أورهان باموق متهم بالخيانة للحصول على نوبل ثانية

"ليالي الطاعون" تضع الكاتب التركي في أتون معركة جديدة لتكسير العظام.
الأحد 2021/12/05
أورهان باموق يحاكم مجددا بسبب رواية جديدة

واحدة من المعضلات التي تواجه الأدب والفن بصفة عامّة في كافة الأزمنة والأماكن (وهي ما كانت سببًا لمحاكمات الفكر والإبداع في مختلف العصور) حالة التربص التي يوليها سدنة الأخلاق وحرّاس الفضيلة لما يطرحه الفن من موضوعات، خاصّة إذا تعلّق الأمر بالمساس بالمقدّس أو القيم الأخلاقيّة والآداب العامّة، وهو ما يعني الحكم على الفن بقوانين أخلاقيّة أو قوانين المطابقة والمخالفة للواقع.

لا يأخذ المتربصون بالإبداع في الاعتبار أن سمة الفن الأساسيّة أنه غير قابل للقولبة أو الحكم عليه بمعيار الأخلاق والفضيلة، بمعنى أن قيمة الفن الحقيقيّة تكمن في مغايرته للواقع، وصبغه برؤيته التي قد تكون بالضرورة ضد المألوف والشائع، وبالتالي فالفنان لا ينتظر منه أن يقوم بدور أخلاقي داخل المجتمع، فهو في الأساس ليس واعظًا أو داعية، وإنما هو فنان -بالمعنى اللغوي والجمالي- له رؤيته الخاصّة فيما يراه ويطرحه، قد تختلف أو تتفق، لكنها في المحصلة الأخيرة هي ناتجة عن منظور فني/ جمالي (استيطيقي) بعيد كل البعد عن (أو يخالف بدرجة ما) المنظور الأخلاقي والقيمي الذي ينظر به الأفراد العاديون للشيء ذاته.

فالفنان لا يحاكي أو يُقلّد الطبيعة أو تلك النماذج التي يجعلها مادّة لكتابته، وإنما -في الأول والأخير- هو خالق مبدع/ مبتكر يسعى لأن يتمثّل ويحاول -كما يقول الدكتور سعيد توفيق- أن يحاكي (على نحو ضمني لا شعوري) المبدع الأعظم الذي خلق لنا أشكالاً خالصة من الجمال الكوني، وكأنّه يدعونا إلى تأمُّل الجمال في ذاته باعتباره آيةً على الإبداع، وهو بذلك يقوم بإجراء تعديلات جوهريّة على المشهد أو الموقف الطبيعي، أو النموذج الذي يقوم بمحاكاته بأن يضيف أو يحذف وغير ذلك من الأمور المتعلِّقة بطبيعة الفنان (الخالق/المبتكر) الذي يسعى لوضع بصمته الخاصّة إزاء ما يرى، ومن ثمّ فمن الإجحاف أو الظلم البيّن محاسبة المبدع على رؤيته الاستيطيقيّة بما تحمله من إضافة أو حذف، أو محاسبته على هذه الرؤية وفق قوانين الذوق والأخلاق.

الفن ليس نموذجًا أو وصفة [ماكيت] يجب على الكاتب أن يلتزم به/ بها، وإلا صار منشقًا وخارجًا عن نسق سلّم القيم والأخلاق، فقيمة الفن الحقيقية “تكمن في قدرته على إبداع القيم الفنيّة والجماليّة باعتبارها قيمًا مستقلة قائمة بذاتها، بصرف النظر عن القيمة التي يُعبّر عنها موضوع ما، حتى إن كان موضوعًا قبيحًا في الواقع”، وهو ما يستمده من صفة الخيال التي هي قرينة الفن.

