أول ترجمة عربية لـ"كتاب الأقوال" للكاتب الكازاخي ابراهيم قونانباي

إبراهيم قونانباي، الشهير بآباي عميد الأدب الكازاخي، وُلِدَ في منتصف القرن التاسع عشر 1845 في جبال جنكيز لعائلة معروفة في كازاخستان الشرقية، كان إقطاعيا وشيخا لقبيلة طوبقطي، أما لقب آباي الذي اشتهر به فهو تصغير لكلمة إبراهيم، كما كانت تناديه به أمه والتي أثرت فيه برعايتها. أخيرا أعادت مجلة الدوحة نشر كتاب تأملاته الذي جاء بعنوان “كتاب الأقوال” بترجمة عبدالسلام الغرياني. وتأتي أهمية الكتاب من أهمية صاحبه الشاعر والموسيقي والفيلسوف آباي الذي استطاع أن يجمع التراث الكازاخي الشّفاهي من الأغاني والقصائد ويقوم بتدوينها بعد تعلمه اللغة والكتابة، وهو ما كان أثره كبيرا عليه، حيث جعل منه خطيبا مفوها.
فجائع الشاعر
أراد والده أن يجعل منه خلفا له في المشيخة إلا أن الابن تمرد على الأب وهو ما سبب خلافات بينهما وصلت حد القطيعة، فآباي كان كل همه التفكير في مواصلة الدراسة وما إن وصل إلى سن الثامنة والعشرين انصرف تماما إلى تعلّم اللغة الروسية وانقطع لها مدة طويلة، وقد تعرف على مؤلفات بوشكين وليرمنتوف وكريلوف وتولستوي، وأعجب بهم مثلما أُعجب بكتاب آخرين ألمان مثل غوتة.
وقام بترجمة هذه الأعمال إلى اللغة الكازاخية بأسلوب بسيط يفهمه الناس. لم تقتصر مواهبه على الأدب والترجمة وكتابة الشعر أو حتى الخطابة، وإنما كان يتمتع إلى جانب كل هذا بموهبة التلحين، فلحن أشعارا استحدثت في الشعر الكازاخي أشكالا جديدة لم تكن معروفة سابقا.
الكتاب يقدم صورة حقيقية عن الكازاخ، عاداتهم وتقاليدهم وصفاتهم التي هي موضع انتقاد من قبل المؤلف
حالة التأملات التي وسمت كتاباته وهو ما كان انعكاسها واضحا في “كتاب الأقوال”، كانت نتاج عوامل كثيرة منها قلقه الوجودي، إضافة إلى النكبات التي أفجعته خاصّة بعد وفاة ابنه عبدالرحمن، ثمّ لحقه ابنه الشاعر معاوية بذات المرض الذي أودى بأخيه (التدرّن الرئوي) وعلى ما يبدو أن الفاجعة كانت كبيرة، فبعد أربعين يوما من وفاة معاوية رحل آباي نفسه وهو في التاسعة والخمسين من عمره عام 1904.
تأملات وعذابات
يُعبِّر كتاب “الأقوال” عن أوج إبداع آباي الذي وصل إلى القمة في ثمانينات القرن التاسع عشر، الكتاب كما يقول مترجمه يدور حول تأمّلات الكاتب في مغزى الحياة ورسالة الإنسان وعن الشعب وعذاباته، بكلمات تئن بالألم والشكوى، كما أن الكتاب يعكس نظرة الشاعر المرهف لوطنه وحالة الألم والرثاء التي اعترته من الحياة التي يحياها شعبه، وقد تصل إلى حد الرثاء والانتقاد الممزوج بالسخرية للسلبيات التي تعوق وتؤخر تقدّم المجتمع إلى الأمام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد أسفر الانتقاد عن دعوة يغلفها الحماس للتخلص مِن كل ما يحط من كرامة الإنسان، كما دعا إلى التسامح وسلوك طريق المعرفة، كما قدّم الإسلام المستنير بمنأى عن التعصب.
|
في بداية فصول الكتاب يطرح آباي تساؤلات عميقة عن جدوى الحياة ومعنى الوجود، وهو السؤال الذي حيره كثيرا، ويطرح أسئلة مقابلة لها علها تساعده في العثور على جواب من قبيل: هل أحكم الناس؟ أأشغل نفسي بالتعليم؟ أأختار نهج الصوفية؟ هل أعلم الأطفال؟ ومع كل هذه الأسئلة يعترف “أجد نفسي غير مؤهّل للقيام بأي عمل” ولتعويض هذا الفشل في جانب آخر يقرّر أن عزاءه سيكون في الورقة والقلم يدون أفكاره “لعل شخصا يجد فيها شيئا مفيدا، وإن لم تجد مَن يستنسخها أو يتذكرها، فستبقى له وحده”.
