إجراءات تمييزية تقود إلى إضراب العاملين بمكتب "بي.بي.سي" في القاهرة

القاهرة - بدأ عاملون في مكتب هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” في القاهرة إضرابا عن العمل، الاثنين، ولمدة ثلاثة أيام احتجاجا على إجراءات اعتبروها تمييزية تمارسها الإدارة ضدهم تتعلق بسياسات مالية ترتب عليها تدني رواتبهم مع انخفاض قيمة الجنيه المصري، في خطوة قد تؤثر سلبا على صورة الهيئة العريقة في أذهان البعض من متابعيها في المنطقة العربية.
أوضح بيان صدر عن العاملين في مكتب “بي.بي.سي” بالقاهرة، ويبلغ عددهم 77 شخصا، أنهم يصرون على الاستمرار في خطوات الاحتجاج مع تجاهل إدارة الهيئة في لندن لمطالبهم التي تتمثل في تعديل الرواتب وصرفها بالدولار، واتخاذ قرارات مشابهة لما أقدمت عليه الهيئة مع مكاتب أخرى لديها في المنطقة كانت لديهم أيضا مطالب بزيادة الأجور واستجابت لها، في إشارة إلى ما حدث مع مكتبي بيروت وأنقرة.
وأشار البيان إلى أن النهج “التمييزي الذي تتبناه إدارة القناة ضد مكتب القاهرة والعاملين فيه يبعث رسائل سلبية لكل العاملين، وإن إقدامهم على الإضراب جاء بعد أن أغلقت الإدارة كافة الخيارات أمامهم لحل الأزمة الأشهر الماضية”.
ويعد الإضراب الحالي هو الثاني من نوعه خلال فترة وجيزة، حيث سبقته خطوة مماثلة استمرت ليوم واحد فقط، في الرابع عشر من يونيو الماضي، وتم تجميده على أمل إيجاد حل للأزمة عبر مفاوضات نقابة الصحافيين المصرية مع الإدارة في لندن وبالتنسيق مع نقابة الصحافيين البريطانيين، واتحاد الصحافيين الدوليين.
قال نقيب الصحافيين المصريين خالد البلشي إن العاملين في مكتب القاهرة بدأوا إضرابا بالفعل بعد أن فشل اجتماع عقدته النقابة مع ثلاثة من إداريي الهيئة جاؤوا لمصر الخميس الماضي لمناقشة الأزمة والبحث عن حل بمشاركة مدير مكتب القاهرة وثلاثة ممثلين عن العاملين.
وأشار في تصريح لـ”العرب” إلى أن الوفد الذي قدم إلى القاهرة رفض تقديم حلول، وزعم أن زيارته تستهدف تعريف العاملين بالأسس التي تدفع هيئة الإذاعة البريطانية إلى صرف الرواتب بالعملة المحلية (الجنيه المصري)، وأن موقف النقابة كان واضحا بأن ما يحدث مع العاملين بمكتب القاهرة يعد “تمييزا” ضد الصحافيين.
وأوضح أن نقابة الصحافيين خاطبت نظيرتها في لندن بفشل الاجتماع وبدء الإضراب، متوقعا صدور بيانات تأييد من جهات صحفية دولية تدعم موقف العاملين بمكتب القاهرة، حيث ناقش البلشي مع المضربين سبل التصعيد في حال عدم الاستجابة، من بينها الدخول في إضراب آخر في غضون أسبوعين، قد يمتد لمدة أسبوع أو اتخاذ إجراءات قضائية ضد إدارة الهيئة البريطانية لحفظ حقوقهم.
وقاد موقف العاملين في مصر إلى ارتفاع أصوات أخرى بمكاتب الهيئة في عدد من البلدان الأفريقية، أبرزها كينيا ونيجيريا، بحسب البلشي، وتأييدهم موقف العاملين بمكتب القاهرة، وقدموا مطالب مشابهة بتحسين رواتبهم وصرفها بالعملات الأجنبية.
ومن المقرر أن يعقد العاملون بمكتب القاهرة مؤتمرا صحفيا، الأربعاء، لتقديم المزيد من التفاصيل حول خطواتهم التصعيدية المقبلة.
مشكلة بي.بي.سي بالقاهرة تفتح الجدل حول دور إعلام الخدمة العامة وقدرته على الاستمرار في المنافسة مع هروب الكثير من الكفاءات
وتصر هيئة الإذاعة البريطانية على منح العاملين بمكتب القاهرة رواتبهم بالعملة المحلية، ما يعتبره الصحافيون تمييزا ضدهم، خاصة أن رواتبهم لا تتجاوز 20 في المئة من قيمة رواتب العاملين في مكاتب الهيئة في دول أخرى بالمنطقة.
