إدريس ديبي المارشال الراقص فوق رؤوس الأفاعي

المارشال ديبي يترك وراءه مسيرة 30 عاما من الحكم، وعهدة رئاسية جديدة لم يدشنها بعد، وتاريخا طويلا من الصراعات والمواجهات والحروب والتحديات. وهو الذي طالما كابد نزاعات ومحاولات تمرد وانقلاب.
السبت 2021/04/24
رجل المواجهات الذي تصدى للإرهاب وقتلته الصراعات

علق أحد التشاديين على خبر مقتل الرئيس إدريس ديبي أثنو قائلاً “بمفاهيم السياسة والحكم مات دكتاتورا، وبمفاهيم الرجولة والشجاعة مات رجلا شجاعا في الميدان، وهو يقاتل المتمردين في شمال البلاد”، وفي الحقيقة أنه كان بإمكان ديبي البقاء في قصر الرئاسة بانجامينا لانتظار ما ستؤول إليه المواجهات، أو إعداد العدة لمغادرة البلاد إلى الجهة التي يود اللجوء إليها.

واجه ديبي الذي خصّ نفسه بلقب “الماريشال” الكثير من التحديات، وتعرض للكثير من محاولات الانقلاب على نظامه، وظهر في مناسبات عدة وهو يمتشق سلاحه ويخوض المعارك ليصنع قدره بنفسه، ربما لأنه كان يدرك طبيعة البلد الذي يحكمه، وما يتميز به من تناقضات عرقية وقبلية وإثنية وسياسية ومن معارضات وتمردات وصراعات ومخاطر إرهابية ومن موقع في قلب العاصفة تحيط به الأطماع والتجاذبات الإقليمية والدولية.

مشهد مشتبك

في العام 2004 تعرض ديبي لمحاولة الانقلاب على نظامه من قبل عسكريين، وتزعم المتمردين العقيد بشير حجار، ولاحقا اعترف ديبي قائلا إن عناصر من الحرس الوطني الرُّحّل التشاديين والحرس الرئاسي حاولوا اغتياله.

الأوضاع من حول ديبي كانت تشهد تحولات عميقة؛ فوضى في ليبيا، وإرهاب في نيجيريا والنيجر والكاميرون، وصراعات دموية مع بوكو حرام، وأزمة دون أفق في دارفور

وبعدها بعامين جرت محاولة ثانية نفّذها أعضاء من الجيش التشادي بقيادة الأخوين توم وتيمان إرديمي، وضابطين رفيعي المستوى كانا قد حاولا الإطاحة بديبي في انقلاب 2004  بالإضافة إلى الجنرال السابق سيبي أجوي، وكان الرئيس آنذاك في مدينة باتا في غينيا الاستوائية، حيث كان يحضر قمة الجماعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا مع زعماء آخرين من وسط أفريقيا، وما إن وصله الخبر حتى عاد إلى بلاده على جناح السرعة، ليواجه مصيره بنفسه، وليحمل بندقيته دفاعا عن منصبه وعن نظامه.

أيضاً في الأول من مايو 2013 أعلنت الحكومة التشادية أنها أحبطت محاولة انقلاب عسكري استهدفت ديبي، واعتقلت عددا من المتورطين كانوا يخططون منذ أربعة أشهر على الأقل للإطاحة بالرئيس، وأضافت أن نائبا في المعارضة شارك في هذه المحاولة.

هذا غيض من فيض، فحياة ديبي كانت في حد ذاتها مواجهة، منذ أن شارك مطلع الثمانينات في حركة تمرد ضد حكم الرئيس الأسبق غوكوني عويدي، الذي حكم البلاد عام 1979 ويعيش حالياً في المنفى، وهو ينتمي إلى الجزء الشمالي من تشاد. كما أنه ابن عويدي كيشدمي، سلطان “التيدا”، ونشط منذ أواخر ستينات القرن الماضي في جبهة  التحرير الوطني “فرولينا” التي كانت مدعومة من ليبيا، وكانت رافضة لهيمنة المسيحيين الجنوبيين المدعومين من فرنسا على الحكم تحت رئاسة فرانسوا تولبمباي الذي حكم تشاد منذ استقلالها عن فرنسا حتى 13 أبريل 1975عندما تم اغتياله في ظل الاضطرابات السياسية التي بلغت حد الحرب الأهلية ليخلفه الجنرال نويل ميلاريو أودينغار أحد أعضاء مجموعة التسعة العسكرية التي حكمت تشاد من 1975 إلى 1978.

