إسكندر تاج تونسي يصنع من جدارياته متاحف في الهواء الطلق

ينظر الفنان التشكيلي التونسي إسكندر تاج إلى الحياة في بلده تونس بالكثير من الترقب والالتزام، حيث يستوحي منها أفكارا تمكنه من الإسهام في تزيين القرى بجداريات ضخمة، تحول الشوارع والأماكن العامة إلى متاحف مفتوحة تعيدنا إلى الهوية وخصوصياتها لكنها تذكرنا بأهمية الحفاظ على الطبيعة الأم.
أحيانا يحضرنا سؤال كيف يمكن للفنان أن يكون مربيا ومصلحا لجيل جديد من الناشئة وفي نفس الوقت فنانا صاحب ذائقة يمكن أن يرفع من مستوى الذوق الجمالي والمساهمة في تطور المجتمع وتجميل الحياة؟
الفنان التونسي إسكندر تاج ليس له وقت للمعارك الصغير التي يلهو بها الكثير من الفنانين وليس له الوقت الكافي إﻻ للعمل الفني في المساهمة ببناء وطن أجمل، فنان يمتلك قدرة كبيرة على نقل الواقع وإضافة ملامح محلية تونسية ليس فقط على وجوه النساء التي غالبا ما تكون أيقونة أعماله الجدارية، بل كل التفاصيل في أعماله تحيلك إلى الهوية الوطنية من مفردات تونسية كالزليج الذي يقوم بتركيبه "بالرسم" في أجزاء من أعماله ليضفي عليها خصوصية ويرفع من قيمتها بأن تكون ذات مقترح جمالي متفرد وليس نقلا مباشرا من الواقع.
إنه فنان يفكر ويقترح ويضيف إلى الأشياء المرسومة من عنده الكثير فتصبح أعماله ذات قيمة فنية مضافة، فهو يراعي الجانب الجمالي المعاصر مع مراعاة ذائقة الناس والنزول عند رغباتهم في أن يكون جزءا من القصة على أقل تقدير يحيطها الكثير من الوضوح حتى يتواصل مع الجمهور بكل يسر.
ومن مميزات هذا الفن أو ما يعرف بفن الشارع أنه هو من يبادر إلى الاقتراب والتواصل مع المتلقين من كبار وصغار، ويعلن عن وجوده في مناطق عديدة ليجبر الكثير من الجمهور على المرور من أمامه والتوقف عنده والتواصل معه وربما الاستمتاع بهذا المنجز الفني الذي سيترك أثره عند الناشئة من أجيال جديدة بكل تأكيد في تهذيب النفس والروح وصقل المعرفة والخبرة الجمالية عندهم.
وليس الحديث هنا عن أسلوب رسم أو طريقة معالجة بقدر ما هو كلام عن رسالة يقوم بها الفنان التونسي إسكندر تاج، وهو رسام غرافيتي من مواليد المنستير - تونس، وتبدو رسالته غاية في الأهمية ألا وهي تقريب المسافات الشاسعة بين العين والعمل الفني؛ بين المنجز الإبداعي الذي كان يمكث في دور العرض والمتاحف بعيدا عن متناول المتلقي الذي هو من أساس اكتمال العملية الإبداعية، وحالة النظر والاستمتاع بالمنجز الفني من رسم ونحت وأعمال تركيبية أخرى.
وخروج الفنان إلى الشارع والفضاءات المفتوحة قلّص من هذا التباعد، بل شجع الكثير من الناس على التفاعل المباشر مع هذه الأعمال. ويبدو الفنان تاج مدفوعا بالأمل في ترقية الذائقة العامة وتحسين ظروف البيئة والمحافظة عليها عبر تزيين الأمكنة والفضاءات العامة بأعمال فنية تصبح متاحف في الهواء الطلق تحد من العبث والتلوث لأنها تصبح أمكنة ذات خصوصية فنية تخص الجميع ولزمت المحافظة عليها من الجميع أيضا.
ويذكر أن الفنان تاج درس مدة خمس سنوات في المعهد العالي للعلوم وتكنولوجيات التصميم، اختصاص تصميم صورة، وبعد سنوات من العمل خرج من المرسم إلى الشارع ليقترب بمنجزه الإبداعي ويكون أكثر حضورا في وجدان الجمهور.