 المعيار الأساسي للفن بكافة أنواعه هو البعد الجمالي الذي  يتمثّل في قدرة وبراعة التعبير عن أيِّ موضوع كان، سواء أكان مقدسًا أم مدنسًا؛ أي في القدرة على إبداع وتشكيل القيم الفنيّة والجماليّة داخل العمل الفنيّ في تناوله لموضوع ما. وهو ما يستلزم -بالضرورة- عدم الخلط بين الواقعي الذي يتجسّد في زمانٍ ومكانٍ مُحدّديْن، واللاواقعي الذي يتمثّل من خلال العمل الفني في صورة متخيّلة للواقعي.

الصيد الثمين

ما يكتبه باموق أدب يخضع للمعايير الفنيّة والجماليّة، لا لتقييمات أخلاقيّة وسياسيّة، وبالتالي لا يجب مطابقته مع الواقع

يبدو أن الكاتب التركي أورهان باموق (من مواليد 1952) الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 2006 صار هدفًا وصيدًا ثمينًا للأعداء اللدودين، فما إن يُصرِّح بتصريح لإحدى المجلات أو الصحف، أو ينشر عملاً جديدًا، حتى يتحرك ضده هؤلاء الأعداء اللدودون، ويُنقِّبُون فيما يقول ويكتب، إلى أن يصلوا إلى هدفهم بالإيقاع به في المصيدة.

اللافت أن هذا الأمر لم يعد خافيا على أحد، بمن في ذلك باموق نفسه الذي وطّن نفسه على مثل هذه السلوكيات وراح يتعامل معها بكل بساطة وأريحيّة، خاصّة أن دفاعه الأساسيّ أن ما يكتبه هو أدب يخضع لمعايير الفن الفنيّة والجماليّة، لا لتقييمات أخلاقيّة وسياسيّة، وبالتالي لا يجب مطابقته مع الواقع أيًّا كانت التشابهات والتوازيات، فما ينقله عن الواقع يتحوُّل إلى لاواقع طبقًا لما يحلّه عليه الفن أو المتخيّل من صفات ومزايا جديدة.

لكن هذه القناعة وتلك الأريحيّة في التعامل من قبل باموق تُقابلان بتعصُّب وتشدّد من قبل أعدائه اللدودين، الذين وصل بهم العنت إلى البحث عن أوجه الصلات بين شخصياته الروائيّة والشخصيات الواقعية، ومن ثمّ ينصبون له محاكم أخلاقيّة وجنائيّة، كإدانة له على التطاول على الرموز بما تمثّله من مكانة قيميّة وتاريخيّة، وهو ما تكرّر الآن مع روايته الجديدة “ليالي الطاعون” التي اختزلوها في السخرية من رمز القومية والكمالية، وإهانة العلم التركي، وهو ما يستوجب محاكمته على هذا العبث.

يقدّم باموق في مرويته الجديدة “ليالي الطاعون” (يابي كريدي للنشر (YKY)، 2021) أحداثًا مشابهة لما عايشه العالم أجمع أثناء جائحة كوفيد – 19، من خلال العودة إلى المدونة التاريخيّة والأرشيف الصّحي، حيث انتشار وباء الطاعون في جزيرة مينغر الخياليّة، الواقعة حول قبرص ورودوس في شرق البحر المتوسط، وهي المقاطعة التاسعة والعشرون للإمبراطورية العثمانيّة.

 الرواية تاريخيّة في المقام الأول تحكي عن الأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية في بدايات القرن العشرين، كما تمتد أحداثها إلى بدايات الجمهورية الحديثة، حيث ترد إشارات مباشرة وغير مباشرة تربط بين شخصية الجنرال كول آغاسي كامل ومؤسس الجمهورية مصطفى كمال، وهو ما سيضع باموق تحت مقصلة السخرية من رمز القوميّة التركيّة، على نحو ما حدث له من قبل عندما اتهم بإهانة الهوية التركية في عام 2005 (أي قبل عام من حصوله على جائزة نوبل فى الآداب) عندما صرّح لإحدى الصحف السويسرية مظهرًا تعاطفه مع قضية الأرمن وما حدث لهم أثناء الحرب العالمية الأولى على يد العثمانيين.

