أوركسترا النفخيات.. حضور مختلف ضمن المشهد الموسيقي السوري

تحمل الموسيقى للناس الكثير من المتعة الجمالية، ويعمد الموسيقيون دائما إلى ابتكار الجديد الذي يساعد في جذب المزيد من الجمهور. وعلى امتداد تاريخ الموسيقى الطويل لم يتوقف المبدعون عن إنتاج الجديد والمبهر، وفي دمشق تجمع موسيقيون فأوجدوا أوركسترا النفخيات السورية التي تقدم موسيقى معروفة عالميا بشكل جديد. وبمناسبة العام الثالث على وجودها احتفى جمهور دمشق بها بحفل فني في الأوبرا.
بمناسبة مرور ثلاثة أعوام على وجود أوركسترا النفخيات السورية، أقيم في دار الأسد للثقافة والفنون “أوبرا دمشق” وتحت رعاية وحضور الدكتورة لبنانة مشوح وزيرة الثقافة في سوريا حفل فني في الرابع عشر من الشهر الجاري أحيته أوركسترا النفخيات السورية بقيادة المايسترو إيهاب القطيش وبمشاركة العازفة على آلة الكمان رزان قصار.
وقدمت في الحفل مجموعة من المؤلفات الموسيقية العالمية والعربية، حيث حاكى العرض أشكالا موسيقية تقدم في العالم من خلال العديد من التشكيلات التي تتميز إحداها عن الأخرى.
والموسيقى من وجهة نظر كثير من الناس لغة العالم وفن عابر للحدود والثقافات، فيها تلتقي المساحات الإبداعية ويتحقق طموحهم بالتقارب. وتتغير التشكيلات الموسيقية من حيث المضمون والشكل لتقدم للمتلقي الموسيقي غاياته في تذوق البعد الجمالي فيها.
وتأكيدا على موضوع التغير والتفرد، تنتهج أوركسترا النفخيات خطا مختلفا في الظهور ضمن المشهد الموسيقي السوري. والأوركسترا أسهها ويقودها الموسيقي الشاب إيهاب القطيش، وهو موسيقي شاب درس وتخرج في المعهد العالي للموسيقى بدمشق في اختصاص العزف على آلة الترمبون، جمعه هدف تقديم موسيقى عالمية بشكل مختلف مع مجموعة من زملائه الموسيقيين الذين قدموا فعلا موسيقيا مختلفا، فكان توجه الأوركسترا منذ إطلاقها أن تحتفي بالطاقات الفنية السورية من العازفين الذين يتخرجون من المعهد العالي للموسيقى وغيره من المنابر التعليمية الموسيقية في سوريا.
وهذا ما أدى إلى استقطاب مجموعة من أمهر العازفين في سوريا وفق تشكيلة آلات موسيقية تتضمن بصفة أساسية الآلات النفخية وتدعيمها بآلات وترية وإيقاعية مختلفة ومن ثم تقديم برامج موسيقية عالمية وعربية بلغة عصرية مختلفة.
وقدمت الأوركسترا في الحفل مقطوعات موسيقية عالمية، غطت مساحات كبرى من تراث الموسيقى العالمي، فعزفت مؤلفا موسيقيا في قالب الكونشيرتو للهولندي جاكوب دي هان ثم قدمت المقطوعة الشهيرة الرقصة الهنغارية للموسيقار يوهان برامز، وقدمت بمشاركة عازفة الكمان رزان قصار كراداس للإيطالي فيتوريو مونتي تلتها ماريا دي بوينس آيريس للموسيقار الأرجنتيني آستور بيازولا ثم ذهبت نحو الأجواء الإسبانية بأوبرا للإسباني مانويل بينيلا ثم حضرت موسيقى كارمن للفرنسي جورج بيزيه فقدمت له خمس مقطوعات.
وفي انعطاف نحو الموسيقى العربية قدمت جزءا من مسرحية ميس الريم لزياد الرحباني وأغنية غرناطة للمكسيكي أوغستين لارا، ثم اختتمت الحفل بمارش راديتسكي ليوهان شتراوس الأب، وقام بتوزيع هذه الأعمال أحمد علي.
مشاركة خاصة
العرض حاكى أشكالا موسيقية تقدم في العالم من خلال العديد من التشكيلات التي تتميز إحداها عن الأخرى
ألّف الموسيقي الإيطالي الشهير فيتوريو مونتي مقطوعته الشهيرة كراداس عام 1904 مستوحيا إياها من الأجواء الغجرية التي توجد في هنغاريا وأوروبا الوسطى والشرقية. وهي مبنية على رقصة هنغارية شعبية قديمة تسمى “كور”.