فن الشارع يخلق في الجدار حياة جديدة لتأثيث الفضاء وجعله أشبه بمتحف في الهواء الطلق. يركز إسكندر على المجال البيئي في المحافظة على الحياة "البكر" والتعريف بهذه الأمكنة من الجانب السياحي للوطن؛ فالفنان جوال يتنقل من منطقة إلى أخرى، خصوصا في مرحلته الحالية وهي مشروع 24 قرية في 24 ولاية (محافظة)، كان قد بدأ العمل عليه منذ فترة قصيرة. بداية الحلم كانت من قرية صواف التابعة لإحدى معتمديات الجمهورية التونسية، التابعة بدورها لولاية زغوان.
ويقوم المشروع عموما على التواصل مع أهل كل قرية يراد تنفيذ المشروع فيها بسؤال عن المكان المخصص نفسه من الجهات الرسمية بكل موافقاتها، مع فهم أكثر بعد الزيارة إلى كل مكان والتواصل مع السكان المحليين بشأن نمط حياتهم وطريقة تفكيرهم، لتكون اختياراته أفضل من حيث الموضوع وطريقة إنجازه.
وتصبح الجداريات ملكا للناس وللشارع، كما أن مهمة الفنان تنتهي بعد الانتهاء من رسم عمله فتصبح هذه الأعمال الجدارية متاحة للنقد من الجميع وليس للفنان أي دور بعدها إلا الانتقال إلى عمل آخر في مكان آخر. هو فن يحيي الشارع بل في الكثير من الأحيان يحيي مدينة بأسرها، حوار أكثر قربا مع الجمهور وتفاعل بشكل إيجابي.
وبما أن الجداريات التي تعتبر من أهم سمات فن الشارع مع المنحوتات والتركيبات الإنشائية الأخرى هي بمثابة تأثيث لفضاء المدن وتهذيبها، يأتي الفن الإيكولوجي كمحافظ على البيئة وخصوصا في الغابات والأرياف والحقول، وهي المحيطة بتلك المدن ورئتها التي تتنفس بها، ويتم التعبير عن الفن الإيكولوجي بواسطة الكثير من الأساليب ومنها الرسم والنحت والتصوير بالفيديو والفوتوغرافي والتركيبي.
وأغلبها لا يمكن اقتناؤها أو عرضها في قاعات عرض تقليدية أو متاحف لكبر حجمها واشتراك الطبيعة نفسها في تحديد معالمها. وكما حدث عند إقامة الفنان روبرت سميثسون في أواخر الستينات من القرن الماضي معرضا بعنوان "أعمال الأرض"، كانت الأعمال نقطة تحول في تاريخ الفن الحديث فأصبحت عدة أعمال فنية باهظة جدا لا يمكن اقتناؤها لأنها متداخلة مع الطبيعة وغير منفصلة عنها في الحقول والغابات وفي الصحاري الكبرى والبحار.
روبرت سميثسون نحات وفنان ومصور أميركي، وهو صاحب منحوتة السد الحلزوني العملاق المكون من الاهتمام بالطبيعة والعمل عليها في الصخور والأملاح والطين والماء بطول حوالي 450 مترا وبعرض 4 أمتار ونصف المتر.
ومن هنا بدأ الفنان في الإشارة إلى البيئة والخطر المحدق بها وضرورة التوجه إلى الطبيعة والعمل بالفن البيئي كأداة لتوجيه الناس ومحاولة تقريبهم إلى حياة خالية من الملوثات التي تنتجها التقنية الحديثة ومغادرة المدن والتوجه إلى الفضاءات الكبرى والصحاري.
ومن المهم جدا التوجه إلى مثل هذه المشاريع الفنية في بلدنا خصوصا أننا نمتلك كليات فنون ومعاهد عليا متخصصة في الفنون وتقوم بتخريج الكثير من الفنانين، منهم كثيرون ينتظرون نوعا من هذا الدعم بأفكار وتوجيه من بعض الفنانين والكثير من الدعم المادي لتنفيذ هذه المشاريع في العديد من الأماكن التي تحتاج المدن التي نحيا بها.