مواطن التشابه -على نحو ما أظهر منتقدو الرواية- بين بطل رواية باموق الجديدة ومؤسس الجمهوريّة، متعدّدة لا تتوقف عند الاسم والوظيفة والدور الذي لعبه كل منهما في تأسيس مملكته/ دولته الخاصّة (الأول في الجزيرة حيث فرض نفسه حاكمًا عليها بمحاربة قوى الاستعمار على الجزيرة، والثاني على أنقاض الدولة العثمانيّة)، فبطله “كول آغاسي كامل” وطأ الجزيرة لأول مرة كعقيد، وكان متأثرًا بالثورة الفرنسيّة وشعاراتها، واستولى على الجزيرة بأكملها بالجنود المحليين، ولتثبيت أركانه فيها أطلق شعارات قوميّة مثل: “مينغر ملك لشعب مينغر” وهو ما يتوازى مع شعار “تركيا ملك للأتراك”، وغيرها من الآليات التي أوثق بها قبضته على الجزيرة ومن فيها.

وهو ما يبدو وكأنه تقاطع غير مباشر مع سيرة مؤسس الجمهورية، ومع هذا فالرواية تمزج الخيال بالواقع، والسياسة بالاجتماعي؛ حيث هناك شخصيات وأحداث من بنات أفكار باموق، مثل الابنة المتخيّلة للسلطان مراد “باكيزة سلطان”، وكذلك الصيدلي الكيميائي “بونكوفسكي باشا” الذي أرسله السلطان عبدالحميد إلى مينغر لاحتواء الطاعون، رغم مقتله بعد وقت قصير من وصوله إلى الجزيرة، وبالمثل الحاكم سامي باشا وماريكا وزينب وكول آغاسي فجميعها شخصيات خياليّة.

 الرواية تاريخيّة في المقام الأول تحكي عن الأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية وتمتد أحداثها إلى بدايات الجمهورية الحديثة
الرواية تاريخيّة في المقام الأول تحكي عن الأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية وتمتد أحداثها إلى بدايات الجمهورية الحديثة

تعود أحداث الرواية إلى حقبة زمنية غابرة، تتصل بعهد السلطان عبدالحميد الثاني؛ أي إلى ربيع عام 1901، وإن كانت وقائع الوباء تعود إلى عام 1894 الذي وفد من الهند والصين، وقد تفشى هذا الوباء الخطير في الجزيرة الخياليّة التي نصف سكانها مسلمون والنصف الآخر يونانيون. وقد هدّد الوباء سكانها بالفناء، فاضطر السلطان عبدالحميد الثاني إلى إرسال شخصيْن إلى الجزيرة للتحقيق في الوباء، فتمّ تعيين الكيميائي بونكوفسكي باشا -وهو أوّل هؤلاء الأشخاص- رئيسًا لمفتشي الصّحة، ثمّ لحقه الدكتور نوري، وهو متزوج قبل وقت قصير من تفشي الوباء من باكيزة سلطان -ابنة السلطان مراد- وقد قررت باكيزة سلطان مرافقة زوجها (الدكتور نوري) في رحلته إلى الجزيرة.

ما إن يصل الموفدون من قبل السطان إلى الجزيرة حتى يسوؤهم الوضع الصحي للسكان؛ فالوباء متفشٍ، والخطورة أسوأ بكثير مما كانوا يتصورون. وبذلك تكون رواية “ليالي الطاعون” حسب تصريحات باموق هي “قصة هؤلاء الأشخاص الذين يكافحون من أجل تطبيق الحجر الصِّحي ويكابدون في شؤونهم العاطفيّة في مواجهة تقاليد الجزيرة”، وبصفة عامة هي رواية تتناول صِراع القوى (الاستعمارية) والثقافات المختلفة، والخوف من الموت والحبّ والتقاليد على جزيرة صغيرة أثناء الجائحة.

