ قرارات جريئة بدل التخفي والاكتفاء بالمحاورة الشفافة في الأزمات، والأهم من ذلك التقيّد بوضعية نظام الحكم الحالي للمزيد من فرض هيبة الدولة في بعض الملفات وخصوصا الملف الليبي.