إرث محمد بن عيسى الثقافي والإنساني حاضر في معرض الكتاب بالرباط

مفكر عزز الثقافة والفكر مخلدا اسمه في ذاكرة المغرب.
الأربعاء 2025/04/23
استعادة لمسيرة واحد من أهم مثقفي المغرب

لم يكن الراحل محمد بن عيسى اسما عابرا في تاريخ المغرب، وإنما كان سياسيا ودبلوماسيا، ومساهما في بناء جسور الحوار بين مختلف الثقافات والشعوب، وكان له دور كبير في تأسيس أول معرض دولي للكتاب في المغرب إلى جانب إنجازات ثقافية وفنية مهمة، لذا لا يمكن إلا أن تكون ذكراه حاضرة في معرض الكتاب الدولي المنعقد حاليا بالرباط، عبر ندوة شارك فيها مثقفون وسياسيون بشهادات عن الراحل.

الرباط - بعد شهرين تقريبا على رحيل محمد بن عيسى، وزير الخارجية ووزير الثقافة المغربي الأسبق، ومؤسس موسم أصيلة الثقافي، الذي يُنظم بمدينة أصيلة منذ أكثر من أربعة عقود، حضرت ذكراه ومنجزه الثقافي والإنساني خلال تكريم خاص له في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، عرفانا لتكريسه حياته للشأن الثقافي عبر ندوة خصصت لتكريمه بعنوان “في الذاكرة: بصمات في اتجاه الخلد تكريما لمحمد بن عيسى”.

شارك في الندوة مجموعة من الشخصيات الثقافية والسياسية المهمة، من بينها الشاعر والكاتب والوزير السابق محمد الأشعري، الذي شارك مرارا في موسم أصيلة الثقافي، والذي قال إن “من بين العلامات الدالة على عبقرية بن عيسى واستباقيته، هو تنظيم أول معرض دولي للكتاب بالمغرب سنة 1987، في زمن لم تكن فيه سوق النشر تتجاوز إنتاج عشر روايات سنويا، وعدد مماثل من الكتب في العلوم الإنسانية والاجتماعية”، مضيفا أن شبكة المكتبات كانت شبه منعدمة، والتوزيع معدوما، ودور النشر مجرد مبادرات فردية “وليست صناعة بالمعنى الدقيق.

ورأى أن محمد بن عيسى “راهن على المستقبل، وأسّس لمعرض كان يشبه أي شيء إلا معرضا قبل أن يتطور إلى منصة دولية حقيقية، تستقطب مئات العارضين من مختلف أنحاء العالم، وتعتبر هذه واحدة من بصماته التي تؤكد أنه لم يكن أسير الماضي، بل عاش من أجل المستقبل.”

رمز الثقافة والفكر

محمد المهدي بنسعيد: بن عيسى غير مشهد الثقافة والفكر في المغرب
محمد المهدي بنسعيد: بن عيسى غير مشهد الثقافة والفكر في المغرب

في كلمته بالمناسبة قال وزير الثقافة والشباب والتواصل محمد المهدي بنسعيد إن “التكريم هو مجرد خطوة أولى للحفاظ على إرث محمد بن عيسى وتثمين أعماله التي استمرت لسنوات طويلة، وإننا لا نحتفل اليوم بماض بعيد، بل نؤكد أن ثقافة محمد بن عيسى ستظل مستمرة من خلال جميع المشاريع التي أطلقها والتي ستظل تؤتي ثمارها للأجيال القادمة، لأن الراحل محمد بن عيسى كان رمزا بارزا من رموز الثقافة والفكر، وعلما من أعلام التدبير العمومي والسياسة ببلادنا. وبرحيله يفقد المغرب والفضاء المتوسطي ودول الجنوب شعلة مضيئة في سماء الدبلوماسية والثقافة والفكر والحوار”، واصفا المثقف الراحل بـ”الرجل الفريد في خصاله الإنسانية الرفيعة أو في رصيده مترامي الأطراف.”

“لقد كان محمد بن عيسى شخصية متعددة الأبعاد”، يقول الوزير بنسعيد، ويضيف “لقد غيّر مشهد الثقافة والفكر في المغرب، وساهم في جعل أصيلة منصة للتلاقي الثقافي بين المفكرين والسياسيين من جميع أنحاء العالم”، مشيرا إلى أن “بصمات الراحل لا تعد ولا تحصى، من خلال نشاطاته الفكرية وأعماله الدبلوماسية، حيث أضاف إلى الحياة الثقافية المغربية بعدا عالميا وأصبح نموذجا للاندماج بين الثقافة والسياسة. ولم يقتصر تأثيره على المجال الثقافي فحسب، بل كان أيضا شخصية محورية في الدبلوماسية المغربية، حيث إن علاقاته الدولية كانت دائما تصب في خدمة مصالح الوطن، وجعلت من المغرب لاعبا رئيسيا في الساحة الدولية. وهو ما جعل اسمه يتردد في أروقة السياسة والثقافة في مختلف العواصم الكبرى.”

