إلغاء دورة قرطاج السينمائي: محاولة انتحار ثقافي

الفلسطينيون لم يفعلوا بأنفسهم ما فعلته وزارة الثقافة التونسية بنفسها فهاهم يحتفلون بإرثهم الثقافي داخل أراضيهم وفي المنافي وبلدان المهجر ويقيمون الدليل على أنهم يستمرون ويحيون مع قضيتهم بالثقافة.
الأربعاء 2023/10/25
مهرجان قرطاج السينمائي منصة داعمة للقضايا العادلة

حين فوجئت شخصيا، بإلغاء الدورة الحالية لمهرجان قرطاج السينمائي المقررة إقامتها ما بين 28 أكتوبر و4 نوفمبر، كتبت على مدونتي الخاصة على صفحات السوشيال ميديا، عبارة تمزج بين الغضب والسخرية تقول “أراد أن يغيظ زوجته فأخصى نفسه”. 

ومهما رأى بعضهم في هذه التدوينة بعض الفجاجة والمجانبة للذوق العام، فإن الباحث والأديب العربي الكبير طه حسين، قد استخدمها يوما، للتعبير عن غضبه من الإضرابات والاحتجاجات الطلابية التي تخرّب المنشآت العامة وتضر بسير الدروس.

وإذا كانت المستجدات والأحداث الدامية في غزة هي ذريعة القائمين على إدارة هذا المهرجان الأشهر والأقدم في أفريقيا والعالم العربي من وراء هذا القرار الصادم، والذي لم تعهده البلاد حتى في أحلك ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن على المهتم والمتابع أن يتنبه إلى جملة من المعطيات والحيثيات التي قد تكون مضللة.

أولها أن الهيئة المنظمة لهذه التظاهرة السينمائية الكبرى ـ ورفعا لكل التباس ـ قد نوهت بأنها ألغت كل “مظاهر الاحتفال” يوم الافتتاح الذي كان مبرمجا حسب المواعيد المقررة، وذلك تضامنا مع الشعب الفلسطيني في محنته عبر “المرور مباشرة إلى المسابقات الرسمية وتعديل البرنامج احتراما للأوقات العصيبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني” كما أكدت الهيئة في بيان لها منذ يومين.

◙ ليس أمرّ من أن تكبو السينما التونسية بعد قرن كامل من الإنجاز والتألق، وليس أكثر وجعا على النفس أن تتعطل احتفالية انطلقت عام 1966 على يد “عم الطاهر شريعة” ورفاقه المؤسسين

وإذا أسلمنا القول بأن هذا التوضيح الذي يصب في خانة “تبرئة الذات من نوايا الاحتفال” كحالة إعلان للابتهاج في نظر المدمنين على العبوس والتجهم، فإن هؤلاء قد فاتهم ـ أو هم يتجاهلون ـ أن إقامة الاحتفاليات الثقافية في حد ذاتها، هي أقوى أشكال مقاومة الهزيمة والقنوط، وأرقى مظاهر الانتصار على اليأس، والاحتفاء بالحياة.

هذا بالإضافة إلى أن أيام قرطاج السينمائية في جوهرها منصة داعمة للقضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي تحجز دوما مكانا استثنائيا في برمجة المهرجان منذ تأسيسه سنة 1966، كما لا ينبغي أن ننسى احتفاء قرطاج الدائم بالمبدعين الفلسطينيين مثل ميشيل خليفي ورشيد مشهراوي وإيلي سليمان وغيرهم وكذلك ممن طرحوا الهم الفلسطيني في أعمالهم من العرب والأجانب.

