إدوارد هوبر والسينما.. لوحات شكلت كادرات أهم المخرجين

يعرف الأميركي إدوارد هوبر بأنه رسام واقعي، لكنه في تتبعه للواقعية عند المجتمع الأميركي كان يجسد العزلة والصمت واغتراب الإنسان في المدينة، معتمدا على التلاعب بالمساحات والضوء والظل لخلق هذا البعد الدرامي الذي جعله ملهما لأشهر المخرجين السينمائيين الذين استوحوا من أعماله مشاهد تثري أفلامهم.
في ثلاثينيات القرن الماضي وبينما كان فن السينما في بداياته ولم يمض عليه أكثر من أربعة عقود كان في الولايات المتحدة فنان يلتقط صورا للمجتمع الأميركي والنيويوركي تحديدا ولكن ليس بكاميرته وإنما بريشته ليصور لنا أناسا وحيدين ومنعزلين عن مجتمعهم بواقعية شديدة. هذا الفنان هو إدوارد هوبر (1882 -1967) الذي ولد وترعرع في مدينة نيويورك والذي ستصبح لوحاته يوما ما مرجعا لأهم المخرجين السينمائيين في العالم وتستمر مغرية للرجوع إليها حتى يومنا هذا من شدة حداثتها وواقعيتها وألوانها الزاهية.
لوحات هوبر تصور عزلة واغتراب إنسان العصر الحديث، ورغم مرور حوالي القرن على تنفيذ تلك اللوحات إلا أنها سبقت عصرها كثيرا وتنبأت بما سيؤول إليه الإنسان المعاصر من وحدة، واغتراب اجتماعي وكأنها تتحدث عن عصرنا هذا الذي نعيش فيه اليوم؛ عصر الأندرويد ومواقع التواصل الاجتماعي التي زادت من انعزال واغتراب الفرد.
كان إدوارد هوبر رسام العزلة بامتياز وهو الذي قال عن ذلك “أن تعشق العزلة، هذا يعني أن العالم ليس مكانا جيدا بما فيه الكفاية بالنسبة إليك”. وتتجسد مقولته هذه في لوحته الشهيرة “المطعم الآلي” (عام 1927) التي تظهر فيها سيدة بكامل أناقتها تجلس وحيدة في أحد المطاعم وأمامها فنجان من القهوة وهي ساهمة وقد خلعت إحدى قفازاتها. عرضت هذه اللوحة للمرة الأولى في عيد الحب أثناء افتتاح المعرض الثاني لهوبر في غاليري رين في نيويورك.
حتى لوحاته التي يجتمع فيها أكثر من شخص تعكس لنا وحدة الإنسان وانطواءه كلوحته “غرفة في نيويورك” (عام 1932) وهي لوحة ليلية لرجل يجلس بكامل أناقته وهو يقرأ جريدة في غرفة جلوس منزله المضاء وقبالته فتاة ترتدي فستانا أحمر قد تكون زوجته أو ابنته تعزف على البيانو والضجر باد عليها.
صقور الليل والسينما
في هذه اللوحة، نلاحظ أن لكل من هذا الرجل والمرأة التي معه عالمه الخاص رغم اجتماعهما في مكان واحد وقد أكدت الناقدة الفنية الأميركية، أماندا هالي، هذا الشيء بقولها عن أعمال هوبر “لم تظهر العديد من لوحات هوبر أي شخص على الإطلاق ولكن حتى اللوحات التي تضم أشخاصا حافظت على الشعور بالفراغ”، لتؤكد على كمية الفقر العاطفي والاجتماعي الذي يعيشه إنسان العصر الحديث الذي صورته لنا لوحات هوبر.
أنجز هوبر لوحته الشهيرة “صقور الليل” عام 1942، أي بعد عام من دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية وقصة بيرل هاربر الشهيرة، وهي لوحة تضم أربع أشخاص ثلاثة منهم يجلسون ضمن مقهى ليلي والنادل رجل يضع قبعة برفقة امرأة جميلة والرابع رجل آخر يجلس لوحده على بار المقهى الواقع ضمن شارع مظلم أطفئت فيه أضواء المنازل وحجبت بالستائر كدلالة على الظلمة المقصودة التي كان سكان نيويورك يعيشونها في تلك الأيام حيث تدربوا على تعتيم منازلهم والاعتماد على الأضواء الخافتة في الأماكن العامة خوفا من قصف الطائرات النازية لهم.
جاءت هذه اللوحة كرد فعل من الرسام على قتامة تلك الأيام – وهو الذي عاصر سنوات الكساد والحربين العالميتين – أما المقهى الموجود في اللوحة فهو مستوحى من مقهى حقيقي موجود من قرية غرينتش النيويوركية التي ترعرع فيها هوبر. أقاويل كثيرة قيلت عن هذه اللوحة حيث تعددت التأويلات تجاهها فمنهم من قال إن الفنان نفذها بعد قراءته رواية “قصة قتلة” لإرنست همنغواي ويقال إنها أسست لسينما النوار وهي أسلوب سينمائي ظهر مع فيلم “الغريب في الطابق الثالث” عام 1940.
