أوهام الدراما النظيفة عن واقع ليس كذلك

الفن أكبر من هتاف فارغ وشعار أجوف عن واقع قبيح، ورسالته جمالية بالأساس، وهذا الجمال ينطوي على رسائل اجتماعية وسياسية وثقافية يقصر خيال البعض من السياسيين عن استيعابه.. الفن الحقيقي الصادق بمعياره الذاتي أكثر "دعاية" وإقناعا من أفلام معقمة وإنتاج درامي وبرامجي خارج من غرف العناية الفائقة.
الخميس 2018/12/27
مشهد من فيلم "الأيام الأخيرة للمدينة" الممنوع على المشاهد المصري

في كتابه “أسمهان تروي قصتها” سجل محمد التابعي انطباعه عن تل أبيب، وقد زارها بصحبة أسمهان في أكتوبر1941، “أنها أشبه بالمدن التي تشيّدها ستوديوهات السينما في هوليوود ليلتقطوا فيها حوادث فيلم معيّن فإذا ما انتهوا من التقاط المناظر.. هدموا المدينة وما فيها! أي أنها مدينة ولكنها لا توحي إلى النفس بشعور الثبات والاستقرار”.

ففي الماكيت المرسوم بعناية، ينفذ المخرج سيناريو لا مجال فيه لارتجال حادث أو جريمة غير متفق على “تمثيلها”. ولهذا السبب، للخروج من التخطيط الورقي إلى نظام الحياة وفوضاها، فرح بن غوريون أول رئيس وزراء لدولة العدوّ بأول جريمة تقع في فلسطين بعد احتلالها، إعلانا عن تفكيك العُقدة اليهودية المزمنة، وانتهاء مراحل اليهودي المنبوذ، من الغيتو إلى المستعمرة إلى مدن التلال، وصولا إلى المجتمع الطبيعي، “أصبحنا دولة”.

من المؤسف أن أستدعي نموذجا عنصريا استعماريا بغيضا وأنا أكتب عما يسمّى “الدراما النظيفة”، وهي سراب مصري يثقله الموظفون ومسؤولو الأمن بما لا يحتمل من المحظورات، فتأتي النتيجة بأعمال “فنية” ورقية منزوعة الروح والصدق، وتستعلي على أمراض طبيعية تؤكد الضعف البشري، وأن الإنسان لا يكتمل إلا بنقص يعالجه المختصون ويعاقب عليه القانون. وأما تصوير مجتمع يخلو من الجريمة والانحرافات بأطيافها، ولا ترتكب فيه أخطاء وخطايا، فهو يحيل إلى انتمائه إما إلى الملائكة، وإما إلى ماكيت مخطط بدقة لإنجاز التصوير.

النظافة الأسطورية التي تراد للأفلام المصرية وهم سياسي، فإذا لم يكن الفيلم منحازا إلى التوجه الرسمي، فلا أقل من النأي عن الانتقاد، وتفادي أي إشارة تربك الأسلاك العصبية العارية. ومن المفارقات أن تعرض المهرجانات الدولية فيلم “آخر أيام المدينة” لتامر السعيد، وتمنحه الجوائز، ويحرّمه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي على المشاهد المصري، ويتراجع عن عرضه بعد الإعلان عن اشتراكه في المسابقة الرسمية عام 2016. والأمر نفسه يقال عن فيلم جيهان نجيم “الميدان” وهو العمل المصري الوحيد الذي رشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي عام 2014. وإلى الآن لا تمنحهما الرقابة تصريحا بالعرض، ولا تعطي سببا للرفض.

ولا يصرّح مسؤولو الهيئة الوطنية للإعلام بما يمسّ الحرية في الإبداع الدرامي التلفزيوني، ثم لا يصمد هذا الشعار اللحظي طويلا، فيتبعونه بالقول “لا محظورات إلا ما يمس أمن مصر”. ويسهل إلصاق تهمة “المساس بأمن مصر” بمواطن يسهو عن الابتسام لشرطي في الشارع؛ فهو يعكر صفو أحد ممثلي أمن مصر. ويمكن توجيه التهمة نفسها إلى مواطن يصطحب ابنه المريض في سيارة ولا ينتبه لضابط خلفه، فلا يفسح له الطريق. وتناول شخصية الضابط الفاسد من أكبر الكبائر الدرامية، ويليها في باب المكروهات تصوير مشاهد في البارات والملاهي الليلية، كما يحظر ظهور المناطق العشوائية، وإن اضطر المخرج إلى ذلك فعليه تفادي تصوير آلات العنف الشعبية، وتعاطي المخدرات ومعها التدخين، كلما استطاع إلى ذلك سبيلا.

