أي تأثير للقراءة والكتابة على النظرة إلى الحب والزمن

الكندية آن كارسون: إيروس نقص ينبه الشخص لحدود ذاته والآخرين.
الخميس 2024/01/25
حضور الرغبة يوقظ فيه حنينا للاكتمال (لوحة للفنانة هيلدا حياري)

لطالما حرك سؤال الحب الكتّاب والمبدعين وأسال الحبر وأنتج كمّا من الأعمال الفنية، ولكنه لا يتوقف عن إثارة الأسئلة. مقاربة الحب من جانب الرغبة مقاربة هامة للغاية يمكنها كشف حقيقته، وهذا ما حاولت الوصول إليه الكاتبة والشاعرة الكندية آن كارسون.

تغوص الشاعرة والناقدة وأستاذة اللغويات الكندية آن كارسون في كتابها “كتاب إيروس.. الحُلو/ المُر” داخل التمثلات الأدبية لإيروس إله الحب والرغبة عند الإغريق، وهي لا تفعل هذا من منطلق الرصد والتجميع، بل انطلاقًا من أسئلة بسيطة وصعبة، أسئلة حلوة ومرة مثل إيروس تماما.

توجه كارسون أسئلتها عن طبيعة الحب ذاته، عما يريده العاشق من معشوقه، وعما يريده المحب من الحب، ومن الزمن. حيث تبحث عن إجابات لأسئلتها في الأدب اليوناني القديم، في أشعار صافو وألكمان وأرخيلوخوس، وفي ملاحم هوميروس، وفي مسرحيات إسخيلوس ويوريبديس وأريستوفانيس، وروايات لونجوس وخاريتون، وكلمات أرسطو ومحاورات سقراط التي سجلها أفلاطون في كتاب “المحاورات” الشهير، وفي كتابات أخرى لأفلاطون وغيره من الفلاسفة والخطباء والشعراء والكُتاب اليونانيين القدامى.

الحلو المر

f

في بحثها ذاك لا تغفل كارسون عقد مقارنات متبصرة واقتباس أجزاء متصلة من الأدب الحديث في إشارات إلى كُتاب مثل ديكينز ومونتين وستندال وفرجينيا وولف وإميلي ديكنسون وكافكا وميلان كونديرا، وفلاسفة مثل سارتر وسيمون دو بوفوار وكيركجارد وميشيل فوكو. مع إشارة خجولة إلى مراجع شرقية قليلة منها شاعر الهايكو الياباني ماتسو باشو والروائي الياباني ياسوناري كاواباتا.

الكتاب، الذي ترجمه إلى العربية وقدم له عبدالرحيم يوسف وصدر أخيرا عن دار صفصافة، هو إعادة صياغة لأطروحة كارسون لنيل درجة الدكتوراه. وقد أكد يوسف في مقدمته أن كارسون تربط ببراعة وبحس شعري بين أسئلة الحب والرغبة وأسئلة الأدب، وبين مسعى العشاق ومسعى الكُتاب والقراء، وتنظر إلى تأثير القراءة والكتابة على الأدب وعلى النظرة إلى الحب والزمن.

وقالت كارسون في مقدمتها “تدور قصة كافكا ‘النحلة الدوَّارة‘ عن فيلسوف يقضي وقت فراغه قريبًا من الأطفال حتى يتمكن من الإمساك بنحلاتهم الخشبية وهي تدور حول نفسها. يجعله الإمساك بنحلة خشبية ما زالت تدور سعيدًا للحظة في اعتقاده بأن فهم أيّ تفصيلة، خاصة مثلًا بنحلة دوَّارة، كافٍ لفهم الأشياء جميعها. وعلى الفور تقريبًا يأتي الاستياء بعد البهجة ويلقي بالنحلة ويسير مبتعدا. لكن الأمل في الفهم يملؤه باستمرار كلما بدأت الاستعدادات لرمي النحلات ودورانها بين الأطفال: ما إن تبدأ النحلة في الدوران ويجري وراءها لاهثًا، حتى يتحول الأمل إلى يقين، لكنه عندما يمسك بقطعة الخشب السخيفة في يده يشعر بالغثيان”.