تعمل جميع الشخصيات معًا لضمان امتثال سكان الجزيرة لقواعد الحجر الصحي، والالتزام بالمحظورات، ونتيجة للوفيات التي بدأت تزداد بسبب الوباء يصاب سكان الجزيرة بالذعر ويخترقون قواعد الحجر الصحي، فتنجرف الجزيرة إلى كارثة مع توالي الأيام.

انعزال الجزيرة عن العالم الخارجي والسجن الذي وضع فيه الكثير من الشخصيات، إضافة إلى حالة الشخصيات الغريبة مثل الدكتور نوري الذي لم يغادر غرفة الفندق ولم يضطر إلى التجول في أرض المزرعة كأنه كان يعيش حياة السجن، والموت الذي حلّ بأهل الجزيرة إثر انتشار الطاعون، كل هذا يشير إلى الرمزية المباشرة وغير المباشرة التي قصدها باموق بحال الإمبراطورية العثمانية المتداعية، وحالة الموات الذي ظهرت عليها في آخر أيامها.

العودة إلى الكلاسيكية

تشويه رمز الجمهورية تهمة أعداء الكاتب لروايته الخيالية
تشويه رمز الجمهورية تهمة أعداء الكاتب لروايته الخيالية

الرواية تنقسم شكليًّا إلى جزأين؛ الأول يتماهى فيه باموق مع التاريخ، حتى يكاد القارئ ينسى أنه يقرأ رواية متخيّلة، فالتاريخ حاضر بكثافة، بأحداثه ورجاله ومؤامراته أيضًا، كما أن الخارطة الداخلية للجزيرة بكل تفاصيلها الدقيقة لا يأتي حضورها عبثًا، فهي مترجمة داخل المتن على نحو دقيق، حيث باموق يعتني بوصف الأماكن والأحياء والشوارع والبيوت والمتاجر، فنشاهد وصفًا دقيقًا للميادين والانحدارات والتلال، وبالمثل نجد وصفًا لمكتب البريد (الذي هو واحد من خمسين مكتب بريد متطورًا من 1360 مكتب بريد في الإمبراطورية العثمانية)، باعتباره نقطة الاتصال الوحيدة بين الجزيرة والعالم.

 كأن الكاتب بهذا الوصف الطوبغرافي يؤسس لمكان سيأخذ استقلاله بعد قليل، خاصة أن جزيرة مينغر بوضعيتها كجزيرة مستقلة ومنعزلة جغرافيا وسياسيًّا وثقافيًّا محتلة من قوى غربيّة والسلطنة العثمانية ممثلة في الحاكم سامي باشا المعين من قبل إسطنبول، وكأن ثمة تحالفَا دولٍيا يهيمن على هذه الجزيرة الكنز والفريدة بموقعها وطبيعتها، ويكون حلول الوباء على هذه الجزيرة بمثابة النقمة والنعمة على مصير الجزيرة في آن واحد؛ إذ إن التنازع بين القوى الاستعمارية للجزيرة ينتهي باستقلالها على يد المخلِّص الضابط العثماني كول آغاسي كامل.

تنحرف الرواية في هذا الجزء إلى رواية بوليسيّة؛ فتسرد عن ولع السلطان عبدالحميد بالرواية البوليسية، إضافة إلى ما تسرده عن جرائم القتل والبحث عن القاتل على أرض الجزيرة، وهذه الأحداث تشغل حيزًا مهمًا في فك لغز هذه الجرائم.