لم يستمر أودينغار في الرئاسة سوى يومين فقط، ليخلفه الجنرال فيليكس معلوم الذي كان سجينا في عهد تولمباي، والذي استقال في العام 1979، عندما كانت البلاد تواجه صراعات دموية وتجاذبات دولية وخاصة من قبل الولايات المتحدة وفرنسا والجارة الشمالية ليبيا في عهد الزعيم الراحل معمر القذافي الذي كان فاعلا أساسيا في الأوضاع التشادية.

ديبي كان يدرك طبيعة البلد الذي يحكمه، وما يتميز به من تناقضات عرقية وقبلية وإثنية وسياسية، ومن صراعات ومخاطر إرهابية ومن موقع في قلب العاصفة تحيط به الأطماع والتجاذبات الإقليمية والدولية.
ديبي كان يدرك طبيعة البلد الذي يحكمه، وما يتميز به من تناقضات عرقية وقبلية وإثنية وسياسية، ومن صراعات ومخاطر إرهابية ومن موقع في قلب العاصفة تحيط به الأطماع والتجاذبات الإقليمية والدولية.

اختير عويدي رئيسا للبلاد بعد مؤتمر لاغوس، بينما كانت الأوضاع الأمنية والسياسية والاجتماعية في حالة انهيار تام، وخرجت العاصمة عن سيطرة النظام. وفي السابع من يونيو 1982 قاد حسين حبري، الذي كان قد تولى منصب رئيس للوزراء وبقي فيه لمدة عام، انقلابا عسكريا أصبح بموجبه رئيسا لتشاد وزعيما لقوات الشمال، وكان ديبي من بين المقربين منه، غير أنه اتهم في العام 1989 بتدبير انقلاب ضد حبري، ففر إلى السودان، ومن هناك استفاد من عمقه الاجتماعي كونه ينتمي إلى قبيلة زغاوة الممتدة بين البلدين وذات الثقل الكبير في مثلث دارفور، ومن تردي الأوضاع الداخلية، ومن الدعم الليبي، فقاد جيشا من المتمردين تحت غطاء حركة الإنقاذ الوطني التي تزعمها، وبعد مواجهات استمرت لمدة ثلاثة أسابيع نجح في الإطاحة بحكم حبري الذي كان مدعوما من قبل واشنطن وباريس ومتهمًا بالتورط في جرائم ضد الإنسانية تسببت في مقتل الآلاف من أبناء شعبه.

بمنطق القبيلة انتصرت “زغاوة” على “القرعان” التي ينتمي إليها حبري وهي مسمى آخر للتبو، لذلك نستطيع فهم التداخل التشادي - الليبي، ودعم تبو ليبيا للمتمردين ضد حكم ديبي، وهو دعم تبين بالخصوص بعد الإطاحة بنظام القذافي في العام 2011.

في الثاني من ديسمبر 1990 اضطر الرئيس حبري إلى مغادرة البلاد والفرار إلى الكاميرون المجاورة مع أسرته ومجلس وزرائه وكبار مساعديه، بعد أن انهارت القوات المسلحة الوطنية التشادية، وإثر تخلي الفرنسيين عنه بعد أن أدركوا أن لا فائدة من مواصلة الإبقاء عليه، فأعطوا تعليمات إلى 1300 جندي فرنسي متمركزين في تشاد بعدم التدخل فيما وصفوه بالنزاع الداخلي.

