إدريس وهمنجواي كاتبان وقفا على أرضية مشتركة

قد يتشابه كاتبان في تجربتهما الأدبية دون أن يكون لأحدهما تأثر بالآخر، وقد يمتد التشابه إلى التجربة الحياتية أيضا، وإلى الرؤى والأفكار والأساليب، وهذا ما يمكن رصده مثلا في تجربتي المصري يوسف إدريس والأميركي إرنست همنجواي.
يعد عنصر الشخصية أهم مرتكزات الرواية وأحد محددات الفن السردي بوجه عام، فلا يقوم النسيج الروائي دون مكون الشخصية؛ وهذا ما يجعل الشخصية الروائية من أهم مداخل النقد الروائي، وهو العنصر الذي يشمل عملية بناء الشخصية، بكل ما تشمله تلك العملية من تحديد لأبعاد الشخصية، وبما تحتوي عليه من خصائص داخلية وخارجية واجتماعية، وطرق تقديم الشخصية، فضلا عن تصنيفها، ودراسة العلاقات الناشئة بينها وبين بقية عناصر البنية السردية.
انطلاقا من هذه الرؤية تأتي أطروحة هذا الكتاب “رسم الشخصية الروائية.. بين إرنست همنجواي ويوسف إدريس” للناقد والأكاديمي أحمد الديداموني محمد، والذي يعتمد على المنهج المقارن وفق مفهوم المدرسة الأميركية بمنهجها النقدي حيث تهتم بدراسة الأدب أو الظواهر الأدبية في شموليتها، وليس الأدب من خلال العلاقات والصلات التاريخية بين الآداب والأدباء والوسائط.
الأدب والمجتمع
رسم الشخصية هو العنصر البارز والمسيطر على أسلوب هذين الروائيين مما يسمح باستكشاف جوانب سردية جديدة
يرى الديداموني في كتابه، الصادر عن دار العربي، أن بعض كتاب الرواية يهدفون إلى جعل رواياتهم متسمة بالواقعية الإيجابية نحو مجتمعاتهم؛ بهدف المشاركة في حل المآزق التي يتعرض لها المجتمع، فأصبحت الرواية ذات مفعول إيجابي، ومساهمة فعالة في حل هذه المشكلات، وتبصير الإنسان بقضاياه، وهي تقنيات يستخدمها الكاتب في إنجاح عمله الروائي، فهو يعول في رواياته على الرؤية وقدرته على التخيل، ويعتمد هذا التشكيل على الحدث النامي الذي يتشكل من خلال شخصيات متفاعلة مع الأحداث والوسط الذي تدور فيه هذه الأحداث.
وعند تدقيق النظر في روايات إرنست همنجواي نجده يهتم اهتماما بالغا بعنصر الشخصية، فيجعله محورا مهما في العمل الروائي؛ لذلك اخترته موضوعا لدراستي في هذا الجانب. وقد وفق همنجواي في رسم ملامح شخصياته مع تتبع موقفها من الواقع الاجتماعي الذي تعيش فيه، فجاءت شخوصه مقنعة يتلقاها القارئ على أنها نموذج حي للشخصية المعاصرة.
ويضيف “أما يوسف إدريس يعد من الأدباء الذين تحملوا مسؤوليات مجتمعهم ومشكلاته، فهو ابن زمانه ومكانه، ابن المؤثرات الكبرى التي كونت شخصيته وأحلامه، لكنه استخدم أسلوبًا مختلفًا عن غيره؛ ليشكل ملامح إبداعية خاصة به، وذلك من خلال تطوير رؤيته الخاصة ليصب في النهاية في مصلحة مجتمعه، فأعماله الروائية تفرض نفسها بتميزها، وسحرها الخاص”.