القضية لا تخص الأعمال الفنية، فهي رغبة سلطوية ضيقة الأفق في قولبة المجتمع، والإيحاء إلى العالم بوجود مثالية مستحيلة، وتجاهل غليان عام لا تصنعه الدراما، بل تعبّر عنه جماليّا. والفن الحقيقي الصادق بمعياره الذاتي أكثر “دعاية” وإقناعا من أفلام معقمة وإنتاج درامي وبرامجي خارج من غرف العناية الفائقة، ولا تشوبه ذرة من غبار، وما هكذا تورد الدراما. وإذا استطعنا السيطرة، بإجراءات بوليسية واحتكارية وبيروقراطية، على إنتاجنا الفني، فهل نملك حق توجيه أجانب، أو رشوتهم، لكي يجمّلوا صورتنا؟ من السخف أن نتوهم قدرة حكوماتهم على امتلاك هذا “الحق” الساذج.

أكثر الأطعمة ملتزمة بالمواصفات الصحية القياسية هي وجبات المستشفيات، ولكنها موجهّة إلى المرضى، ولا سوق لها لو طرحت للاستهلاك خارج أسوار المصحات. والدراما النظيفة تجسيد لمجتمعات سقيمة، وفي أحسن الأحوال لم تتجاوز فترة النقاهة، وتفتقد المناعة، ولا تبلغ طور تحدي الإصابة بالأمراض. ولن استشهد بأعمال تنتمي إلى دول قطعت أشواطا في الدراما والرسوخ المؤسسي، فالفلبين أقرب إلينا.

ففي عام 2016 عرض مهرجان القاهرة الفيلم الفلبيني “ما روزا”، بعد فوز بطلته جاكلين خوزيه بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان 2016. الفيلم يغوص بعمق في عالم الجريمة والمخدرات في أحياء شعبية عشوائية في العاصمة مانيلا، وفيه رجال شرطة فاسدون. ولم يسارع برلمانيون ومحامون مهووسون بالشهرة إلى نظرية المؤامرة الدولية على الفلبين، والتشكيك في جدارة بطلته بالجائزة زاعمين أنها نالتها لضلوعها في هذه المؤامرة.

ونجا مخرج الفيلم بريلانتي ميندوزا مع البطلة من تهمة “الإساءة إلى الفلبين، والمساس بأمنها”، فعاد إلى تلك الأجواء في فيلم “ألفا، الحق في القتل”، وفاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان سان سيباستيان 2018، وفيه ضابط شرطة يجنّد مخبرا شابا لتسهيل القبض على العصابة، ويستأثر كلاهما لنفسه بجزء من المخدرات المضبوطة، ثم يتخلص الضابط من الشاب بالقتل الذي كان مصير الضابط الفاسد أيضا.

الفن أكبر وأكرم من هتاف فارغ وشعار أجوف عن واقع قبيح، ورسالته جمالية بالأساس، وهذا الجمال ينطوي بالضرورة على رسائل اجتماعية وسياسية وثقافية يقصر خيال البعض من السياسيين عن استيعابها. ولدى عبدالفتاح السيسي يقين بأن للأفلام والدراما دورا في التعبئة العامة والتوعية الوطنية بشكلها الخطابي المدرسي التلقيني، فعندما كان مرشحا رئاسيا، مايو 2014، وجّه إلى الممثل أحمد السقا لوما لأنه أدى في فيلم “الجزيرة” عام 2007 دور شاب يصرخ متحديا “من النهار ده ما فيش حكومة، أنا الحكومة”، فما كان من الممثل إلا أن قال للجنرال اللائم “يا أفندم، عيّل وغلط”. وفي عيد الشرطة، في يناير 2015، خاطب السيسي الممثليْن أحمد السقا ويسرا في اللقاء الرسمي، وأقسم لهما بالله أنهما وغيرهما من الممثلين سيحاسبون على أدوارهم التمثيلية، يقصد أن الله سيتولى هذا الحساب في الآخرة.

لن تكون الدراما بخير في أجواء عامة مربكة ومرتبكة، مربكة للحاكم ومرتبكة من ردود أفعاله غير المتوقعة. خلاصة القول إن اختفاء المعارضة، أفرادا وصحفا وأحزابا، يعني أنك ميت، وأنهم غير ميتين، وإنما ينتظرون الخروج إلى النهار.

9