وفي القسم الثاني الذي هو أشبه بالثورة التي تحدث في المكان نشاهد ما قام به كول آغاسي كامل -وهو ضابط عثماني شاب- خلال تأسيس مملكته ونضاله حتى الاستقلال الذي حققه للجزيرة. تتخلل هذه الأحداث قصتا حب؛ الأولى تتمثّل في حب كول آغاسي كامل لزينب، إحدى الفتيات الصغيرات من سكان الجزيرة. أما القصة الثانية فهي حب الحاكم سامي باشا لماريكا التي تشاركه الدعم ومحاولة الحفاظ على النظام داخل الجزيرة.

وتراوح الرواية بين عوالم الموت والمرض والسجن، فهي تقدِّم زوايا مختلفة لهذه القضايا، بانعكاسات تأخذ طابعًا خاصًا في هذه الجزيرة الخياليّة المنعزلة.

أزمة الرواية الجديدة تضعنا في دائرة السؤال القديم – الجديد عن حرية الإبداع وحدود التعبير ومحاكمة الخيال
أزمة الرواية الجديدة تضعنا في دائرة السؤال القديم - الجديد عن حرية الإبداع وحدود التعبير ومحاكمة الخيال

تمثّل الرواية الجديدة أهمية خاصّة على المستوى الفني لكتابات باموق؛ إذ تعتبر بمثابة عودة إلى الرواية الكلاسيكيّة الخالدة على غرار روايته الأولى “جودت بيك وأبناؤه” (1982) التي لم تكن مجرد حكاية عن عائلة إشكيجي على مدار ثلاثة أجيال، وإنما هي بالأصح رواية عن تحولات المجتمع التركي في فترة تاريخيّة معينة ممثلة في “عبدالحميد الثاني، تركيا الفتاة، المذكرة العسكرية، مواقف مثقفي الفترة حول إشكاليّة الشرق والغرب، البيروقراطية والحياة السياسية، السبعينات وما شهدته من انقلابات وصراعات أيديولوجية”.

وبالمثل الرواية الجديدة لا تبعد عن هذه الفترة (آخر الخلافة العثمانية)، إذ تنكشف تعقدات الوضع السياسي والصراعات والانقسامات الداخلية للسلاطين العثمانيين، ومحاولات الاستقلال التي تمت للأبطال من الثوّار القوميين، في صورة مصغرة على أرض هذه الجزيرة، كنوع من الموازاة للاستقلال الذي حدث -بصورة أكبر- مع الغازي مصطفى كمال، وتدشينه للجمهورية الجديدة.

وتتماثل هذه الرواية كذلك مع رواية “ثلج” التي نشرها باموق عام 2002، إذ يخلق باموق في جزيرة مينغر الخياليّة كونًا صغيرًا معزولًا عن العناصر الخارجيّة، تمامًا كما في رواية “ثلج” التي دارت أحداثها في مدينة قارص (شرق الأناضول)، فالمكان-تحديدًا- في الروايتيْن ليس مدينته الأثيرة والأليفة إسطنبول، كما رأينا في رواياته المختلفة التي دارت أحداثها في إسطنبول أو في أحياء قريبة منها، وأيضًا في استثمارها للكثير من الأحداث الواقعيّة التي جرت إبّان الزمن المرجعي للرواية، وتضفيرها في بناء خيالي داخل المتن الروائي، علاوة على إثارة الروايتين للتيارات السياسيّة المختلفة، فعقب “ثلج” ثار الإسلاميون والعلمانيون معًا، وعقب “ليالي الطاعون” ثار الكماليون.

وكعادة باموق لا يقدم روايته بعيدة عن السرد المعرفي، إذ تنتشر في الرواية تفاصيل كثيرة عن تاريخ الطاعون، وطرق علاجه، والأدويّة الشعبيّة التي يلجأ إليها العامة للعلاج، وما تضمنته الرواية من معلومات يسردها بتفاصيل مدهشة عن إنتاج ماء الورد وتاريخ القلعة والسموم وتأثيرها والشمع وغيرها.