ويتابع “الشخصية في روايات يوسف إدريس شخصية خاصة؛ فهو يختار فئة معينة من فئات المجتمع ثم يرصد إيقاع الأحداث اليومية مع رسم ملامح الشخوص ساكني هذه المنطقة، الأمر الذي يؤكد أنه ابن هذا المجتمع، حيث تشبع بعاداته، وامتزج بتقاليده، وتشرب واقعه بكل مرارته وحلاوته من خلال المعايشة المباشرة مع أصحاب هذا المكان”.
ويلاحظ أيضًا أن يوسف إدريس قد عرض لنا الشخصية المأزومة، والشخصية اللامبالية، والشخصية الجادة القلقة عن طريق واقع اجتماعي متخلخل يسوده الجهل والتحلل من المبادئ والقيم. كما نجده في رواياته يتتبع ملامح هذه الشخصيات وتكوينها بأسلوب متماسك وشيق، فمن خلاله يعكس واقع القيم الأخلاقية التي اهتزت بشدة، كما أنه يرصد مدى توتر العلاقة بين الشباب والسلطة بسبب الإحباطات الشديدة التي تفرضها السلطة على هؤلاء الشباب، فهو يسبح في أعماق شخصياته راصدًا ما يجري في أعماقها من غليان وإحباطات، ومن الملاحظ أيضا أن كل شخصيات يوسف إدريس تجمعها الغربة والتمرد الذي غالبًا ما ينتهي إلى إحباط شديد، بسبب اصطدامها بالواقع الخارجي.
كاتبان متشابهان
يشير الديداموني إلى أن السبب الذي جعله يجمع بين الروائيين -إدريس وهمنجواي- هو أن بينهما الكثير من الأرضية المشتركة، ويعدد بعض المشتركات بداية من أن كليهما قد عمل في الصحافة، فيوسف إدريس نشر مقالا في مجلات ثورية حتى سجن وأبعد عن الدراسة، كما أنه أسهم في تحرير مجلة “التحرير” التي أصدرها الجيش بعد قيام ثورة يوليو 1952، فضلا عن ذلك كتب عددًا من المقالات في مجلة “صباح الخير”، ثم بعد ذلك كتب في جريدة “الجمهورية”، وبالطبع كتب فيها عددًا من المقالات وبعضًا من القصص مثل “قبر السلطان” و”المستحيل” و”قاع المدينة”.
أما همنجواي أثناء دراسته الثانوية فعمل صحافيًّا في صحيفة Trapeze and Tabula في القسم الرياضي وبعد أن تخرج عمل صحافيًّا في جريدة Kanas city Star، ثم عمل موظفًا في Toronto Star، وعمل صحافيًّا في جريدة In Out Time. وعمل همنجواي مراسلا حربيًّا عام 1941 إبان الحرب العالمية الثانية.
كما يذكر الناقد أن كلا الكاتبين خاض الحروب والثورات، فيوسف إدريس أثناء دراسته للطب اشترك في عدد من المظاهرات ضد المستعمرين البريطانيين وضد الملك فاروق، ثم بعد ذلك انضم إلى المناضلين الجزائريين في الجبال ضد المستعمرين الفرنسيين، فأصيب بجرح؛ لذلك منحه الجزائريون وسامًا تقديرا لجهوده في سبيل حريتهم، وحينما عاد إلى مصر كتب في جريدة “الأهرام” سنة 1973 وقد اعترف به كاتبًا مهمًّا من كتاب عصره.
أما همنجواي فقد عمل سائق إسعاف في الجيش الإيطالي خلال الحرب العالمية الأولى، وأثناء خدمته فاز بالميدالية الفضية الإيطالية تقديرًا لشجاعته، لكنه أصيب بعدة إصابات دخل على إثرها المستشفى في ميلان. ثالثًا: عانى كلاهما في بداية حياته من الفقر والفاقة، فيوسف إدريس ولد في فاقوس وكان يعمل مزارعا بالأجرة مع والده، بينما ولد همنجواي في سيسيرو بشيكاغو، ثم ذهب به والداه إلى شمال ميشيجان في كوخ العائلة، وهناك تعلم الصيد.