◄ فضل هوبر أن يكون رسام المشاعر الإنسانية في هذه المجتمعات الحديثة مصورا عزلة ناسها وضياعهم وغربتهم الداخلية
وسينما النوار أو السينما المظلمة مصطلح أطلقه الناقد السينمائي الفرنسي، نينو فرانك، على نوع من الأفلام يحمل ثيمة معينة وترجمته تعني “الفيلم الأسود” وما يميزه عن غيره هو إيقاعه والإضاءة المستخدمة فيه حيث تكون فيه الظلال حادة ويكون هناك تباين كبير بين الظل والنور كالحركة التعبيرية الألمانية وتظهر فيه شخصيات معينة كالمحقق الغامض والفتاة الجذابة. كل تلك العناصر تنطبق على لوحة هوبر “صقور الليل” لذلك يصعب على النقاد تحديد إذا ما كان هوبر هو من ابتكر ذلك النوع السينمائي أم أنه تأثر به من حبه الشديد للسينما.
هو الذي بدأ حياته برسم ملصقات الأفلام بقوله “عندما لا أشعر برغبة في الرسم أذهب لمشاهدة الأفلام لأسبوع أو أكثر” وكافأته السينما بدورها بالرجوع إليه كملهم كبير لصناعها. وأول من وظف لوحة “صقور الليل” في كادر سينمائي هو المخرج روبرت سيودماك بفيلم نوار عام 1946 مقتبس من رواية “قصة قتلة” نفسها لهمنغواي ثم تم استخدامها عام 1981 في فيلم موسيقي بعنوان “قروش من الجنة” هي ولوحة أخرى شهيرة لهوبر اسمها “فيلم نيويورك” (عام 1939) تظهر فيها امرأة تستند على الحائط داخل صالة السينما المظلمة أثناء عرض الفيلم والضوء من خلفها وأجواء الفيلم تدور في الثلاثينيات من القرن الماضي أي أثناء فترة رسم اللوحة.
أما الاستخدام الثالث للوحة “صقور الليل” في السينما فكان في فيلم “بليد رانر” الأيقوني للمخرج ريدلي سكوت، أما المرة الرابعة فكانت مع السينمائي الألماني الكبير فيم فندرز عام 1997 في فيلمه “نهاية العنف”، حيث أعاد تصوير “صقور الليل”. إذا نحن أمام لوحة أيقونية كرست اسم ادوارد هوبر كرسام كبير رغم رسمه مئات اللوحات الأخرى التي تضاهيها جمالا.
هيتشكوك وهوبر
لا يمكننا ذكر أعمال إدوارد هوبر دون ذكر مخرج الرعب والتشويق البريطاني العظيم ألفريد هيتشكوك، حيث استخدم الأخير إحدى لوحات هوبر المميزة وهي لوحة بعنوان “المنزل بجوار السكة الحديدية” (عام 1925) في فيلمه الشهير سايكو حيث كان منزل نورمان بتس (أنتوني بركنز) القاتل المضطرب عقليا نفس المنزل الذي يظهر باللوحة لتنطلق بعدها شهرة هذه اللوحة وتصبح هي الأخرى إحدى أهم لوحات هوبر التي يذكرها النقاد وهي عبارة عن منزل منعزل بجانب سكة القطار لتشمل العزلة الأماكن أيضا في لوحات هوبر وليس البشر وحدهم!
والاقتباسات السينمائية من لوحات هوبر كثيرة جدا ومن أهمها في العصر الحديث فيلم “الطريق الثوري” (عام 2008) للمخرج سام منديس والذي يحكي قصة أبريل ويلر (كيت وينسليت) التي تعيش مع زوجها فرانك (ليوناردو ديكابريو) وأولادها في منزل بإحدى الضواحي الريفية وتشعر بالاغتراب داخل منزلها الزوجي وتتضارب رغباتها في الحياة مع رغبات زوجها الذي تعايش مع روتينه، ورغم حبها الكبير له إلا أنها تصطدم معه كثيرا في الفترة الأخيرة مما يزيد من عزلتها وكآبتها. وقد تم استخدام لوحة هوبر “صباح كاب كود” (عام 1950) لتصوير مشهد وينسليت وهي تقف على نافذة منزلها المحاط بالطبيعة الخضراء.
ولا ننسى لوحة إدوارد الجميلة “تشوب سوي” (عام 1929) أو الطبق الصيني التي تصور امرأتين تجلسان في أحد مطاعم نيويورك والتي وظفها المخرج تود هاينس عام 2015 في فيلمه البديع “كارول” وقد استخدمت تلك اللوحة في تشكيل مشهد المطعم الذي جمع بين كارول (كيت بلانشيت) المرأة الثرية وتيريز (روني مارا) الفتاة الفقيرة التي تعمل في متجر لبيع الألعاب والتي تأججت مشاعر كارول نحوها حين شاهدتها للمرة الأولى في ذلك المتجر أثناء ذهابها لشراء هدية عيد الميلاد لابنها.
ما ذكرناه هو غيض من فيض لتوظيف لوحات إدوارد هوبر من قبل أعظم مخرجين السينما ومدراء تصويرها في تكوين صورتهم السينمائية. ويبقى هذا الفنان من أجمل الفنانين الذين صوروا الإنسان المعاصر في الولايات المتحدة بالرغم من أنه رفض أن يطلق عليه لقب رسام الحياة الأميركية المعاصرة وفضل أن يكون رسام المشاعر الإنسانية في هذه المجتمعات الحديثة مصورا عزلة ناسها وضياعهم وغربتهم الداخلية وهو ما تم فعلا وشعرنا به أثناء مشاهداتنا للوحات هذا الرسام الموهوب.