أين اختفى الشاعر التونسي خالد النجار

ترى أين يكون خالد النجار الآن؟ سؤال طرحته على نفسي باكرا بعد أن قرأت له نصا بديعا في مجلة عربية عن الشاعرة القبرصية نكي مارانغو (1947-2013). وربما يكون في أمستردام أو في باريس، أو في القاهرة، أو في برلين، أو في مكان آخر لا يدريه حتى أقرب الناس إليه.
وقد يكون في بيته القديم في حي “الملاسين”، غرب العاصمة التونسية، الذي يحب أن يتحصن فيه عند عودته من سفراته الطويلة بحثا عن السكينة والهدوء في بلاد باتت مسرحا هائلا للضجيج، والفوضى، والعنف، والتسيب، والهمجية، وكل العوامل التي لا نتيجة لها في النهاية غير خراب العمران، وفساد الضمائر والعقول، وموت ثقافة حب الحياة.
وعلى أيّ حال ليس مهما أين يكون خالد النجار. فهو حتى وإن غاب طويلا، فإنه يحضر بين وقت وآخر في ذاكرتي. وكم من مرة كان معي وأنا أقرأ له نصا، أو ترجمة، أو تحقيقا من تلك التحقيقات التي تكشف موهبته العالية، وافتنانه باللغة، وثقافته الواسعة التي تأخذ من كل الفنون، ومن كل التعبيرات الإبداعية، كما تأخذ من الفلسفة، ومن التاريخ، وربما من السحر الأسود القديم، سحر القرون الوسطى.
ثم إن خالد النجار عوّدنا مذ عرفناه في بداية السبعينات من القرن الماضي، على هذا التراوح بين الظهور والغياب، وعلى هذا الغموض الجميل الذي يكتنف شخصيته القلقة، المضطربة، الهائمة في مدن العالم بحثا عن بلسم لجرح قديم قد يعود إلى زمن الطفولة، أو إلى فقدان ابنته أسماء التي قصفها الموت قبل أن تكمل العام الأول من عمرها، فكتب يرثيها قائلا “لا أمشط لأسماء/ ولا مرايا/ لا نوفمبر لها/ ولا تبكي في منتصف الليل/ ينابيع اللوتس/ ليس لها صورة فيل على ورقة/ لا دمى/ لا سمكة في فجرها/ ولا سلطان زنجبار”.
ومنذ بداية مسيرته الإبداعية كان التطلع إلى السفر يسكن قصائد خالد النجار. يقول “عندما كنت صغيرا كنت أمضي حتى أبواب الجنوب/ مُصْغيا إلى جريان الينابيع في الليل/ عندما كنت صغيرا وبريئا/ مثل/ أصداف المنام/ كانت فراشات السطوح نجماتي/ وظلال العربات ملكاتي”.
صورة الغياب
الحقيقة أن خالد النجار كان مختلفا منذ البداية؛ كان مختلفا في لغته، وفي فهمه للشعر، وفي طريقته في العيش، وفي تعامله مع الآخرين الخالي من المجاملات، ومن الإخوانيات، ومن تفاهات كثيرة أخرى. وعندما عرفته، كانت “الطليعة الأدبية” قد غزت المشهد الثقافي التونسي.
رؤيته للحداثة كانت ثمرة جهود مضنية وقراءات ذكية وأسفار وتجارب وتنصت لمن يدركون مفهومها ومعناها
وكان شعراء “في غير العمودي والحر” الذين يتغذّون من الواقعيّة الفجة والسطحيّة، يكثرون من الصخب والضجيج على المنابر، وعلى صفحات الجرائد والمجلات. أما هو فقد كان يحب أن يتوسط حلقة أصدقائه القليلين ليطلق أفكاره في الشعر، وفي النثر، وفي الفلسفة، وفي مجالات أخرى. وكانت أفكاره تلك جديدة على المستمعين إليه. وأنا لا أنكر أنه كان أول من نبهني إلى خواء حركة “الطليعة الأدبية”، وإلى ركاكة لغتها الشعرية، والنثرية، وإلى أكاذيبها وشعبويتها. لذلك سارعت بالابتعاد عنها غير آسف. وكان هو الذي عرّفني بشعراء مجلة “شعر البيروتية”، وعلى شعراء غربيين كبار من أمثال سان جون-بيرس، ووليام بتلر ييتس، وتي.آس.إليوت، وإزرا باوند، وكافافيس، وآخرين. كما عرّفني على شعراء الهايكو، آتيا في البعض من قصائده بما يعكس تأثره بهم “باحث في الليل عن شجر الرياح/ باحث عن موتي الآتي خلف الباب/ عن ذاك الشراع/ غاب في الأفق/ ولم يعدْ”.
رجل الحداثة
لا أبالغ حين أقول بأن خالد النجار كان رجل الحداثة الحقيقي في تونس سبعينات القرن الماضي. وكانت رؤيته للحداثة ثمرة جهود مضنية، وقراءات ذكية، وأسفار، وتجارب، وتنصّت لمن يدركون مفهومها ومعناها سواء من العرب أو من الأجانب. لذا جاءت خالية من التقليد الأعمى، ومن التصنع، والتكلف. وقد أصدر خالد النجار ديوانا واحدا حمل عنوان “قصائد لأجل الملاك الضائع” (رياض الريس للكتب والنشر).
وأغلب قصائد هذا الديوان الصغير تعود إلى السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، أي إلى فترة الشباب. وهي قصائد غنائية عذبة تنضح براءة وصفاء، كما لو أن صاحبها طفل لا يزال في طور النمو، واكتشاف ألغاز الكون “عندما كنت صغيرا/ كان ظل الريح بيتي/ ونواقيس المدارس أغنياتي/ كنت أمضي/ غامضا كالشمال/ متآمرا كالربيع/ كنت أمضي حتى ينابيع منتصف الليل”.
منذ فترة طويلة يتساءل أصدقاء خالد النجار عن سبب انقطاعه عن كتابة الشعر. وتساؤلهم مشروع؛ فهو لا ينشر منذ الثمانينات من القرن الماضي غير تحقيقات، وترجمات، وخواطر، وحوارات مع كتاب وشعراء. ولكني لا أظنّ أن خالد النجار طلق الشعر مثلما فعل رامبو، بل قد يكون قرر أن يخفي ما يكتبه من قصائد عن أصدقائه، وعن محبي الشعر لأسباب قد تنكشف ذات يوم.
ولعل الوضع الذي يعيشه الشعر العربي راهنا هو من بين الأسباب التي جعلته يسلك هذا المسلك؛ فالشعر عنده سعي لالتقاط روح الأشياء، وتلمّس للمستتر في حين أن جل ما يكتب من شعر في هذه الأيام بعيد عن هذا المنحى، ومتناقض مع هذه الرؤية. مع ذلك يظل خالد النجار متفردا حتى في غياب صوته الشعري.