كما يذكر الكاتب أن كلا الكاتبين حصل على عدد من الجوائز تقديرًا لمهارته؛ فيوسف إدريس حصل على وسام من الجزائر 1961، وعلى وسام الجمهورية 1963، وعلى وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1980. أما همنجواي فتوج بجائزة “بوليتزر” في الصحافة عام 1953 وجائزة نوبل في الأدب 1954 عن رواية “الشيخ والبحر“، وتحول منزله في كوبا إلى متحف يضم مقتنياته.
ويوضح أيضا أن “رسم الشخصية” هو العنصر البارز والمسيطر على أسلوب هذين الروائيين؛ مما سيتيح الفرصة أمام الباحث كي يستكشف جوانب سردية جديدة، مثل استخدام زوايا الرؤية الخيالية والرؤية القولية معًا في إنشاء عالم محكوم بقوانين النسبية، ومثل استخدام التنوع في أساليب رسم الشخصية لرسم صورة متفردة لكل سارد.
كما أن دراسة روايات المؤلفين حسب المنهج المحدد تقدم دليلا على عدم انغلاق النص على قضايا شكلية أو لغوية أو على أعمال بهذه الجوانب دون سواها؛ فيوسف إدريس وهمنجواي من أبرز المنادين بتحميل الأدب بالقضايا السياسية والأيديولوجية، وخاصة في الفترة التي كتبا فيها هذه الروايات، وجاءت الروايات كذلك زاخرة بالفكر الأيديولوجي والرؤى السياسية.
ومن هنا تستطيع أن تثبت هذه الدراسة أن العمل الأدبي لا يتجزأ، وأن المدخل المناسب لدراسة المضمون في العمل الأدبي الروائي هو رسم الشخصيات. سابعًا: إن دراسة شخصيات هذه الأعمال هي المفتاح الأول لتفسير أي عمل قصصي أو روائي عند الكاتبين؛ وذلك لاهتمامهما بعنصر الشخصية في هذه الأعمال أكثر من غيرها.
كما يوضح الناقد أن الشخصية في هذه الأعمال ليست عنصرًا من عناصر البناء الروائي فحسب، وإنما هي العمود الفقري الذي تستند إليه باقي عناصر البناء الروائي عند الكاتبين. تاسعًا: إن دراسة الشخصية من كافة جوانبها في هذه الأعمال تفيد في فهمنا للأشخاص الذين نتعامل معهم، وتساعدنا على التنبؤ بسلوك الشخصيات في الأعمال الأخرى.
ويؤكد الديداموني أن همنجواي ويوسف إدريس برعا في رسم شخوصهما بطريقة دقيقة ومهارة فائقة من خلال تكثيف الدلالات الخاصة حول الشخصيات، فرسما ملامحها وتحركاتها وسكونها وسلوكياتها مع مراعاة البعد الداخلي والخارجي والفكري. وقد استطاع عنصر الشخصية كشف النقاب عن مصادر الكاتبين التي اعتمدا عليها في بناء رواياتهما؛ لذلك فعنصر الشخصية مهم لكشف الأعمال الروائية.
ويوضح كيف اهتم كل منهما بشخصياته؛ فمن خلالها تحركت الأحداث وانسجمت مع بقية العناصر الفنية الأخرى للرواية، حيث اعتمدا في رسم شخصياتهما المحورية على انسجام الشخصيات وتأثر بعضها بالبعض الآخر، وعلى ما بينهما من تشابه واختلاف جعلا الشخصيات أقرب إلى الواقع، كما أعطياها فرصة أن تتفاعل مع بعضها البعض، فتنمو تلك الشخصيات نتيجة لهذا التأثر الذي يشكل مجرى الأحداث التي تدور الرواية حولها. ومن جانب آخر ظهرت ثلاثة أبعاد في شخصياتهما: جسمية، ونفسية، واجتماعية، وتفاوتت هذه الأبعاد حسب مدى تصوير الروائي لكل شخصية، وقد تكاملت الأبعاد مكونة شخصية متكاملة مؤدية دورها على أكمل وجه.