الرئيس والعواصف

Thumbnail

أعلن ديبي نفسه رئيسا للبلاد، واستطاع الفوز في أول انتخابات رئاسية في تشاد، بعد تأسيس نظام يهدف إلى التعددية الحزبية وصياغة دستور للبلاد، وأعيد انتخابه رئيسا لتشاد في عام 2001، وأجرى تعديلات دستورية في عام 2005 أتاحت له فرصة الترشح لولاية رئاسية ثالثة ثم رابعة وخامسة، لكن الأوضاع من حوله كانت تشهد تحولات عميقة؛ فوضى في ليبيا، وإرهاب في نيجيريا والنيجر والكاميرون، وصراعات دموية مع بوكو حرام، وأزمة دون أفق في دارفور حيث ينتمي أغلب قادة التمرد هناك إلى قبيلة زغاوة التي يتحدر منها ديبي الذي استمر في دعمهم حتى العام 2009 عندما عقد معه نظام  الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير اتفاقا لنشر قوات مشتركة على الحدود.

في يناير 2012 شهدت العاصمة السودانية الخرطوم عقد قران الرئيس التشادي الراحل على أماني هلال ابنة زعيم الجنجويد موسى هلال، شيخ قبيلة المحاميد، أكبر بطون قبيلة الزريقات في دارفور، وخريجة كلية الطب بجامعة الرباط في الخرطوم، وذلك في حفل كبير احتضنه فندق السلام روتانا، وأطلقت على ذلك الزواج صفة الزواج السياسي للمساهمة في إدارة تحالفات جديدة بالمنطقة.

قام الرئيس البشير بدور وكيل العروس، فيما كان خال الرئيس التشادي عبدالله يانقي وكيلا عنه، بينما أجرى مراسم العقد حفيد الشيخ أحمد التيجاني، مؤسس الطريقة التيجانية، من منطقة أبوماضي بالجزائر، وقد دعي خصيصاً لهذه المناسبة.

ودفع الرئيس التشادي مهرا للعروس قدره 26 مليون دولار، بواقع 25 مليون دولار لوالد العروس، ومليون دولار للعروس في صورة ذهب ومجوهرات ثمينة وشيلة العروس.

مراسم الزواج تأجلت أكثر من مرة، بسبب أنباء تتحدث عن اعتراضات من قبل أسرة الرئيس التشادية، نصحته بإلغاء زواجه من كريمة هلال، بحجة أن والد العروس مطلوب من المحكمة الجنائية الدولية، وربما تُدخل المصاهرة تشاد في مشكلات مع المحكمة الجنائية التي ستطالب تشاد بتسليمه لها كلما زارها، وأكد أفراد الأسرة أنهم لن يستطيعوا تسليمه، باعتبار أنه صهرهم. ويتهم بعض زعماء القبائل التشادية هلال بإدارة قوات الجنجويد في دارفور، الأمر الذي سيدخل تشاد في احتجاج من بعض القبائل.

تزوج ديبي خلال مسيرته 13 امرأة، آخرهن السودانية أماني، لكن حاملة لقب سيدة تشاد الأولى كانت إلى حين مقتله، هنده عقيل، وهي من مواليد العام 1977، وتنتمي إلى قبيلة الرزيقات العربية، ودرست إدارة الأعمال في المغرب وفرنسا وكندا، التقاها ديبي لأول مرة في العام 2004 وتزوجها بعد عامين.

غضب بوما

وجود ديبي في الحكم يعني بمنطق القبيلة أن “زغاوة” مهيمنة على “القرعان” التي ينتمي إليها الرئيس السابق حسين حبري وهي مسمى آخر للتبو، ما يعكس التداخل التشادي – الليبي، ودعم تبو ليبيا للمتمردين ضد حكم ديبي.
وجود ديبي في الحكم يعني بمنطق القبيلة أن "زغاوة" مهيمنة على "القرعان" التي ينتمي إليها الرئيس السابق حسين حبري وهي مسمى آخر للتبو، ما يعكس التداخل التشادي – الليبي، ودعم تبو ليبيا للمتمردين ضد حكم ديبي.