وأضافت “تتعلق القصة بالبهجة التي نجدها في المجاز. يدور المعنى حول نفسه، ويظل قائمًا على محور الحالة العادية متماشيًا مع تقاليد المعنى والدلالة، ورغم ذلك: الدوران حول النفس ليس عاديًا، وإلغاء حالة الاعتدال العادي عن طريق هذه الحركة المدهشة شيء فيه اجتراء. لكن ما علاقة الاجتراء بالأمل في الفهم؟ بالبهجة؟ إن القصة تهتم بالسبب وراء حبنا للوقوع في الحب. يدور الجمال حول نفسه ويتحرك العقل. ويكون الإمساك بالجمال فهمًا لكيف يمكن أن يوجد ذلك الاستقرار المجترئ في الدوار. لكن لا، لا تحتاج البهجة إلى كل هذا التمادي. أن تجري لاهثًا، لكن دون أن تصل بعد، شيء مبهج في حد ذاته؛ لحظة مُعلَّقة من عيش الأمل. إن قمع الاجتراء ليس هدف العاشق. ولا أستطيع أن أصدق أن هذا الفيلسوف يجري حقًا خلف الفهم. بالأحرى هو قد صار فيلسوفًا (أي رجلاً عمله أن يبتهج بالفهم) كي يزود نفسه بحجج للجري وراء النحلات الخشبية”.

الكتاب يربط ببراعة وبحس شعري بين أسئلة الحب والرغبة وأسئلة الأدب وبين مسعى العشاق ومسعى الكُتاب والقراء

وأوضحت كارسون أن صافو كانت أول من وصف إيروس بـ “الحلو/ المُرّ”. ولا يخالفها في ذلك أحد ممن وقع في الحب. ماذا تعني هذه الكلمة؟ بدت المشاعر الإيروسية بالنسبة إلى صافو تجربة من المتعة والألم في نفس الوقت. هنا نجد تناقضا، وربما مفارقة. تصوُّر أن هذا الإيروس يمكنه أن يشق العقل نصفين. لماذا؟ قد تبدو مكونات التناقض واضحة لدى النظرة الأولى. فنحن نُسلِّم، كما فعلت صافو، بحلاوة الرغبة الإيروتيكية، بمتعتها التي تبتسم إلينا. لكن المرارة أقل وضوحًا. قد تكون هناك أسباب عديدة وراء أن يكون الحلو مُرًّا أيضًا. قد تكون هناك صلات عديدة بين المذاقين.

لقد فرز الشعراء المسألة بطرق مختلفة. وصياغة صافو منطلق جيد للبدء في تقصِّي الاحتمالات. هكذا نجد هذه الشذرة المرتبطة بالموضوع: إيروس – ها هو مرة أخرى! – ذلك الذي يُذيب الأطراف يأخذني في دوامته، الحلو/ المُر، الذي من المستحيل مقاومته، المخلوق المتسلل الزاحف.

وتابعت “من الصعب ترجمتها، تبدو كلمة “sweebitter” كمرادف للحلو/ المر خاطئة، كما أن المرادف الإنجليزي القياسي وهو كلمة “bittersweet”/ المُر- الحلو يقلب المفردات الفعلية للصفة المركبة التي استخدمتها صافو: جلوكوبيكرون. هل ينبغي أن يهمنا هذا؟ لو كان لترتيبها مقصد وصفي، فإيروس هنا يقال إنه يأتي بالحلاوة، ثم بالمرارة على الترتيب: إنها تصنف الاحتمالات في ترتيب زمني. وكثير من خبرات العشاق تؤكد صحة هذا الترتيب الزمني، خاصةً في الشعر؛ حيث تنتهي أغلب حالات الحب على نحو سيء”.

وتتابع “لكن من غير المحتمل أن يكون هذا ما تقصده صافو. فقصيدتها تبدأ بتحديد دراماتيكي لموقع الموقف الإيروتيكي في الزمن وتُثبِّت الحدث الإيروتيكي في صيغة المضارع الدلالي. إنها لا تسجل تاريخ علاقة عاطفية، بل لحظة رغبة. لحظة تترنح تحت ضغط إيروس، انقسام في الحالة العقلية. ثمة تزامن للمتعة والألم في الموضوع. يمكننا افتراض أن الجانب الممتع يُذكَر أولاً؛ لأن هذا أقل إدهاشًا. ثم يوضع التوكيد على الجانب الإشكالي الآخر من الظاهرة؛ الذي تُقدَّم صفاته في وابل من الحروف الساكنة الناعمة (السطر الثاني). يتحرك إيروس أو يزحف على ضحيته من مكان خارجها: أوربيتون. ولن يجدي قتال في صد ذلك الزحف: أماخانون. وبالتالي فإن الرغبة ليست ساكنة في الراغبة ولا حليفة لها. إنها غريبة عن إرادتها، وتفرض نفسها عليها من الخارج بطريقة غير قابلة للمقاومة. يبدو إيروس هنا عدوًّا. ولا بد أن مرارته هي مذاق العداوة، أو الكراهية بمعنى آخر”.