ومن زاوية أخرى تبدو الرواية مشغولة بطرح مسألة أشدّ تعقيدًا من مطابقة الأحداث التاريخيّة بالأحداث الروائيّة؛ فهي تطرح إشكالية البُعد التمثيلي للتاريخ والأدب بشكل أساسيّ، وهذه المسألة متكرّرة في معظم نتاجات باموق الروائيّة، ومع الأسف هذا الأمر كانت له نتائجه العكسيّة والكارثيّة، حيث تتمُّ ملاحقته من قبل العلمانيّة التركيّة وكذلك التيارات الإسلاميّة.

 وقد تكرر الأمر مجدَّدًا بعد صدور روايته الجديدة؛ إذْ تمت ملاحقة الرواية والروائي باتهامات تتمثّل في السّخرية من الرمز القومي والعلم التركييْن،  فما إنْ صدرت الرِّواية حتى قامت حملة من قبل الكماليين ضدَّ باموق بتهمة ازدراء مؤسِّس الكماليّة، وهو ما اضطر دار النشر إلى أن تصدر بيانًا على صفحتها في مواقع التواصل الاجتماعي تنفي فيه هذه الادعاءات، ومما جاء في البيان “أن الادعاء بوجود عبارات مذلة لأتاتورك لا يعكس الحقيقة، فشخصية كول آغاسي كامل في رواية ‘ليالي الطاعون’ ينظر لها على أنها بطل شعبي ومنقذ من قبل جميع مواطني جزيرة ‘مينغر’ الخياليّة، حيث تدور أحداث الرواية”.

كما أن باموق نفسه صرح قائلا “لا يوجد ازدراء لمؤسسي الدولة القومية الأبطال وأتاتورك، الذين نشأوا من رماد الإمبراطوريات في ‘ليالي الطاعون’، التي كنت أعمل عليها منذ خمس سنوات. على العكس من ذلك، كتبت الرواية باحترام وإعجاب لهؤلاء القادة التحرريين والبطوليين، كما سيرى أولئك الذين قرأوا الكتاب كول آغاسي كامل، هو بطل محبوب من قبل الجمهور وإيجابي في كل شيء”.

الأعداء اللدودون

Thumbnail

أخذت الاتهامات الموجهة لباموق منعطفًا آخر بعدما أقام المحامي تارجان تولوك دعوى قضائية اتهم فيها أورهان باموق بأنه “استخدم بعض التعبيرات المهينة لأتاتورك، وأنه يحثّ الناس على كراهيته، وهو ما يخالف الدستور” الذي تنص إحدى مواده المعروفة على “حماية أتاتورك” (وهو القانون الذي قدم مواده جلال بايار (يوليو 1951) دفاعًا عن قيم الجمهورية ضدّ الرجعيّة).

وبناء على هذا تمّ استدعاء باموق للشهادة التي نفى فيها كل الاتهامات الموجهة له ولروايته. وتمّت تبرئة باموق في أول الأمر من هذه التُّهَم، وفق نص قرار المدعي العام، هكذا “الرواية لا تحتوي أيّ إهانة لأتاتورك، وعلى العكس من ذلك، فإن شخصية كول آغاسي كامل، التي تمّ تشبيهها بأتاتورك، ذُكرت باحترام في الرواية”، لذا فلا ضرورة للمقاضاة، عندئذ اعترض المحامي على عدم الملاحقة، وتم فتح دعوى جديدة.

توالت المقالات المفندّة لادعاءات باموق، على نحو ما فعل الصحافي أحمد هاكان رئيس تحرير جريدة “حريت” الذي كتب مقالاً بعنوان “هل يسخر أورهان باموق من أتاتورك في روايته؟”. وهو المقال الذي جاء إجابة عن السؤال الذي طرحه كعنوان، حيث ذكر الكثير من الروابط التي تجمع شخصية بطل رواية “ليالي الطاعون” بمؤسس الدولة التركيّة.