كان ديبي طوال السنوات الماضية عرّاب الحرب على الإرهاب في المنطقة، وكان جيشه الأقوى في التصدي لجماعة بوكو حرام ودفع عددا كبيرا من الضحايا، وأسفرت هجمات التنظيم الإرهابي عن مقتل أكثر من 20 ألفا، وتسببت في تشريد الملايين في نيجيريا، منذ 2015، كما شنّ هجمات في الدول المجاورة مثل الكاميرون وتشاد والنيجر، حيث أسفرت هجماته في دول حوض بحيرة تشاد عن مقتل أكثر من ألفي شخص.

وفي 31 مارس 2020 أطلق الرئيس ديبي عملية عسكرية يقودها بنفسه، في منطقة بحيرة تشاد، سماها “غضب بوما” وأرادها أن تكون ردا على قتل مسلحي بوكو حرام لنحو مئة جندي في معركة وقعت في 23 مارس، تكبد فيها جيشه خسارة لم تقع له من قبل في تاريخ المواجهة مع التنظيم. وبعد أسبوع أعلنت الحكومة التشادية تطهير البلاد من جميع عناصر تنظيم بوكو حرام، وقال المتحدث باسم الحكومة عمر يايا حسين “لم يبق عنصر واحد من بوكو حرام في أراضي تشاد”، مؤكدًا أنهم سينشرون قريبًا تفاصيل نتائج العملية.

ديبي يعدّ عرّاب الحرب على الإرهاب في المنطقة، وقد كان جيشه الأقوى في التصدي لجماعة بوكو حرام مقدمًا عددا كبيرا من الضحايا، وأسفرت هجمات التنظيم الإرهابي عن مقتل أكثر من 20 ألفا

الجيش التشادي يعتبر أكثر القوات المشتركة خبرة في القوة المشتركة لدول منطقة الساحل الخمس التي تضم موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، والتي تكافح الجماعات الإرهابية الناشطة في منطقة الساحل، ففي العام 2013 أرسل ديبي ابنه محمد ليقود نحو ألف جندي من قوات بلاده باتجاه الجبال، شمال شرقي مالي، للانضمام إلى الحملة العسكرية التي تشنها القوات الفرنسية على الجماعات الإرهابية في هذه المنطقة.

وبعد انتشار خبر رحيله أجمعت دول الساحل الأفريقية على دور ديبي في التصدي للإرهاب؛ فقد ثمنت النيجر الالتزام الشخصي للمارشال ديبي في مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء، كما ورد في بيان للرئيس محمد بازوم وحكومته. وأكد الرئيس الانتقالي لمالي باه نداو أن وفاة ديبي تمثل خسارة فادحة ليس لبلاده فقط بل لمنطقة الساحل وأفريقيا بأكملها.

وحيّا الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني ذكرى ديبي الذي وصفه بأنه “ساهم بفعالية في الجهود الرامية إلى توفير الاستقرار والأمن في منطقة الساحل وعلى مستوى قارتنا الأفريقية”، وتمسك حكومة وشعب بلاده بالتعاون الإقليمي في ما وصفه بـ”الظرف العصيب”. كما أشاد رئيس بوركينا فاسو روش مارك كريستيان كابوري بـ”ذكرى مؤيد كبير لفكرة عموم أفريقيا وأخ ملتزم بقناعة وتصميم مكافحة الإرهاب في حوض بحيرة تشاد و(منطقة) الساحل”.

رحل ديبي تاركا وراءه مسيرة 30 عاما من الحكم، وعهدة رئاسية جديدة لم يدشنها بعد، وتاريخا طويلا من الصراعات والمواجهات والحروب والتحديات. وهو الذي طالما رقص فوق رؤوس الأفاعي، وواجه نزاعات ومحاولات تمرد وانقلاب. ورغم أنه من الشخصيات المثيرة للجدل ولاسيما فيما يتعلق بالمسارات السياسية والديمقراطية، إلا أنه كان رجل مواجهة، حافظ على وحدة بلاده المهددة في كيانها، وقاوم الإرهاب بشراسة، وكان من المدافعين عن قيمتي الأمن والاستقرار في منطقة الساحل والصحراء.

Thumbnail
12