وتعتبر هذه المقطوعة الموسيقية مادة أساسية في كل البرامج التي تحتفي بالموسيقى الغجرية وقدمت آلاف المرات على مسارح العالم. وقدمت رزان قصار المعزوفة بالتناغم مع الأوركسترا بكثير من الهدوء والثقة، الأمر الذي استقبله الجمهور بحرارة.
ومن أعمال الموسيقي المتمرد أستور بيازولا الذي كان يقول إن التانغو خلق ليسمع بالأذن وليس بالقدم، قدمت الأوركسترا بمشاركة قصار تانغو ماريا دي بيونس آيرس.
وبيازولا وضع في مؤلفه الذي ظهر لأول مرة عام 1991 أي قبل عام واحد من رحيله، كل طاقته في التحدي وتقديم شكل جديد للتانغو. وكانت فرصة أن يستمع الجمهور السوري لهذه المعزوفة في دمشق وهو الذي اعتاد على سماع التانغو مرافقا للرقص.
وقدمت معزوفة “مارش راديتسكي” للموسيقار الشهير يوهان شتراوس الأب آلاف المرات في كل مسارح العالم، وهو بما يحمله من خصوصية تاريخية وموسيقية توفرت فيه من خلال الحيوية التي يتميز بها، جعلت كثيرا من قادة الفرق يقومون على إشراك الجمهور في العزف مع الفرقة بالتصفيق.
وهذا ما فعله إيهاب القطيش حيث قاد الأوركسترا وهو يطلب من الجمهور المشاركة في التصفيق الموقع مع العزف الموسيقي تحت قيادته، مما أشاع جوا من الحماس والبهجة لدى الحاضرين. وكان خير ختام لهذا الحوار الموسيقي الفعال.
مؤسس وطموح
يرى إيهاب القطيش مؤسس وقائد الأوركسترا أنها الوحيدة الموجودة على النطاق العربي، فالشكل معروف في دول عالمية كاليابان وكوريا لكنها في المنطقة العربية والشرق الأوسط غير موجودة.
ويوضح لـ”العرب” أن الأوركسترا النفخية السورية “لا تقدم صيغة فرقة ‘الفيل هارموني’ الكبيرة التي تقوم على وجود ما يزيد عن السبعين عازفا ويمكن أن تكون ملحقة بالكورال. لكن تشكيلنا هو في نطاق الأوركسترا، يقوم على تأكيد وجود الآلات النفخية الخشبية والنحاسية، وعلى التوازي معه آلات وترية وإيقاعية لكي تكون الأمور أكثر جمالية ونكسر حالة المونوتون أو الفردية التي يمكن أن تظهر بسبب ذلك. وتقدم الأوركسترا بظهورها المعتاد بحوالي الأربعين عازفا موسيقى عالمية مختلفة بشكل جديد يقارب مساحات تذوق جديدة”.
وعن آفاق التجربة الموسيقية التي ستكون للأوركسترا خلال الفترة القادمة يقول القطيش “بتكاتف جهود كل الزملاء الذين تعبوا في إثبات وجود الأوركسترا خلال السنوات الماضية كان بالإمكان إنجاح التجربة، وهم قدموا جهودا كبيرة وعظيمة في هذا الأمر، لذلك قلت في الحفل إن هؤلاء رفاق وليسوا أعضاء في الفرقة. فهم رفاق تقاسمنا سويا التعب والجهد والكد حتى حققنا ما حققناه إليه من نجاحات. والأمل معقود عليهم لكي نتابع تقديم مزيد من الجهد لكي نحقق أفكارا وخطوات جديدة للوصول إلى حالة فنية ترضي طموحاتنا جميعا”.
ويرى القطيش “أن من مهمة الأوركسترا تقديم موسيقى قريبة من الناس ومن تفاصيل حياتهم، ربما سمعوها خلال العشرات من السنين لكنها تقدم مجددا وفق منهجية وتوزيع مختلف يوفر تقديم شكل علمي سليم ويحقق مستوى عاليا من الجماليات. فوجود آلة الكمان في دور منفرد هو شكل يضفي على الحفل مزيدا من الجمال. خاصة لو نظرنا إلى الأمر باعتبار أن كل الآلات تقدم أدوارا منفردة في الظهور الموسيقي، وهذا ما يكسب الحفل مزيدا من النجاح”.