إدريس الروخ لـ"العرب": على الدراما المغربية التركيز على القضايا الحساسة في مسلسل "الجنين"

حمل المخرج المغربي إدريس الروخ كاميراته نحو فضاء شديد الخصوصية لتصور لنا أحداثا درامية مستوحاة من سوق الخردة والعاملين فيه والعلاقات المتشعبة بينهم وتفاصيل الحياة بين ثناياه.
الرباط - يتناول مسلسل "الجنين" للمخرج إدريس الروخ قصة طفل تتخلى عنه والدته وتتركه أمام الباب الحديدي لمحل خردة في مدينة الدار البيضاء، ويعثر عليه الذهبي أمين الخردة، ويقرر أن يعتني به، لكن زوجته تاجة ترفض بشدة، فيتربى الفتى في بيت عاملة بمحل الخردة فيكبر ليواجه عدة مصاعب وتحديات.
المسلسل من سيناريو عدنان موحجة والمهدي شهاب، وتشخيص كل من يسار لمغاري وإدريس الروخ ورفيق بوبكر وسعيدة باعدي ومحمد كاف وفاطمة الزهراء قنبوع وحسناء طمطاوي وحميد النيدر ومجموعة من الطاقات الشابة.
في حديثه لصحيفة “العرب” يوضح المخرج إدريس الروخ كيفية تمكنه كمخرج من تصوير مسلسل “الجنين”، الذي يستكشف عالم سوق الخردة بأسلوب محكم، فيقول “الموضوع الأساسي هو قصة الجنين، الطفل الصغير الذي وجده الحاج الذهبي مرميا أمام باب سوق الخردة، وعندما نضج الجنين وأصبح شابا قرر البحث عن والديه وسبب تخليهما عنه منذ ولادته. وهذا الموضوع صعب ومهم، بالإضافة إلى ذلك يتناول المسلسل أيضا موضوع سوق خردة السيارات، حيث يحتوي على العديد من العناصر والتفاصيل المعقدة، وفي هذه الطبقة نحن بحاجة إلى التعرف على الأشخاص الذين يعملون فيها عن كثب، ونسرد قصصهم ومشاكلهم وهمومهم، ونستكشف الجوانب الإيجابية والسلبية في حياتهم”.
ويوضح “لقد عملنا على هذا من خلال البحث العميق حول العمال في سوق الخردة والتفاعل المباشر معهم، لأنهم فعلا مهنيون يستحقون أن نروي قصصهم ونتعرف على عوالمهم، وقد أمدونا بقصص ومعلومات غنية ساهمت في إثراء العمل وتقديمه بشكل أكثر تفاعلا”.
استكشاف جانب مخفي
ومنذ بداية الحلقات الأولى كان إيقاع المسلسل متوازنا، وكانت سلسلة الأحداث مترابطة في تصوير مشاهد تجسد حياة الأسرار والعلاقات المتشابكة في السوق، وقد وازن المخرج بين إدارة الممثلين والإخراج.
وعبر الروخ عن هذا التوازن بقوله “منذ البداية كان العمل مركزًا أولا على التفاصيل والأماكن والفضاءات والعلاقات والشخصيات والعوالم بأسرها، كان العمل على هذا النوع من الدراما يتطلب ارتباطًا نفسيًا واجتماعيًا، وبالتالي كان الاشتغال على الموضوع منذ مدة طويلة لدراسة العلاقات بين الشخصيات وتداخلها مع الأحداث والتركيبة النفسية والاجتماعية، وكان الهدف تكوين صورة واضحة وملموسة للمشاهد من خلال الفضاءات، وهذا جعلني أتحول بين دور الممثل ودور المخرج بشكل متزامن، فكل شخصية لها إيقاعها الخاص وتأثيرها الخاص الذي يعطي للمسلسل أسلوبًا فريدًا. و السر وراء نجاح المسلسل هو الاستعداد القبْلي والتخطيط والبحث الدقيق الذي أعطى نتيجة رائعة في المسلسل”.
ولأول مرة نشهد الكوميدي يسار يشارك في دور بطولي ضمن قصة درامية مؤثرة، ويوضح المخرج الروخ سبب اختياره لممثل كوميدي في دور درامي قائلا “يسار ممثل كوميدي معروف ويتمتع بشعبية كبيرة، قرر أن يغير ملامحه من الكوميديا إلى الدراما من خلال هذا المسلسل، إذ يعتبر يسار شخصية مجتهدة تبحث دائمًا عن الأفضل، وهو ممثل بأحاسيس عميقة وقوية في الدراما”.