وأشار أحد العاملين بمكتب القاهرة (رفض الافصاح عن هويته) لـ”العرب” إلى أن الأزمة بدأت منذ عام 2016 مع اتخاذ الحكومة المصرية أولى خطوات تعويم الجنيه، ولم يكن قبلها اعتراض على صرف الرواتب بالعملة المحلية، لكن المشكلة أخذت تتصاعد العام الماضي مع تخفيض قيمة العملة المحلية بنسبة كبيرة، لكن إدارة الهيئة رفضت زيادة رواتب العاملين في المكتب.
وذكر أن العاملين لم يحصلوا على زيادات منذ ثلاث سنوات، لكن الهيئة بعد ضغوط مارسها نقيب الصحافيين بمصر وعقب خطوة الإضراب الأول وعدت بتقديم زيادة سنوية، وذلك لم يكن كافيا لأن أسس المساواة بين العاملين لديها غير موجودة.
كما أن الزيادة السنوية لم تسهم في حل المشكلات المالية للعاملين مع فقدانهم 90 في المئة من قيمة رواتبهم نتيجة موجات التضخم العالمية وتدهور قيمة العملة المحلية.
ولفت إلى أن ما يفاقم الأزمة أنه في حال الاستعانة بصحافيين أجانب للعمل في مكتب القاهرة سيحصلون على رواتب مختلفة عما يحصل عليه أصحاب الجنسية المصرية، واشتراطات الهيئة الصارمة بشأن العاملين فيها تشي بوجود قدر من التضييق على العاملين فيها، مثل حظر حديث أي منهم في المؤتمرات العامة، وعدم الحديث عن مشكلاتهم في وسائل الإعلام.
تكمن المشكلة في أن إدارة بي.بي.سي تتعامل مع الصحافيين المصريين وفقا لآليات السوق الصحافي في القاهرة وليس وفقا لما تقره في مكاتبها التي تتفاوت رواتبها، حسب كل منطقة، وبالنظر إلى عمل غالبية المكاتب الصحافية الدولية والعربية في مصر، يبقى الوضع مختلفا لأن الرواتب يجري تحديدها وفقا لقيمتها بالعملة الأجنبية.
في المقابل فإن الهيئة البريطانية تعاني مشكلات مالية طويلة الأمد ولديها سياسات تتخذها لتخفيف العبء على موازنتها بما يعكس حجم الإجراءات التي تتداخل في عملية تمويلها بسبب ملكيتها العامة، ما يؤشر على أن أزمة مكتب القاهرة قد تنتقل إلى مكاتب أخرى، في حال لم تكن هناك مرونة في التعامل مع حقوق العاملين ومن ثم زيادة الرواتب لتكون حاضرة في المنافسة الدولية مع اتساع قاعدة وسائل الإعلام الدولية.
قال أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة إن تصدير صورة هيئة الإذاعة البريطانية كمؤسسة تميز بين العاملين فيها سوف يكون له تأثير سلبي عليها، وقيمة الكفاءات التي تقبل بالعمل معها، والقواعد المهنية التي تنتهجها جراء عدم توفر بيئة الرضاء عن العمل، ما يصب في تردي مستوى خدمتها الإعلامية المقدمة.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن الأزمة الراهنة لا يمكن ربطها بشكل كلي بما تعانيه الصحافة المصرية من مشكلات على المستوى المادي، لأن مكتب القاهرة ضمن المكاتب الإقليمية وله سمعة قوية ويحقق انتشارا مهما للهيئة على المستوى العربي باعتبار أن القاهرة عاصمة جاذبة للأخبار المهمة، وتراجع جودة العاملين في المكتب ستكون له تأثيراته على صورة الهيئة لدى شريحة من المشاهدين العرب.
وتفتح مشكلة بي.بي.سي بالقاهرة الجدل حول دور إعلام الخدمة العامة وقدرته على الاستمرار في المنافسة مع هروب الكثير من الكفاءات، وخسارة الهيئة بعض العناصر الفاعلة التي كانت تملكها، واحتمال أن يؤدي ذلك إلى تراجع جودة المنتج الإعلامي، ويعد تصاعد مشكلات التمييز بين العاملين فيها أحد أبرز أوجه تراجعها.
تعرضت شبكة “بي.بي.سي” من قبل لانتقادات بسبب التمييز بين أجور الذكور والإناث، وفي يوليو 2017 كشفت الهيئة في إطار تسوية مالية مع الحكومة عن أن أجور كبار المذيعين تزيد خمسة أمثال عما تتقاضاه أعلى المذيعات أجرا، وأن ثلثي المذيعين يتقاضون 150 ألف جنيه إسترليني على الأقل من الرجال، وتعهدت الهيئة بتقليص الفجوة في الأجور بين الجنسين.