أي معالم لعجلة الاقتصاد في موازنة الجزائر التاريخية

وقفة أساتذة الجامعات للمطالبة بالتشغيل عكست وضعا مؤلما لحالة النخبة وأعطت رسالة سلبية جدا لطلبة المدارس والجامعات وكأنها تقول لهم: هذا وضعنا ومصيرنا فلماذا تتعبون أنفسكم بتمضية أعماركم في الدراسة.
السبت 2023/01/07
أين الاستثمار في الإنسان؟

لا يختلف اثنان في الجزائر حول أن الإجراءات الاجتماعية التي اتخذتها الحكومة لفائدة الموظفين المتعاقدين، والرفع من الرواتب والمعاشات ومنحة للعاطلين، كفيلة بتخفيف المعاناة اليومية لقطاع عريض من الجزائريين، لكن قبل التساؤل عن مصدر الأموال التي تضخ لتغطية التكاليف الجديدة، يستوجب الأمر تسليط الأضواء على ما خصص لمخططات التنمية والنهوض بالاقتصاد المحلي.

ورغم وجاهة الإجراءات المتخذة لفائدة الفئات الاجتماعية الهشة، وحاجة الجبهة الاجتماعية إلى حد أدنى من التوازن، فإن تغييب القواعد الاقتصادية البديهية في الربط بين النمو الداخلي ورفع الرواتب، يبقي الأمر في خانة الشعبوية السياسية، لأن الحكومة على ما يبدو تريد استمالة الشارع بواسطة عائدات ريع النفط والغاز، دون أن تقدر عواقب التقلبات التي تميز سوق الطاقة في العالم، والتي أوصلت البلاد الى حافة الإفلاس لما نزل سعر النفط إلى مستوى تكلفة الإنتاج خلال السنوات الماضية.

ولذلك استقبل خبراء اقتصاديون المسألة باستغراب حول جرأة الحكومة على المغامرة بالتوازنات الكبرى لمالية واقتصاد البلاد، وإذ لم تكشف عن كلفة الإجراءات الاجتماعية المذكورة، فإن البيانات المسربة من هنا وهناك توحي إلى أن الوضع في حاجة إلى مخططات تنموية حقيقية، لاحتواء البطالة وخلق الثروة بدل اللجوء إلى المسكّنات الشعبوية.

يبدو أن للحكومة مفاهيم خاصة في إدارة الشأن الاقتصادي، فهي تسوق لدعم مؤسسات التصدير وتخنق مؤسسات الاستيراد، وهي مفارقة تتنافى مع منطق السيرورة الاقتصادية

ولعل الحديث عن بلوغ عدد طالبي منحة البطالة سقف الأربعة ملايين خلال شهر يونيو الماضي يؤشر إلى أن الظاهرة بلغت بهذا المؤشر فقط نسبة الـ10 في المئة، وأما المؤشرات الأخرى فحدث ولا حرج، وهو الأمر الذي تريد الحكومة تجاهله أو التعتيم عليه، وتوقفت بياناتها عند سقف المليوني منحة، وحتى الرقم الذي يكلف الخزينة ملياري دولار سنويا بحسب بعض الإحصائيات، تريد فرض قيود متجددة على المستفيدين من أجل تقليصه إلى الحد الممكن.

ولعل الوقفة الاحتجاجية التي نظمها حملة شهادة الدكتوراه مؤخرا، توحي بأن المسألة تتعدى حدود مجرد منحة للعاطلين أو رفع للرواتب، إلى رؤية وإستراتيجية واستشراف لبعث مخططات تنموية واقتصادية حقيقية يتم بواسطتها امتصاص هذا العبء الثقيل وخلق ثروة تحرك الإنتاج والاستهلاك والخدمات وتحسن الوضع الاجتماعي، بدل انتظار ما يدره برميل النفط.

وقفة أساتذة الجامعات للمطالبة بالتشغيل عكست وضعا مؤلما يعكس حالة النخبة في البلاد، وأعطت رسالة سلبية جدا لتلاميذ المدارس وطلبة الجامعات، وكأنها تقول لهم: هذا وضعنا ومصيرنا، فلماذا تتعبون أنفسكم بتمضية أعماركم في الدراسة، وذلك هو عمق أزمة صناعة الإنسان في الجزائر.

تنفق الدولة سنويا أغلفة خيالية في كل القطاعات لكنها لا زالت تنفق المال في غير مكانه الحقيقي، وهو الاستثمار في الإنسان والاستفادة من ذكائه في بعث نهضة شاملة، ولعل الهجرة الجماعية لـ1200 طبيب إلى فرنسا، ووجود حوالي 15 ألف دكتور عاطل عن العمل، هو مؤشر حقيقي على التفريط الممنهج في المصدر الحقيقي لأي نهضة وأي تنمية.