وفي حديثنا عن الرسالة التي يأمل أن يستلهمها المشاهدون من مسلسل “الجنين” ينوه إدريس الروخ إلى أن “الرسالة تتحدث عن الأمل في الحياة رغم الصعاب والمآسي التي قد نواجهها، حيث نتعرض للعديد من التحديات والمواقف الصعبة في الحياة، لكنْ هناك دائمًا أمل في المستقبل وإمكانية تجاوز الصعاب. ويعكس المسلسل هذا الأمل من خلال قصة شخصية ‘الجنين’ التي تجسد فكرة البحث عن الانتماء وتصحيح الأخطاء، وفي سوق خردة السيارات نرى الشخصيات تبحث عن ترميم أجزاء أنفسها، ما يمثل رمزًا لإصلاح الذات والبحث عن الأمل والتجديد، هذا هو الأمل المشع الذي يتمثل في شخصية الجنين، والذي نأمل أن يلهم المشاهدين ويجلب لهم الأمل في ظل الصعاب”.
وتمكن المخرج المغربي من تصوير جمالية الحياة المتمثلة في قسوة الشارع من جهة والعقد العائلية والقضايا الاجتماعية من جهة أخرى، ويوضح هذا بقوله “يتجلى إيماني القوي بأن للحياة جمالية خاصة، بغض النظر عن صعوبتها وتعقيدها، يجب فقط أن نركز جهودنا على استخراج هذه الجمالية إلى الوجود وتقديمها إلى الناس في كل مكان، سواء في الأماكن أو في الشخصيات أو في النفس، فهناك الجمال في كل مكان يحيط بنا، وربما نحن أحيانا من نختبئ عنه أو لا ندركه عندما يمر من أمامنا، ومع ذلك هناك دائمًا عيون ترى وأفكار ترى وروح ترى، تستطيع اكتشاف هذا الجمال وتجسيده”.
◙ المخرج إدريس الروخ يتقن ترتيب الأحداث، ما يسهم في بناء جو درامي متوازن إذ يبرز المسلسل استخداما متقنا للتصوير
ويتابع “في سوق الخردة، على سبيل المثال، نجد جمالية في ترابط العمال وتفاعلهم في ذلك الفضاء الديناميكي. وهذا المفهوم ينطبق على جميع الأماكن التي اخترت تصويرها في المسلسل، فلا يقتصر الجمال على الظواهر الخارجية بل يمتد إلى عمق العلاقات وتفاعلات الشخصيات ومواقفها في الحياة”.
ويختم حواره مع العرب قائلا “هناك دائمًا اختلاف بين مسلسل وآخر، والموضوع المطروح وطريقة الاشتغال عليه يظلان هما الجواب؛ لأنني لم أشاهد المسلسلات الأخرى، ولكنه مسلسل درامي مختلف عن أعمالي السابقة، إذ يحتوي على مجموعة من الأسرار عن طبقات مختلفة تعيش داخل المجتمع المغربي، وهذا ما سيكتشفه المشاهد في الحلقات القادمة”.
يتميز المسلسل ببداية مثيرة تلفت الانتباه وتثير الفضول؛ مثل مشهد المطاردة الذي يفر فيه الجنين، الذي يلعب دوره الممثل الكوميدي يسار أمغار، من عصابة من اللصوص، وهو ما جعل الجمهور يتساءل ويبقى مترقبا لمعرفة سبب هذه المطاردة، ثم يتبع السرد تطورا تدريجيا يفتح للمشاهدين نوافذ على عالم الشخصيات والأحداث بتناغم.
ويتقن المسلسل فن ترتيب الأحداث بشكل محكم، حيث يتم الانتقال بين المواقف الصاخبة والمواقف الهادئة بسلاسة، وخاصة تكوين اللقطات الذي يظهر الطبقات ميسورة الحال مثل عائلة “الحاج الذهبي” الذي أدى دوره الممثل محمد كافيا وزوجته الحاجة تاجة التي لعبت دورها الممثلة سعاد حسن، وعائلة مليكة التي أدت دورها الممثلة سعيدة باعدي، وزوجها المختار الذي أدى دوره الممثل عبداللطيف الخمولي، والمشاهد الأخرى التي تبرز الأحداث في سوق خردة السيارات، إذ تتداخل الخطوط الزمنية فيه حيث تظهر فيه بشكل مفاجئ جثة مرمية يجهل عمال “لافيراي”، أي سوق الخردة، سبب وفاتها، ما يضيف تعقيدا وإثارة إلى القصة ويشد انتباه المشاهدين دون أن يؤثر على التسلسل الرئيسي للأحداث.