روايات همنجواي تهدف إلى نشر الثقافة والسلام ونبذ الحروب أما روايات إدريس فتهدف إلى نشر المعرفة والثقافة
ويبين أن الكاتبين في رسم شخصياتهما لم يقتصرا على البعد الجسماني، إنما جنحا إلى التحليل الداخلي للشخصيات، وسبر أغوارها، والغوص في خلجاتها، ولمس عقلها الباطن، الأمر الذي أحدث تواؤما وانسجاما بين البعديْن الداخلي والخارجي، فتتبع الكاتبان تطور الشخصية اجتماعيا وفكريا وثقافيا، الأمر الذي جعل الشخصيات تنمو وتتطور تطورا طبيعيا وليس فجائيا أو عشوائيا.
وقد اعتمدا في رسمهما للشخصيات على تقنية التقطير في تقديم تلك الشخصيات، فقدما شخصياتهما من خلال إشارات سريعة منثورة على صفحات الرواية، ولم يقدما المعلومات دفعة واحدة، وجعلا تلك المعلومات تتداخل مع تطور ونمو الشخصيات ومصائرها، مما جعل القارئ شديد الانتباه متشوقا لما سيأتي بعد ذلك. فقد استخدم كل منهما آليات رسم الشخصية مثل الاسترجاع والاستباق والحوار والوصف والسرد والتداعي والحلم وغيرها، فجاءت تلك الآليات بطريقة منطقية؛ مما جعلها تنسجم وتنصهر مع حركة الشخصيات داخل الرواية. كما استخدما أسلوبين في رسم شخصياتهما، هما: التقديم المباشر للشخصية؛ لعرض الصفات العامة لها سواء أكانت هذه الصفات مادية أم معنوية، لكن عندما ينشأ الصراع بين الشخصيات أو صراع الشخصية مع نفسها تبدأ الشخصية في وصف هذا الصراع ومدى أثره عليها، وفي هذه الحالة يعتمد الكاتبان على تقنية التقديم غير المباشر للشخصية.
ويقول الديداموني إن روايات همنجواي تهدف إلى نشر الثقافة والسلام ونبذ الحروب وتقريب هوة الاختلاف، أما روايات يوسف إدريس فتهدف إلى نشر المعرفة والثقافة وتعلم اللغة الإنجليزية، والتعرف على ثقافة الغرب من أجل نمو الذات؛ لخدمة المجتمع والوطن. جاءت بعض شخصيات إدريس بسيطة يصيبها ما يصيب الإنسان العادي من مشاعر وحب وكره ونفاق ومجاملات، وهذا ما يريد الكاتب إيصاله إلى القارئ، وهو أن البساطة والطيبة جاءت لكون هذه الشخصيات ملتزمة بتعاليم الدين ومتمسكة بأخلاقه ومبادئه، وهذا ما لا نراه عند همنجواي، فطيبة الشخصية عنده جاءت من قلة الخبرة والسذاجة.
ومما يخلص إليه: إن الأحداث عند كلا الكاتبين يغلب عليها الطابع الثوري أو طابع المقاومة، وأنهما يشتركان في طريقة تقديم الحبكة الغريزية وأن الأحداث يغلب عليها الطابع الاجتماعي، وإن همنجواي وإدريس يستخدمان أساليب لغوية مختلفة تخدم البناء الفني للروايات وهي: أسلوب السرد، أسلوب الوصف، أسلوب الحوار، أسلوب الحجج، أسلوب السير الذاتية. وقد ساعد البعد الخارجي للشخصية في الكشف الدرامي، وفي التجسيد الرمزي. وكانت الأمراض والعاهات التي عانت منها الشخصيات دافعا كبيرا إلى تحول مسارها، أو سببا في إنهاء دورها الحكائي من خلال هلاكها.