رصدت الحكومة موازنة سنوية تناهز الـ100 مليار دولار، وهي الأضخم في تاريخ البلاد، وباستثناء توجيه ربعها إلى وزارة الدفاع، وخمسها إلى وزارة المالية، فإن قطاع التجهيز الذي يدير الاستثمارات والمشروعات لم يبتعد إلا قليلا عن قطاع التسيير الذي يدير الوظائف والرواتب، وهو ما يوحي بأن الاقتصاد لن يستفيد كثيرا من الموازنة الضخمة، لأنها كرست لتغطية تكلفة الدعم الاجتماعي وحزمة الرواتب والمعاشات والمنح.

ولم يتحدث الإعلام المؤسساتي في الحكومة إلى حد الآن عن مخططات واضحة أو مشروعات معينة بصدد دخول حيز التنفيذ، بينما يجري التسويق لحزمة الإجراءات الاجتماعية بشكل يخرجها من وجاهتها الطبيعية، إلى خطاب شعبوي تتم مراكمته تحسبا لاستحقاقات سياسية قادمة، الأمر الذي لا يعطي أملا في ملامسة نتائج ملموسة لهذا الحجم من المليارات بعد عام في حياة الدولة.

تنفق الدولة سنويا أغلفة خيالية في كل القطاعات لكنها لا زالت تنفق المال في غير مكانه الحقيقي، وهو الاستثمار في الإنسان والاستفادة من ذكائه في بعث نهضة شاملة

منذ سنوات ذكر خبراء اقتصاديون بأن الاقتصاد الجزائري في حاجة إلى مليوني مؤسسة مصغرة لبعث اقتصاد منتج يكون بديلا عن الريع النفطي، وبحساب بسيط فإن توفير كل مؤسسة لخمسة مناصب شغل سيوفر للبلاد عشرة ملايين منصب شغل، وهو ما سيحتوي كل الباحثين عن عمل وقد تحتاج إلى يد عاملة من الخارج، لكن الإرادة السياسية الغائبة في الشأن تؤجل الحلول الجذرية للأزمة المركبة.

وباستثناء مشروع المؤسسات الناشئة، وتمكين موظفي القطاع الحكومي من إطلاق مؤسسات خاصة، الذي تلوكه الحكومة منذ العام 2020، فإن المناخ السائد يبقى بعيدا عن بعث ديناميكية في مجال المؤسسات المصغرة، فعلاوة على البيروقراطية الإدارية والنظام المصرفي البدائي وغياب الآليات المفيدة، يجري الالتفات إلى الفئات الهشة، بينما يتم تجاهل ما هو موجود من مؤسسات صغيرة ومتوسطة تضررت كثيرا من الإغلاق الصحي، ومن غلق مجال الاستيراد، كونها تعتمد في المطلق على المادة الأولية الخارجية.

ويبدو أن للحكومة مفاهيم خاصة في إدارة الشأن الاقتصادي، فهي تسوق لدعم مؤسسات التصدير وتخنق مؤسسات الاستيراد، وهي مفارقة تتنافى مع منطق السيرورة الاقتصادية القائمة على سلسلة متكاملة لا يمكن لها أن تسير بحلقة دون أخرى.

وتذكر بيانات متداولة أن عدد شركات الاستيراد تقلص من أكثر من 40 ألف مؤسسة إلى نحو 15 ألفا، وهو ما يعني غلق وتشريد الآلاف من المؤسسات والعمال، وحرمان السوق والحاجيات المحلية من منتجات كانت تجد طريقها للاستهلاك، وإذ وفر ذلك للإدارة عائدات كانت تضخ في تضخيم الفواتير، فإنه حرم الجباية والجمارك من مداخيل للخزينة العمومية، وعزز قوافل العاطلين عن العمل بالآلاف من الوافدين الجدد.

قد يتنفس العاطل المستفيد من المنحة الصعداء، وقد يرتاح المعلم والأستاذ في منصب ثابت، وقد يتحلحل راتب الموظف والمتقاعد.. لكن إلى متى؟ إذا لم يتم التفرغ لمخطط الاستثمار في الإنسان، والاشتغال على إطلاق نسيج المؤسسات المصغرة لأنها الملاذ الوحيد لبعث ديناميكية اقتصادية، خاصة وأن البلاد سوق واعدة للاستهلاك فمجرد العمل على توفير الحاجيات الداخلية من طرف ذلك النسيج قبل التفكير في التصدير يوفر مردودية مهمة لأصحابها، ويغني الحكومة عن فاتورة واردات تفوق الـ60 مليار دولار.

9