وتتميز الحوارات بالحيوية والواقعية، كالمداخلات بين مليكة السيدة التي تملك محلا قديما في سوق الخردة والحاج الذهبي الذي يعتبر من أقدم تجار قطع السيارات في المنطقة، حيث تعكس مداخلاتهم التي تعبر عن مكانة شخصياتهم الفريدة وتساهم في تطوير القصة بشكل ملحوظ.
أحداث محكمة
وتحمل الحوارات العديد من العناصر الدرامية والفكاهية والعاطفية، مثل مشهد بحث الجنين عن أمه الحقيقية، ومشهد شخصية “الشطابة” الأحمق الذي لعب دوره الممثل محمد حميمصة ببراعة، ما يجعل الحوارات المتداخلة مثيرة ومسلية في الوقت نفسه.
وقدم الممثلون تفاعلا قويا في أداء الشخصيات، ما أضفى مصداقية على العلاقات الشخصية داخل القصة؛ فعلى سبيل المثال تميز أداء يسار أمغار الجنين بالاندماج مع شخصيته وتفاعله الطبيعي مع الشخصيات الأخرى في المسلسل، الأمر الذي أضفى عمقا وحيوية على السلسلة، فهذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها هذا الممثل الكوميدي بدور درامي بطولي صعب، ورغم ذلك فقد نجح في نيليه استحسان الجمهور المتابع بأدائه المؤثر.
◙ المسلسل يتميز ببداية مثيرة تلفت الانتباه وتثير الفضول؛ مثل مشهد المطاردة الذي يفر فيه الجنين، الذي يلعب دوره الممثل الكوميدي يسار أمغار
كما نجح الممثلون في تقديم مجموعة متنوعة من التعابير العاطفية الأخاذة، إذ تميز أداء سعاد حسن (الحاجة تاجة) ومحمد كافي (الحاج الذهبي) بتقديم تعابير معقدة ومتنوعة تجمع حنان الأم المسؤولة عن بيتها وابنها الطائش المنحرف الذي أدى دوره الممثل أبوالنصر، وزوجته عواطف التي أدت دورها الممثلة فاطمة الزهراء قنبوع، الزوجة المهملة الفاشلة في زواجها، من جهة، وولاء الحاج الذهبي لجنين باعتباره الأب المربي الذي تبناه منذ أن وجده أمام باب سوق الخردة، من جهة أخرى، ما أثرى العلاقات الشخصية في القصة.
وتميز أداء عبداللطيف الخمولي (المختار) وسعيدة باعدي (مليكة) بطرافة ورومانسية فعالة، وهو ما أضفى إحساسا بالود واللطف على مسار إيقاع الأحداث. أما أداء الممثل إدريس الروخ في دور الكاش فهو متقن ومنسجم ومتمكن من تقمص دور الماكر المخادع الذي يبيع خردة مسروقة، كذلك أداؤه دور الزوج المحب العطوف على زوجته المريضة التي لعبت دورها الممثلة هاجر مصدوفي بشكل جيد.
وأظهر الممثلون في الحلقات الأولى قدرة على الاستماع والتفاعل مع بعضهم البعض، ما أضفى طابعا حقيقيا على الحوارات والمواقف، وهذا يسهم في إثراء القصة وجعلها تبدو أكثر واقعية ومثيرة للاهتمام على مستوى الأبعاد النفسية والاجتماعية. ويتألق مسلسل “الجنين” بمهارة إخراجية متقنة في تقديم قصة مشوقة تندرج في إطار درامي يجمع بين الإثارة والواقعية، إذ يبدأ ببداية مثيرة تشد انتباه المشاهد، مع تباين وتنوع في الأحداث التي تثير الفضول وتحفز الاهتمام.
ويتقن المخرج إدريس الروخ ترتيب الأحداث، ما يسهم في بناء جو درامي متوازن إذ يبرز المسلسل استخداما متقنا للتصوير بما في ذلك استعمال اللقطات البانورامية والكبيرة واللقطات المقربة والمقربة جدا، الأمر الذي يعزز جاذبية المسلسل ويجعله تجربة ممتعة ومثيرة للمشاهدين. ويعتبر مسلسل “الجنين” عملا دراميا متميزا يجمع بين التشويق والواقعية، ويستحق بلا شك المشاهدة والاستمتاع به.