وقد وصل التشابه إلى حد تضمينه الكثير من الصفات الخاصّة والعادات، فمثلا ذكر أن البطل كان مستاءً من أمه لأنها تزوجت مرة ثانية، وفي الحقيقة مَن يقرأ سيرة باموق يكتشف أن هذه الإحالة تعود إلى طبيعة علاقته بأمه التي كان يعيش معها، بعد انفصالها عن أبيه، العلاقة يحكمها الجفاء والسخرية من طبيعته ككاتب، وهو ما ترجمه عمليًّا في رواية “اسمي أحمر” (1998) إذ أعطى بطلة الرواية اسمها “شكورة”، وجعل لها ولدين الأكبر شوكت (وهذا اسم أخيه الأكبر الذي يعيش في أميركا، وذكر أن علاقته به متوترة)، والأصغر أورهان، فخلال الفترة التي عاش فيها معًا لم تكن تفهمه، بل كانت تسخر من عمله في الأدب وتقول له “إنك تكتب رواية. ضع في عقلك أن الرواية لن توصلك إلى نتيجة”، وحسب قوله “كانت تحبط معنوياته”.

صيد ثمين للأعداء اللدودين
صيد ثمين للأعداء اللدودين

ومن هذه العادات التي وردت في الرواية وتربط بطله بمؤسس الجمهورية صيده الغربان، وإن كان باموق نفى هذا أمام مكتب المدعي العام، وقال “إنه مولع بالغربان، وكان يطاردها عندما كان صغيرًا”، وأضاف “أتعامل مع الغراب في كتبي، حيث عندما كنت صغيرًا لم أكن ضعيفًا، وكانت عائلتي تطلق علي الطرد (كلمة “طرد” بالتركية (kargo) تتشابه حروفها مع كلمة “غراب” (karga))”، ثم نفى إهانته للعلم التركي قائلاً “إن العلم التركي لا علاقة له بشعار الصيدليّة اليونانية”.

ويتحوّل أحمد هاكان إلى قاض يوجه الاتهامات عبر أسئلة مفتوحة لباموق، مستعينًا بالجمهور، كنوع من اكتساب حصانة ودعم معنوي هكذا: الآن دعنا نطرح السؤال الرئيسي: ما هو الهدف من تعامل أورهان باموق مع أتاتورك؟ ماذا يريد أن يفعل؟ هل يريد زيادة الاهتمام بكتابه؟ هل يريد إرسال رسالة إلى الخارج؟ هل يريد الحصول على جائزة نوبل ثانية؟ أو … أو … أو … توقع ردود الفعل التي سيحصل عليها … هل نصب فخاً ليرسل رسالة بأن “هذا بلد غير متسامح” إلى الغرب؟ ما هو هدف ونيّة أورهان باموق؟

لا تختلف مقالة سودة كينار فيما أوردته من اتهامات لأورهان باموق عن تلك التي أوردها أحمد هاكان، وترى أنه “يشوّه سمعة بلاده مرة أخرى للحصول على جائزة نوبل أخرى”، وتتهمه مباشرة بأنه “خائن ذو وجوه، أي عدو للعثمانيين وعدو لتركيا الجديدة، والرواية الجديدة بمثابة شكر من المملوك إلى المالك”، في إشارة إلى أنه عميل الأجانب.

وتتساءل في تعجب: لماذا يتجاهل كاتب تركي حائز على جائزة نوبل الوضع الداخلي لهذا البلد، وينظم مثل هذا الهجوم الأدبي على ذكرى رجل عظيم، مثل مصطفى كمال أتاتورك، الذي كان لديه حل حقيقي للخلاص بأفكاره؟ هل كُتبت هذه الرواية تحت رغبة تجارية (البيست سيلر)؟ ما المشاعر التي انتابت باموق أثناء كتابة الرواية؟ حتى إنها تتساءل في تعجب: “يا ترى هل ذنبي أنني قرأت رواية باموق ‘ليالي الطاعون’ حتى النهاية؟”.

