أولوية ترتيب الأولويات في الجزائر

يحسب للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون رفع القيود البيروقراطية وتصفية الحسابات السياسية، أمام مشروع سحق البذور الزيتية في الجزائر، ومكنه من استكمال مراحل التنفيذ إلى غاية دخول الإنتاج منذ أيام قليلة فقط، ويحسب عليه أيضا أنه لم يمانع من انتشار موضة شراء المؤسسات الحكومية للنوادي الرياضية، بدل الذهاب إلى استثمارات حقيقية توفر مناصب الشغل وتساهم في خلق الثروة.
هناك اختلال في تحديد الأولويات، فكل القطاعات مهمة بما فيها الترفيه والرياضة، لكن المرحلة الصعبة التي تمر بها البلاد، تستدعي رشدا حكوميا في ترتيب أولويات الدولة، فرغم أن مصنع سحق البذور الزيتية هو استثمار خاص لشركة “سيفيتال” المملوكة لعائلة ربراب، إلا أنه يمثل إضافة حقيقية إلى الاقتصاد المحلي، فهو إلى جانب أعداد العمال والموظفين الذين يستقطبهم، يساهم في تنشيط دورة مهمة في مجال الزراعة والصناعة التحويلية. لكن في المقابل تتهافت مؤسسات مملوكة للدولة على شراء نواد لكرة القدم لا ينتظر منه شيئا، وهذا يطرح مفارقة غريبة، إلا إذا كان الأمر يتعلق بشراء رضا الأنصار على السلطة.
سخاء الحكومة على قطاع الشباب والترفيه، بقدر ما قدّم لها الولاء من طرف كبريات النوادي الشعبية على أمل تحقيق استقرار اجتماعي، بقدر ما خلق حالة من الحنق الناجم عن التمييز في الاهتمامات والانشغالات اليومية
رجل الأعمال الأول في البلاد، أطلق المشروع منذ سنوات، إلا أنه ظل معلقا بسبب تصفية حسابات سياسية مع حكومات الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، وها هو الآن يرى النور بفضل الحرص الذي أبداه الرجل الأول في الدولة الآن على تنفيذه، وسيفتح الآفاق أمام البلاد للوصول إلى اكتفاء ذاتي في مجال إنتاج زيت الطبخ، ويوفر جزءا من أعلاف الماشية، ويشجع المزارعين على الاستثمار في زراعات السلجم ودوار الشمس، وغيرها من المزروعات.
لكن ما الذي منع سوناطراك، وسونلغاز، وموبيليس.. وغيرها، من الاستثمار في مشروعات مماثلة تساهم في الحد من البطالة وفي خلق الثروة، بدل الذهاب إلى شراء نواد رياضية لم تقدم أيّ شيء للكرة الجزائرية، خاصة وأن الفساد متغلغل بقوة داخلها، وتطهيرها فقط يتطلب جهودا جبارة.
هناك مشروعات واستثمارات حكومية مرت عليها سنوات ولم تر النور إلى حد الآن، كالسدود والبنى التحتية، وتعرف حالة من الشلل بسبب عدم ضخ أغلفة مالية جديدة لتنفيذها، بعدما استنفدت أغلفتها الأصلية بسبب قصور التخطيط والتقييم، لكن الملاحظ أن المال العمومي يوجه بقدرة قادر إلى الترفيه واللعب بدل الإنجازات الضرورية.
ولعل توجيه الحكومة لـ70 في المئة من الموازنة السنوية للدولة، التي وصفت بالتاريخية بعدما ناهزت سقف الـ100 مليار دولار، إلى التسيير وهو تغطية الرواتب والزيادات في الأجور والمعاشات والتحويلات الاجتماعية، بينما تجمّد أو تراجع التجهيز وهو الاستثمارات الحكومية إلى مستوى منخفض هو أبرز الاختلالات في التخطيط، لأن الاستثمار العمومي في قطاعات البناء والبنى التحتية والمنشآت والخدمات المتنوعة هو الذي يشكل القاطرة الأمامية لأيّ اقتصاد ناشئ.
