أوروبا ليست مستعدة لسيناريو تنهار فيه تونس

هناك دخان أبيض صادر عن واشنطن حيث أكد أنتوني بلينكن أن الولايات المتحدة سيكون موقفها مرحبا إذا قدمت الحكومة التونسية إلى صندوق النقد خطة إصلاح معدلة يمكن للصندوق أن يعمل عليها.
الأربعاء 2023/06/14
تونس لم تختر أن تكون في موقف يضيق على المفاوضين الأوروبيين المناورة

الهجرة السرية أو “الحرقة” ملف ساخن وقضية تقلق دول أوروبا، جنوبها وشمالها. رغم ذلك، يخطئ كثيرا من يظن أن قوة الموقف التفاوضي للحكومة التونسية مع دول الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي محصورة بهذا الملف.

لم تختر تونس أن تكون في موقف يضيق على المفاوضين الأوروبيين المناورة، الجغرافيا والتاريخ هما العاملان اللذان وضعا تونس بمثل هذا الموقف التفاوضي القوي.

جغرافياً، تقع تونس على بعد مرمى حجر (أقل من 90 ميلا) من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية التي تشكّل نقطة انطلاق للمهاجرين ومعظمهم من دول أفريقيا جنوب الصحراء، يبحرون بـ”قوارب الموت” بحثا عن حياة أفضل.

الأرقام الصادرة عن وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، تشير إلى وصول أكثر من 51 ألف مهاجر، سراً، عن طريق البحر إلى الشواطئ الإيطالية منذ بداية عام 2023 انطلاقا من السواحل التونسية والليبية. أي أن الرقم مرشّح ليتجاوز 120 ألفا حتى نهاية العام، خاصة مع دخول فصل الصيف. والمقلق، إن لم نقل المخيف، أن الأرقام ارتفعت بنسبة 150 في المئة عن العام الماضي، قضى أو فُقدَ منهم ما يقارب ألف مهاجر في حوادث غرق خلال 5 أشهر. وهو ما يضع حكومات أوروبا بموقف حرج على الصعيد الإنساني، الذي طالما أجادت المتاجرة به قبل الدخول في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.. الآن مع توافر المعلومات لم تعد دموع التماسيح تجدي نفعا.

◙ التونسيون الذين خرجوا بالكاد من عشر سنوات صعبة شهدت ثورة ووباء وتغيرات بيئية وأزمات اقتصادية طالت الغذاء والطاقة، يجيدون فن الصيد، كل ما يحتاجون إليه هو فسحة من الوقت يطوّرون خلالها أدواتهم

تاريخياً، الحبر الذي كتب به الماضي الاستعماري السيء للدول الأوروبية في القارة الأفريقية لم يجفّ بعد. وليست هناك حاجة إلى التذكير بتفاصيله. اسألوا “بينغ” سيقدم لكم كشف حساب مطوّل يندى له الجبين.

الحكومة التونسية ليست مسؤولة عن حقائق الجغرافيا، وليست هي من اختار أن  تكون على مرمى حجر من شواطئ إيطاليا، ولا من دوّن الماضي الأوروبي الأسود في أفريقيا. القدر وحده وضعها وزودها بمثل هذا الموقف التفاوضي القوي.

القدر نفسه، الذي منح تونس موقعا جغرافيا مميزا، وضع الأوروبيين في موقف تفاوضي لا يحسدون عليه. وكل ما يريدون الآن تحقيقه هو الوصول إلى حل يحفظ ماء الوجه.

التونسيون الذين منحوا القارة الأفريقية اسمها (أفريقيا) شعب يتقن فن التفاوض ولا يعترف بالهزيمة. وفي الوقت نفسه هم حريصون على ألاّ يشعروا الطرف الآخر بالهزيمة. يمكن للطرفيين أن يخرجا منتصرين.

لطالما كان الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، القائل بمبدأ “خذ وطالب”، مصدر إلهام للكثير من العرب، رغم أن العرب لم يدركوا بداية أهمية سياساته القائمة على تقديم تنازلات جزئية مقابل المطالبة بحقوق أكبر.

التونسيون الذين انقسموا أيام الاستعمار الفرنسي بين مؤيد لسياسة بورقيبة وبين من اختار الاصطفاف إلى جانب تيار صالح بن يوسف الذي رفض أيّ حلول وسط وعارض الاستقلال الداخلي الذي قبل به الحبيب بورقيبة، يلتفّون اليوم بشكل يكاد يكون شبه جماعي خلف حكومتهم ورئيسها قيس سعيد في الموقف التفاوضي مع دول الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد، للحصول على مساعدات وقروض تمول النقص في ميزانية البلاد.

من هذا المنظور (خذ وطالب) تعتبر النتائج التي تم التوصل إليها مع الوفد الأوروبي إيجابية.

إذا أردت أن تطاع وتستجاب مطالبك، عليك طلب المستطاع. والأهم ألاّ تحرج الطرف الآخر بفرض شروط مذلة عليه، حتى لو كان بمقدورك وضعها على الطاولة. ابحث لخصمك عن مخرج يحفظ له الكبرياء، إنها مسألة وقت فقط، في النهاية ستأكل العنب دون أن تضطر لقتل “الناطور”. وهذا ما فعلته الحكومة التونسية ورئيسها.