وخلال جلسة بعنوان “بصمات في اتجاه الخُلد”، ترأسها الأكاديمي والروائي مبارك ربيع، أبرز الوزير بنسعيد أن الفقيد “كان – رحمة الله عليه – فاعلا في مسرح الأحداث، منذ تميّزه في حقل الإعلام داخل منظمات دولية، إلى أن وافته المنية في شهر فبراير الماضي”، مضيفا أنه “بجودة عمله على المستويين المحلي والدولي نال الثقة الملكية، وتقلد حقيبة الثقافة في بلادنا لسنوات بكل كفاءة واقتدار، ولا يزال رصيده التدبيري يُذكر إلى اليوم ضمن أعمدة الصرح الثقافي للمملكة، ومنها هذا المعرض الدولي للنشر والكتاب الذي يُكمل هذه السنة عقده الثالث.”

حاتم البطيوي: الراحل ملهم للأجيال القادمة بما تركه من إرث ثقافي وإنساني
حاتم البطيوي: الراحل ملهم للأجيال القادمة بما تركه من إرث ثقافي وإنساني

من جهته أبرز الكاتب والشاعر الأشعري جوانب من المشروع الثقافي لمحمد بن عيسى في أصيلة، مؤكدا أنه تمكن من تحويل مدينة صغيرة إلى مركز إشعاع وطني ودولي من خلال منتدى أصيلة الثقافي، الذي أطلقه قبل نحو نصف قرن، وتمكن من احتضان حوارات دولية، وندوات فكرية رفيعة، وجوائز أدبية تحمل أسماء كبار الأدباء مثل محمد الزفزاف، وتيم صالح، وكولاند حيدري.

وأوضح أن “حضور الأستاذ بن عيسى ظل وهّاجا في التدبير الثقافي من خلال الروابط والشراكات والتنسيق الذي لم يتوقف يوما”، مشيرا إلى “حرصه وإصراره على النهوض بالحقل الثقافي بالمغرب، إدراكا منه لمركزية الثقافة في كل تدبير مجتمعي ينشد النماء والازدهار. فمن الثقافة، التي تحتاج إلى ملكات فكرية جامعة، توفرت لديه بلا منازع، وَلَج الفقيد سماء الدبلوماسية بحنكة نادرة، سواء كسفير في الولايات المتحدة الأميركية أو كوزير للخارجية، في ظرفية مثقلة بصراعات جيوسياسية، قام بتدبيرها بحنكة رجال الدولة الكبار.”

بن عيسى المربي

في مداخلته أكد حاتم البطيوي، الذي خلف محمد بن عيسى في الأمانة العامة لمؤسسة منتدى أصيلة، بتأثر واضح “لقد رافقته عن بُعد، كأحد أطفال أصيلة الذين كبروا في كنف موسمها الثقافي، ووجدوا ضالتهم في مرسم الأطفال بقصر الثقافة، كما رافقته عن قرب مع توالي الأيام والسنين، ورغم كل ذلك ظل ‘السي بن عيسى’ بالنسبة لي، ولباقي زملائي ورفاقي في جمعية المحيط، التي أصبحت لاحقا مؤسسة منتدى أصيلة، شخصا متعدد الأبعاد والمزايا، فهو المثقف، والسياسي، والدبلوماسي، والفنان، والمرشد، والمعلم، والمربّي، وقبل كل شيء، هو الإنسان، الذي تلمس إنسانيته الفذّة منذ الوهلة الأولى.”

محمد الأشعري: بن عيسى عاش من أجل المستقبل الذي هو حاضرنا اليوم
محمد الأشعري: بن عيسى عاش من أجل المستقبل الذي هو حاضرنا اليوم

“لقد غادرنا إلى دار البقاء، لكن إرثه وأفكاره ورؤاه ستظل تلازمنا مدى الحياة”، يقول البطيوي، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ويستدرك “بل ستظل مصدر إلهام لنا وللأجيال القادمة، وما قام به في أصيلة على امتداد أكثر من 45 سنة هو في نهاية المطاف إنجاز يصب في خدمة الإنسان. ومن ثم، فإن البُعد الإنساني، إلى جانب البعدين الثقافي والسياسي – الدبلوماسي، كان الأساس في مسيرته المتميزة، ومنذ انطلاقة مشروعه الثقافي والتنموي في أصيلة راهن الراحل على الطفل باعتباره عماد المستقبل، وحرص على أن ينشأ هذا الطفل في بيئة نظيفة، تُلهمه الإبداع، وتمكّنه من النظر إلى العالم بروح إيجابية، مفعمة بالجمال والفن”، موضحا أن “من هنا جاءت فكرة إنجاز الجداريات الفنية في أزقة المدينة العتيقة.”