وإذا كانت السلطة عازمة على رفع الموازنة السنوية القادمة إلى 110 مليارات دولار، فإن الذي لا يجب أن يتكرر هو عدم تحديد الأولويات والعقلنة في إنفاق المال العام، والتفكير الجاد في إعادة الروح إلى القطاعات المذكورة، لأنها كفيلة بتحريك دورة اقتصادية كاملة بداية من اليد العاملة إلى مواد البناء والنقل والحرف.. وغيرها.
لسوء حظ الحكومة، أن الإعلان عن تخصيص موازنة ثمانية ملايين دولار، لإنجاز تمثال تاريخي للأمير عبدالقادر بمدينة وهران، تزامن مع الفيضانات التي خلفت أضرارا معتبرة في العديد من المدن والأرياف، وجعل للمنتقدين ذرائع وجيهة لأن الوضع يحتم إما التوازن في إنفاق المال العام على مختلف القطاعات، أو تحديد دقيق للأولويات، وفي هذه الحالة فإن الاهتمام بالمنشآت والبنى التحتية والطرقات أولى من تمثال الأمير عبدالقادر، أو أي شيء من هذا القبيل.
هناك اختلال في تحديد الأولويات، فكل القطاعات مهمة بما فيها الترفيه والرياضة، لكن المرحلة الصعبة التي تمر بها البلاد، تستدعي رشدا حكوميا في ترتيب أولويات الدولة
صحيح أن الرياضة وكرة القدم تحديدا، باتت تستقطب رؤوس أموال كبيرة ومحل استثمارات ضخمة، فهي صارت صناعة قائمة بحد ذاتها ولم تعد مجرد لعبة يتلهى بها الفقراء، لكن الوضع يختلف بين الاستثمار في النوادي الإسبانية أو الإنجليزية أو الفرنسية، وبين النوادي الجزائرية، وإذا كانت الدوريات المذكورة هي محل اهتمام كبار المستثمرين في العالم، فإن رأس المال الجزائري الخاص لم يحدث أن غامر بأمواله في أيّ من النوادي، فما الذي ظهر للشركات الحكومية وخفي عن الخواص حتى يقدم هؤلاء على الاستثمار في نواد لا تملك لاعبا واحدا في المنتخب الوطني الأول؟
وحتى يسعد ربراب، المعروف بإتقانه للآلة الحاسبة، لم يفكر يوما في الاستثمار في أيّ ناد كروي، بما فيها نوادي منطقة القبائل التي ينحدر منها ويتحمس لها، وهذا دليل آخر على أن لغة الاقتصاد والفوائد والعائدات غير متوفرة في نوادي الدوري، وأن المؤسسات الحكومية المدفوعة بقرار فوقي لا تفكر في النتائج أكثر مما تفكر في إرضاء صاحب القرار، الأمر الذي يكرس ثقافة الريع والمال العام وغياب الرؤية الحقيقية حول ترتيب أولويات الدولة.
سخاء الحكومة على نوادي كرة القدم، وعلى قطاع الشباب والترفيه، بقدر ما قدّم لها الولاء من طرف كبريات النوادي الشعبية على أمل تحقيق استقرار اجتماعي، بقدر ما خلق حالة من الحنق الناجم عن التمييز في الاهتمامات والانشغالات اليومية، فبالنسبة إلى هؤلاء لا معنى لصرف 200 ألف دولار لإنجاز ملعب كروي في قرية نائية سكانها يعانون العطش، ولا معنى لأن تتكفل هذه الشركة أو تلك بهذا لنادي أو ذاك، بينما العشرات من النوادي تئن تحت طائلة الفقر وقلة الحيلة.
شركات عمومية تسرّح عمالها وتشتري ناديا كرويا هي مفارقة عجيبة، فإما أن تكون في راحة مالية وتفكر في توسيع نشاطها وتوسيع استثماراتها لقطاعات أكثر مردودية وأهمية للمجتمع، وإما أن تكون في صعوبات مالية وهنا يجدر بها التخطيط لإنقاذ نفسها قبل إنفاق المال العام في استثمارات استعراضية وشعبوية، وفي المحصلة فإن ترتيب الأولويات يتوجب أن يكون هو الأولوية.