هل بات المدافع عن قرطاج السينمائي في موقع “الدفاع عن الذات وإبعاد الشبهة” حتى يذكّر أن حضور السينما الفلسطينية في الدورة التي كانت مقررة قد تم الإعلان عنه قبل العدوان على غزة وشمل تكريم المخرج هاني أبوأسعد كما تضم مختلف الأقسام الرسمية والموازية في المهرجان أعمالا لمنتجي أفلام فلسطينيين، بالإضافة إلى الإعلان عن عرض فيلم “جنين 2023” للسينمائي الفلسطيني محمد بكري المشارك في المسابقة الرسمية، وغير ذلك من مظاهر الاحتفاء بكل ما هو فلسطيني في الوجدان التونسي.

أقل ما يقال في هذا القرار الصاعق، أنه تعسفي، أرعن ويفتقر للحكمة والرصانة في عصر تحمل فيه الثقافة راية تقدم الدول والمجتمعات، وتقود قاطرة كل أشكال التنمية البشرية فهل من الصواب أن يحرم الواحد نفسه من فرصة تسجيل حضوره ومشاركته وفاعليته في برلمان التاريخ؟

لا شيء يبرر هذا الخطأ القاتل الذي ارتكبته وزارة الثقافة في تونس، وليس هناك من وسيلة لإصلاحه غير التدارك، والعودة لعقد هذه الدورة في أقرب الآجال كي لا يصاب هذا المهرجان بمقتل، ويصاب معه جمهوره ومتابعوه وضيوفه بالإحباط والخذلان. 

الكرة ليست فقط، في ملعب الدوائر الثقافية المتخصصة وجمعيات المخرجين ومنتجي السينما في تونس، والتي ما تنفك تعقد الاجتماعات، تصدر البيانات، تستنكر وتندد، وإنما هي مسألة سيادية في غاية الحساسية، وينتظر التونسيون من أعلى سلطة في البلاد حسم الأمر، والانتصار للثقافة التي كانت ولا تزال خبز التونسيين وبترولهم وبوصلتهم ومجالهم الحيوي للعبور نحو الأفضل.

◙ أيام قرطاج السينمائية في جوهرها منصة داعمة للقضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي تحجز دوما مكانا استثنائيا في برمجة المهرجان منذ تأسيسه سنة 1966

لم يفعل الفلسطينيون، أنفسهم، ما فعلته وزارة الثقافة التونسية بنفسها، فهاهم يحتفلون بإرثهم الثقافي داخل أراضيهم وفي المنافي وبلدان المهجر، ويقيمون الدليل على أنهم يستمرون ويحيون مع قضيتهم بالثقافة، فكيف يأتي من يزايد على قضيتهم ويساهم في إسكاتها من حيث لا يعلم ولا يقصد.

سنبقى مع فرضية حسن النوايا، ونقنع النفس بأن ما جرى كان مجرد سوء تدبير، وتسرع في اتخاذ قرار أضر بمئة عام من السينما التونسية كما يدل عليها ملصق الدورة الذي تصدرته وفي صورة جميلة وموحية تمجد المرأة التونسية والعربية: هايدي تمزالي، ابنة رائد السينما التونسية سمامة شكلي، وهي أول ممثلة وكاتبة سيناريو ومونتيرة أفلام في تونس والعالم العربي.

كتبت هايدي تمزالي المشاهد الأولى للسينما الروائية التونسية وهي كذلك أول ممثلة ونجمة للأفلام الأولى في تاريخ السينما التونسية: فيلم “زهرة”(1922) و”عين الغزال” (1924).

ليس أمرّ من أن تكبو السينما التونسية بعد قرن كامل من الإنجاز والتألق، وليس أكثر وجعا على النفس أن تتعطل احتفالية انطلقت عام 1966 على يد “عم الطاهر شريعة” ورفاقه المؤسسين، من الذين يرون أن مع دوران بكرة عرض الأفلام، تدور الأرض وتزهر الحياة أملا وتحديا.

لقد نسي بعض المؤيدين لقرار إلغاء الدورة أن السينما ليست ترفيها بمفهومه الساذج الرخيص، وأن القانط والمهزوم هو ذاك الذي لا يحتفي بالجمال والإبداع.

9