ونوه الأكاديمي والروائي مبارك ربيع بالمسؤولية التي يتحملها الآن البطيوي في الاستمرار على نهج الإشعاع الذي خلفه محمد بن عيسى، لأن “هذا الرجل قد رافق الراحل ورافق المشروع الثقافي منذ بداياته الأولى ولا يزال مسايرا له بفكره ومجهوده حيث راكم خبرة كونه كان مكلفا بالعلاقات العامة والتواصل”، وأضاف مبارك أن “تكوين البطيوي الأكاديمي أو القانوني وتجربته في مجال الإعلام يجعله مؤهلا في هذا الباب لتحمل هذه المسؤولية الجسيمة، مع إرادة المثقفين لدعم هذا الإرث الثقافي.”

أما الروائي والكاتب أحمد المديني، فقد وصف بن عيسى “بالأخ والأستاذ المربي والصديق”، بقصيدة شعرية تعبر عن حبه وتأثره بفراق رفيقه، مؤكدا أننا “سنعيش ما بقينا حلما دائما أنك هنا معنا وتفتتح الدورات القادمة لمنتدى أصيلة عاما بعد عام وتستقبل الزوار من كل العالم وصوتك العذب يقدم هذا ويداك تصفقان تقديرا لذاك.”

الفقيد كان فاعلا في مسرح الأحداث، منذ تميّزه في حقل الإعلام داخل منظمات دولية، إلى أن وافته المنية في شهر فبراير الماضي
الفقيد كان فاعلا في مسرح الأحداث، منذ تميّزه في حقل الإعلام داخل منظمات دولية، إلى أن وافته المنية في شهر فبراير الماضي

وتزامن هذا التكريم للراحل محمد بن عيسى مع معرض جماعي لأعمال المشاغل الفنية المنظمة في إطار الدورة الربيعية لموسم أصيلة الثقافي الدولي السادس والأربعين، بحضور نخبة من الفنانين والمثقفين وعشاق الفن والإبداع، والذي انطلق مساء السبت بقصر الثقافة بأصيلة، ويضم حوالي 60 عملا فنيا أنجزها بالكثير من الدقة والإبداع فنانون من مشارب مختلفة شاركوا في مشاغل الرسم والنقش والطباعة الحجرية، التي أقيمت في إطار هذه الدورة من الموسم والمخصصة للفنون التشكيلية، بالإضافة إلى العشرات من الإبداعات التي أنجزها الأطفال المشاركون في ورشة “مواهب الموسم”.

وفي إطار الحرص على الإرث الذي تركه الراحل بن عيسى، واعترافا بمنجزه دعا الكاتب والشاعر والوزير الأسبق محمد الأشعري إلى تأسيس متحف دائم يحمل اسمه بمدينة أصيلة، يحتضن الأعمال الفنية التي راكمها مشروعه الثقافي الممتد لعقود وألا يغادرها عمل واحد، لا للعاصمة ولا لأي مدينة أخرى، منبها إلى أننا لا نزال في الخطوات الأولى من حياتنا على مستوى إنتاج الجمال والأفكار، وأن هذه المبادرة ليست مجرد تخليد لاسم، بل ضرورة لحفظ إرث فني وثقافي بات يشكل جزءا من الذاكرة البصرية للمغرب.

وأحد أهم محاور المشروع الذي أشرف عليه الراحل هو “بؤرة الفنون التشكيلية”، يقول الأشعري، حيث قام بن عيسى بإنشاء محترفات فنية أشرف عليها كبار الفنانين، الذين كانوا يتركون نماذج من أعمالهم، ليتم تجميع المئات من اللوحات الفنية المطبوعة، والتي عرض منها الراحل أكثر من مئتي عمل في أحد المعارض الأخيرة، فيجب أن يظل هذا الإرث شاهدا على رهان رجل آمن بأن الثقافة تستطيع أن تُغيّر وجه العالم.

 

اقرأ أيضا:

      • معرض الكتاب بالرباط يواصل فعالياته مركزا على رؤى ونماذج التنمية

12