إيروس يتبع باستمرار الطريق نفسه يتحرك خارجًا من العاشق نحو المعشوق، ثم يرتد عائدًا إلى العاشق

ورأت كارسون أن ثمة وصفة قديمة قياسية للاستجابة الأخلاقية هي “أن يحب المرء أصدقاءه ويكره أعداءه”. يشكِّل الحب والكراهية بينهما آلية الاتصال الإنساني. هل من المنطقي وضع قطبي هذا الشعور داخل الحدث الإيروسي العاطفي الواحد؟ وتقر أنه من المحتمل أن تكون الإجابة بنعم، إذا التقى الصديق والعدو في الكائن الذي كان سببًا في الحدث. يخلق هذا الالتقاء مفارقة، لكنها مفارقة تكاد تكون مبتذلة بالنسبة إلى الخيال الأدبي الحديث. “والكراهية تبدأ حيثما يرحل الحب…” كما تهمس آنا كارينينا وهي متوجهة إلى محطة موسكو ونهاية معضلة الرغبة.

في الحقيقة، تمثل المفارقة الإيروتيكية مشكلة تسبق في الزمن إيروس نفسه. نجدها متمثلة على سور طروادة، في مشهد بين هيلين وأفروديت. الحديث بينهما حاد كما يليق بنموذج. يقدم هوميروس إلينا هيلين، وهي تجسيد للرغبة، وقد سئمت فروض العاطفة الإيروتيكية وتتحدى أمرًا من أفروديت بالذهاب إلى فراش باريس. ترد ربة الحب بغضب، مستخدمة المفارقة الإيروتيكية كسلاح: اللعنة عليكِ يا امرأة،/ لا تستفزينني – سأغضب وأتركك تسقطين!/ سينتهي بي الأمر إلى كراهيتك بنفس الشدة التي أحبك بها الآن.

تطيعها هيلين على الفور؛ فالحب والكراهية مجتمعان يصنعان عدوًّا لا يمكن مقاومته.

وأكدت إن تزامن المُرّ والحلو الذي يباغتنا في الصفة التي تستخدمها صافو: جلوكوبيكرون يُقدَّم بطريقة مختلفة في قصيدة هوميروس. يعيد التقليد الملحمي تقديم الحالات الداخلية للشعور في تجسيد ديناميكي وخطِّي، بحيث يمكن قراءة العقل المنقسم من تتابع أفعال متناقضة. ومع ذلك، يتفق هوميروس وصافو في تقديم ألوهية الرغبة ككائن مزدوج، صديق وعدو في نفس الوقت، يصيغ الخبرة الإيروتيكية بالمفارقة العاطفية.

الرغبة والحافة

آن كارسون تبحث عن إجابات لأسئلتها في الأدب اليوناني القديم
آن كارسون تبحث عن إجابات لأسئلتها في الأدب اليوناني القديم

يظهر إيروس في أنواع أخرى ولدى شعراء آخرين أيضًا كمفارقة تجمع بين الحب والكراهية. مثلاً، يخبرنا أريستوفانيس أن الشاب الخليع الجذاب ألكيبياديس كان قادرًا على أن يثير شعورا أشبه بشغف العاشق لدى المواطنين (ديموس) الإغريق: لأنهم يحبونه ويكرهونه/ ويتوقون إلى امتلاكه.

وفي مسرحية أجاممنون للكاتب اليوناني إسخيلوس، يوصف منيلاوس بأنه يتجول في قصره الفارغ بعد رحيل هيلين. تبدو الغرف مسكونة بها، وعند غرفة نومهما يتوقف ويبكي على “آثار الحب في الفراش”. لا شك أن ما يشعر به هو الرغبة، لكن الكراهية تتسرب لتملأ الفراغ (إخثيتاي): بسبب اشتياقه لشيء مضى وعبر البحر/ يبدو أن شبحًا يحكم الغرف،/ ورشاقة التماثيل المتشكلة بجمال/ تغدو موضع كراهية الرجل./ في غيبة العيون/ كل أفروديت خاوية، راحلة.

يقدم الحب والكراهية موضوعًا للقصيدة الهلينستية القصيرة (الإبيجراما) أيضًا. ومثال واضح على هذا نصيحة الشاعر نيكارخوس لمحبوبته: لو أنك تحبينني، فأنت تكرهينني. ولو أنك تكرهينني، فأنت تحبينني./ والآن إذا كنتِ لا تكرهينني، يا حبيبتي، لا تحبيني.