الكتاب في أحد جوانبه المهمة يقدم صورة حقيقية عن الكازاخ، عاداتهم وتقاليدهم وصفاتهم التي هي موضع انتقاد من قبل المؤلف وأيضا صفاتهم التي يمدحها وتميزهم، فعقيدتهم تقول إن مصدر النجاح هو الوحدة والتوافق وعمل الخير. ومع إشادته بهذه الخصال إلا أنه يرى أن الانسجام يجب أن يكون في عقول الناس لا في مشاعة الثروة.
وأثناء انتقاداته لبني شعبه تتسرب أفكار آباي الفلسفية ورؤيته التي تحمل قدرا من العمق في تقدير الأشياء. فهو يرى أنّ المرح الكاذب لا يشفي الأرواح، بل العمل العقلاني المفيد، فالذين يسمحون للروح الانهزامية بأن تتسرب لهم يخطئون لأنهم يتخلون عن التفكير السليم دون الظفر بأي عزاء أو سلوى، وبهذه التأكيدات هو يسعى إلى إظهار فرادة الحياة وكيفية الاستفادة منها ولن يذوق طعما للسعادة الحقيقية.
السعيد هو الساذج
ثمة أقوال تسري داخل الكتاب تجري مجرى الحكمة والأقوال المأثورة كأن يقول “من دون المحاولة لسبر غور ألغاز الدنيا: الظاهر منها والباطن، دون البحث عن تفسير الأشياء، لا يمكن للمرء أن يكون إنسانا” وثمة أقوال عن الحزن الذي يراه يجلب الكآبة إلى الروح ويبث القشعريرة في البدن.
الكتاب يقدم صورة حقيقية عن الكازاخ، عاداتهم وتقاليدهم وصفاتهم التي هي موضع انتقاد من قبل المؤلف
دائما ما يحتكم آباي للعقل والمنطق لا للعاطفة في مناقشاته وأطروحاته، ومع أنه في الكثير من الأحيان يتحدّث عن موضوعات إيمانية، إلا أنه يربط بيها وبين الكازاخ، فبينما هو يقدم أطروحاته عن الإيمان والصدق والكذب وأصحاب القلوب الشهية، يدخل الكازاخ في ثنايا عرضه، ويتحدّث عن أسباب اضطرار بعضهم لعمل الشر، ويرده ليس لعجزهم بقدر ما هو بسبب ضعف في العزيمة وتعطيل القلب عن قبول النصيحة والمشورة.
كما لا يغفل في حديث عن مُتع الحياة فيقدّم نصائحه عن التزيّن والاحتشام في الملابس لما لهذا من أثر كبير عليه وما بين الإفراط في التأنق، والعزوف عنه يقف في وسطية محفزا وحاضا على التميز بالعقل والمعرفة والعزيمة والضمير والخلق. الغريب أنه يرى أن السعيد هو الساذج وخلي البال؟
يقدم آباي خرائط المنهج الصّحيح التي تساعد الكازاخ على الخروج مما هم فيه فيحثهم على التعليم، كما يرى أن تعلم الثقافة واللغة الروسيتين هما المفتاح للإرث العالمي. كما يؤكد على قيمة الحياء، ويختم بقائمة من الأقوال المأثورة وفي الفصل الأخير وهو أطول هذه الفصول والمرقم بـ38، يلخص فيه فحوى دعوته التي فصلها في الفصول السابقة، متوجها بحدثيه إلى الأطفال الذين كتب هذا السفر من أجلهم وتركه لهم ليكون حافزا على التذكرة، هادفا إلى أنْ تتسرب إليهم دعوته بالحب الذي يغمر أفئدتهم، ثم يأتي إلى تفصيل معنى الحب الإنساني وشرح معانيه.