أثبت الرئيس التونسي قيس سعيد في كل مرّة وضعته فيها الأحداث بالاختبار أنه أستاذ في فن المفاوضات وإيجاد الحلول.

◙ لتونس إمكانيات كثيرة، بشرية وجغرافية، وما يحتاجه التونسيون هو تصحيح الخلل وإعادة توظيف هذه الإمكانيات، خاصة أن البدائل والحلول موجودة

كل الخطوات التي خطاها من لحظة فوزه في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 13 أكتوبر 2019 وحصل فيها على نسبة 72.71 في المئة من أصوات الناخبين، اتسمت بالهدوء والتأني والصّبر، رغم التحديات الأمنية والاقتصادية والبيئية التي تواجهها البلاد.

خلال ثلاث سنوات ونصف استطاع الرئيس التونسي أن يتغلب على صعوبات جمة، واحدة منها كانت تكفي لتعصف بأقوى الحكومات، وهذا ما منحه مصداقية كبيرة لدى التونسيين بمختلف فئاتهم. إنه بالنسبة إليهم الرئيس الذي يتكلم قليلا ويعمل كثيرا، ولا تبهره أضواء الكاميرات وعدساتها.

قيس سعيد لم يستمد قوته من نسبة الأصوات المرتفعة التي منحه إياها التونسيون فقط، وهي تكفي لمنحه تلك القوة وأكثر، ولكن من إدراكه لحقيقة كان الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة قد أدركها من قبل عندما استخدم كلمة “شمخة” في وصفه للتونسيين. والكلمة تستخدم دلالة على الأنف المرتفع، مثل جبل شامخ، وهي كناية عن الاعتداد بالنفس والكبرياء. ولأن قيس سعيد يعرف مدى كبرياء التونسيين رفض أيّ إملاءات تفرض عليهم.

محير ومدهش أمر التونسيين. في عام 1984 أدت زيادة فرضت على سعر الخبز إلى اضطرابات سقط خلالها المئات من القتلى والجرحى، اضطر على إثرها الزعيم بورقيبة إلى التراجع عن القرار وإلغاء الزيادة وإعلان حالة الطوارئ. اليوم تشهد تونس ارتفاعا غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية، وتختفي سلع كثيرة عن رفوف المتاجر، دون أن تصدر عن الشارع التونسي أيّ بوادر ولو قليلة من التململ.

ما تم الاتفاق عليه مع وفد الاتحاد الأوروبي الذي زار تونس مؤخرا غامض ومبهم، إلى حد ما، إلا أن قراءة لما بين السطور في البيان المشترك الصادر عن الجانبين (نشرته الصفحة الرسمية للرئاسة التونسية على فيسبوك) ثمّن التاريخ المشترك للطرفين والقرب الجغرافي والعلاقات المتينة بينهما، وأشار إلى حزمة شراكة شاملة تعزز العلاقات الاقتصادية والتجارية والطاقة المستدامة والتنافسية والهجرة والتقارب بين الشعوب.

يمكن أن يستشف من صياغة البيان وجود حلول بعيدة المدى. وهو ما جرى التطرق إليه على لسان رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته، اللذين أكدا التعاون في مجال التجارة والاستثمار في القطاع الرقمي ومجال الطاقة والطاقة المتجددة وبرامج التعليم.

◙ الأرقام الصادرة عن وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، تشير إلى وصول أكثر من 51 ألف مهاجر، سراً، عن طريق البحر إلى الشواطئ الإيطالية منذ بداية عام 2023 انطلاقا من السواحل التونسية والليبية

ألا يقول الصينيون علّمني كيف أصطاد ولا تطعمني سمكا.

التونسيون الذين خرجوا بالكاد من عشر سنوات صعبة شهدت ثورة ووباء وتغيرات بيئية وأزمات اقتصادية طالت الغذاء والطاقة، يجيدون فن الصيد، كل ما يحتاجون إليه هو فسحة من الوقت يطوّرون خلالها أدواتهم.

لننس اللغة “المبهمة” التي صيغ بها البيان، الوقائع والصور تؤكد أن أوروبا ليست مستعدة لسيناريو تنهار فيه تونس، لذلك لم يتوقف الوفد طويلا ليناقش شروط صندوق النقد. وهو ما يؤكد تفهمهم الكامل لوجهة نظر الحكومة التونسية.

بل هناك أيضا دخان أبيض صادر عن واشنطن حيث أكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أنّ الولايات المتّحدة سيكون “موقفها مُرحِّباً إذا قدّمت الحكومة التونسية إلى صندوق النقد الدولي خطّة إصلاح معدّلة يمكن للصندوق أن يعمل عليها”.

ولكن، من الآن وإلى أن يحين ذلك، إلى أيّ حد يستطيع الرئيس التونسي أن يراهن على التفاف الشارع حوله، وما الفرق بين عام 1984 وعام 2023، وماذا تغير؟

الفرق، أن التونسيين يدركون اليوم أن البلاد تمر بظروف استثنائية، وهي ظروف طالت الكثير من دول العالم، وبالتالي لا ينتظرون حلولا سحرية لها.

لتونس إمكانيات كثيرة، بشرية وجغرافية، وما يحتاجه التونسيون هو تصحيح الخلل وإعادة توظيف هذه الإمكانيات، خاصة أن البدائل والحلول موجودة.

8