المعيار الأساسي للفن بكافة أنواعه هو البعد الجمالي الذي يتمثّل في قدرة وبراعة التعبير عن أيِّ موضوع كان
المعيار الأساسي للفن بكافة أنواعه هو البعد الجمالي الذي يتمثّل في قدرة وبراعة التعبير عن أيِّ موضوع كان

أما الكاتب ألبر قورموش في جريدة “الحريّة” (serbestiyet) فيستاء من تلك الادعاءات التي يكيلها مَن يصفهم بالأعداء اللدودين لأورهان باموق فيقول “الادعاء بأن أورهان باموق سخر من أتاتورك في روايته الأخيرة ‘ليالي الطاعون’ هو محضّ هراء”، ومن ثمّ يثني على العمل قائلاً “قدّم الروائي بطل روايته بملامح مثيرة للذكريات لشخصية تاريخيّة نحترمها، ثم يعامل نفس البطل في جميع أقسام الرواية على أنه وطني شجاع وناضج وذو شخصية عالية، ورغم هذا تستنتج من هذا أنه استهزأ بتلك الشخصية التاريخيّة!”.

لا يكتفي بهذا، بل يندّد بمن أسماهم أعداء باموق اللدودين، ويبدأ بالكاتبة سودة كينار التي راحت تسخر من باموق نفسه على طريقتها، ويجد في ما كتبتْ مجرد مبالغة لا صحة لها على أرض الواقع، ثمّ يستعرض ما ذكره أحمد هاكان في مقالته، ويتوجه له قائلاً “هذه رواية وليست كتابا في التاريخ” وكأنه يريد أن يلفت نظره إلى ما تمنحه الرواية من رحابة في رسم الشخصية بعيدًا عن التزامات التاريخ وحدود الشخصية التاريخية، أو بمعنى أدق يحيله إلى سؤال الأصول: ما الفن؟

ولا يكتفي بهذا بل يضرب له مثلاً عن بطل ثوري، يناضل من أجل ثورة اشتراكية في بلد خيالي يسمى “بوداميا” ويصف بطله في روايته بأنه “حَلُم في شبابه بالسفر حول العالم بالدراجة، وأدرك ذلك جزئيًا. تخرج من كلية الطب وأصبح طبيبًا. كان لديه أيضًا أسلوب شعري، فقد كتب في شبابه سطور “الموت بغض النظر عن كيف وأين يأتي”، وأصبحت تلك القصيدة شعار النضال الذي قاده في فترة نضجه. الآن لنضعها على طريقة أحمد هاكان، بالنظر إلى كل هذه التعريفات… “آآآآه! هل هناك من لا يقول: إنه يتحدث عن تشي جيفارا”؟ بالطبع لن تفعل ذلك. لذا، ماذا تسمي الشخص الذي يستنتج أنه يسخر من تشي جيفارا؟. هذا بالضبط ما فعله أعداء أورهان باموق اللدودون.

هكذا تضعنا أزمة رواية أورهان باموق الجديدة في دائرة السؤال القديم – الجديد عن حرية الإبداع وحدود التعبير، ومحاكمة الخيال، وما يتطلبه هذا -على المستوى المبدعين والكتاب- من التزام بالمحاذير وعدم تجاوز الحدود، وهو ما يقف عائقًا أمام الكتابة والخيال، وكأننا لم نتحركْ خطوة واحدة، أو نجتزْ محاكمات العصور الوسطى، فمازالت الكلمة هي الرّهاب الحقيقي الذي يخشاه الجميع، لا فرق بين سلطة سياسيّة وسلطات أيديولوجيّة تتذرع بالدين أو بالأنساق المجتمعيّة، أو حتى بالعلمانيّة، فالكلمة هي الكلمة في كل زمان ومكان وسياق، لها سطوتها وقوتها، ولمَ لا، والكلمة هي “حصن الحرية“!

12