لعل إبيجراما الشاعر اللاتيني كتولوس هي أروع تقطير لدينا لهذا الكليشيه: أكره وأحب. لماذا؟ قد تسأل./ لا أعرف. لكنني أشعر بحدوث هذا وأتألم.

t

وأكدت إيروس مسألة حدود. هو موجود لأن حدودًا معينة موجودة. في المسافة ما بين محاولة البلوغ والإمساك، بين النظرة والنظرة المقابلة، بين “أحبك” و”أحبك أيضًا”، ينبعث الحضور الغائب للرغبة حيًا. لكن حدود الزمان والنظرة وأحبك ما هي إلا هزات ارتدادية للحد الأساسي الحتمي الذي يخلق إيروس: حد الجسد والروح بينك وبيني. وفقط، فجأة، في اللحظة التي أكاد أذيب فيها ذلك الحد، أدرك أنني لا أستطيع ذلك أبدًا.

وقالت كارسون “يبدأ الأطفال في الرؤية بملاحظة حواف الأشياء. كيف يعرفون أن الحافة حافة؟ عن طريق الرغبة الشغوفة بألا تكون كذلك. إن خبرة إيروس باعتباره نقصًا تنبه الشخص لحدود ذاته، وحدود الآخرين، وحدود الأشياء بشكل عام. الحافة التي تفصل لساني عن المذاق الذي يتوق إليه هي ما يُعلِّمني ما هي الحافة. مثل الصفة التي تستخدمها صافو: جلوكوبيكرون/الحلو المر، لحظة الرغبة هي لحظة تتحدى الحافة الخاصة بها، كونها تركيبًا من المتضادات المضغوطة معًا بشكل قهري. تترك المتعة والألم أثرهما فورًا على العاشق، بقدر ما تنبع مرغوبية موضوع الحب، جزئيًا، من نقصه. ينقص من؟ ينقص العاشق.

لو تتبعنا مسار إيروس سنجد باستمرار أنه يتبع هذا الطريق نفسه: يتحرك خارجًا من العاشق نحو المعشوق، ثم يرتد عائدًا إلى العاشق نفسه والفجوة بداخله، التي لم تكن ملحوظة من قبل. من هو الموضوع الحقيقي لأغلب قصائد الحب؟ ليس المحبوب، بل تلك الفجوة.

وتابعت “عندما أرغبك يضيع جزء مني: رغبتي فيك تقتطع جزءا مني. هكذا يفكر العاشق على حافة الحب. حضور الرغبة يوقظ فيه حنينًا للاكتمال. تلتفت أفكاره نحو أسئلة الهوية الشخصية: يجب أن يستعيد ويدمج من جديد ما ضاع منه إن كان له أن يصبح شخصًا كاملاً.

المثال الكلاسيكي locus classicus لهذه الرؤية للرغبة هي خطبة أريستوفانيس في محاورة أفلاطون “المأدبة”. هنا يفسر أريستوفانيس طبيعة الإيروس البشري عن طريق شكل مدهش من الأنثروبولوجيا (189د-193د). كانت الكائنات البشرية في الأصل كائنات مستديرة، وكل كائن مكوَّن من اثنين مرتبطين معًا في كرة واحدة كاملة. كانت هذه الكرات تتدحرج معًا في كل مكان وكانت في غاية السعادة. لكن هذه المخلوقات الكروية صارت فائقة الطموح، وفكرت في التدحرج حتى تصعد إلى جبال الأوليمب، لذلك فصلها زيوس إلى نصفين. ونتيجة لهذا لا بد أن يمضي كل واحد في الحياة باحثًا عن الشخص الواحد والوحيد الذي يمكن أن يكمل دائرته مرة أخرى. يقول أريستوفانيس “بعد أن قُطعنا نصفين مثل سمكة مفلطحة، يسعى كل واحد منا إلى الأبد باحثا عن نصفه الموافق”.

وأضافت “يجد أغلب الناس شيئًا ما واضحًا وصحيحًا بشكل مزعج في صورة أريستوفانيس عن العشاق كأشخاص قُطعوا نصفين. الرغبة كلها تجاه جزء من الذات صار مفقودًا، أو هكذا يبدو للشخص الواقع في الحب. تبرر أسطورة أريستوفانيس ذلك الشعور، على الطريقة اليونانية المعتادة، بإلقاء اللوم كله على زيوس. لكن أريستوفانيس شاعر كوميدي. لعلنا ننظر، من أجل تفسير أكثر جدية، إلى عشاق أكثر جدية. وعلى الفور سيفاجئنا ملمح من منطقهم. ملمح فاحش”.

12