أي وجه سترتدي اليوم؟

تهتم أغلب الثقافات، إن لم يكن كلها، بالوجه؛ البعض ذهب إلى حد تقديسه وتزيينه بالحلي والمجوهرات وتغطيته بأقنعة من الذهب، والبعض الآخر رسم عليه أنواعا من الوشم ونحت نسخا من ملامحه على الصخور والجبال والمعابد، ليقول لنا: لقد مررنا يوما من هنا وهذه ملامحنا.
ولم يسر الدين الإسلامي بعيدا عن المنهج الحياتي المشترك للبشرية، وإنما حث المرء على إكرام وجهه بالعناية الظاهرة والباطنة، ولو أن بعض المسلمين جعلوا إظهار الوجه حكرا على الذكور واعتبروا وجه المرأة من المثيرات للغرائز.
بوّأ الإسلام الوجه منزلة المرآة العاكسة لخبايا الروح والنفس، لذلك جاء ذكره في مواضع عديدة من القرآن تستشف أحوال المؤمن والكافر، كقول الله “تعرف في وجوههم نضرة النعيم” أو “يوم تبيض وجوه وتسود وجوه”؛ فهي إذًا إشارات إلى أن الوجه صوت العقل والمشاعر.
ولم يكن الوجه يوما دليلا على معرفة الناس والتمييز بينهم فقط، بل كان ولا يزال مرآتهم التي تظهر ما تخفيه الأنفس من أفكار ومشاعر.
هذا الجزء الذي تغنى به شعراء ونظموا فيه القصائد، هو لوحة يرسم عليها العقل الواعي أو اللاواعي أيضا ملامح النفس وتفاصيلها؛ أحيانا قد يطغى حال على آخر فيبدو لنا فلان رجلا حازما، حزينا، غاضبا، أو محتالا، أو تبدو لنا فلانة فرحة، مضطربة، غبية أو حتى متوترة وكاذبة طوال الوقت. كل ذلك ينطبق على الآلاف من المشاعر، التي تدربت النفس البشرية على التحكم فيها ومحاولة عدم إظهارها إلا أنها تنجح دوما في أن تبرز في قسمات الوجه، في نظرة وفي ابتسامة أو نبرة صوت. وبناء عليها تترتب مشاعرنا تجاه الأشخاص من حولنا: ذاك نرتاح له، الآخر نرتاب منه، تلك نطمئن إليها وأخرى نحذر منها، إلى آخر هذه المشاعر التي يمكن اختصارها في سلوكين: القبول والنفور.
وانطباعنا الأول حيال الوجه الذي نراه للمرة الأولى عادة ما يكون صحيحا، فمهما تغير صاحبه في قادم الأيام، يظل الشعور الأول الذي دق نواقيسه في العقل صحيحا.
الغريب أن البشر خلقوا رابطا مباشرا بين وجه الإنسان وسلوكه، رغم أن سلوكه هو تفاعل مع المحيط وأفراده، فقد يكون أحدهم كاذبا معك وصادقا مع غيرك، مشجعا لك ومحبطا للآخر، وهكذا.
وتؤمن الأغلبية إيمانا لا شك فيك بأن صاحب الوجه الواحد هو الإنسان الجيد، لكن أليس الميت فقط من يمتلك وجها؟
المسألة التي نحتاج إلى التفكير فيها من وجهة نظر مختلفة هي أننا بالفعل نمتلك وجوها عديدة، حتى أنت قد تختلط عليك وجوهك أحيانا فلا تعرفها، فتضطرب أفكارك وتبدأ بمحاولة استعادة أحد وجوهك المحببة إليك.
لك وجه مميز حين تجلس مع نفسك، ووجه حين تحادث أخاك، ووجه يعرفه جيدا زميلك في العمل، ووجه آخر تزور به عمك الذي تحبه، وجه تقابل به مديرك في العمل، ووجه سادس تخاطب به الله، حتى وجهك الذي تلاقي به أمك ليس نفسه الذي تلقى به زوجتك، كل واحدة منهما تعرفك بوجه مختلف وترسم من خلاله أفكارها عنك وعن تغير شخصيتك وسلوكك ومكانتك لديها.
هنا تحضرني عبارات الكاتب المصري أنيس منصور في كتاب “جسمك لا يكذب” إذ يقول مخاطبا القارئ “أنت ذو وجهين، آسف وأنا أعتذر عن أن لك وجهين فقط، فالإنسان له ألف وجه. لأن الميت هو الذي له وجه واحد أو ملامح ثابتة كأنها قناع على وجهه، وهذا هو الفارق بين البحيرة الراكدة والنهر المضطرب الأمواج والأسماك وانكسارات الضوء”.
لأنك على قيد الحياة حتى إشعار آخر، لا تتنازل عن حقك في تنويع وجوهك، دعها تنطق بمشاعرك وتتلون بتلون الممثلين في مسرح الحياة، وقل لي أي وجه سترتدي اليوم؟