أوتو ديكس فنان يوقظ كوابيس الحرب ليعالجها بالخيال

لم تتوقف الحرب أبدا، تهدأ هنا لتندلع هناك، وفي كل حقبة من تاريخ البشر حرب جديدة تنافس سابقاتها في البشاعة والدمار. انعكاسات الحرب على الفن كبيرة وعميقة للغاية، إنها جرح إنساني، وما الفن إلا معالجة لذلك الجرح أو على الأقل محاولة حماية البشر من جراح أخرى. من التجارب الفنية التي قاربت الحرب بوعي تجربة الفنان الألماني فيلهالم هاينريش أوتو ديكس.
لا يمكن للحروب والصدامات والصراعات الدموية والوحشية أن تمرّ دون أن تترك أثرها البالغ في عمق الروح والوعي والإدراك والحواس، لذلك ما حدث في الشرق مؤخّرا من عدوان على غزة ومن قصف للبنان ومن أحداث عاصفة همجية، امتدّت بين الذاكرة والوجدان أمام صمت دولي ومواقف متضاربة، انتقلت تفاصيله الحسية والذهنية والنفسية أبعد وأعمق لدى الإنسان المعاصر الذي أصبح يراها عن قرب حسي من خلال شاشة هاتفه بتفاصيلها.
منذ الحرب العالمية الأولى كانت درجة التلقي بين الإنسان المتابع والفنان أو الكاتب والمثقف بالعموم، مهما كانت مستويات تعبيره الحينية أو الما بعد تعبيرية في تفاصيله، ذات وقع ثابت حسيا ونفسيا وثقافيا وفكريا، بدت في روايات أثرها بالغ في الوصف والسرد واعتبرت وثيقة تاريخ رصدت تلك التأثيرات مثل الروايات التي قدّمها إيريش ماريا ريمارك، كانت رواية “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” الأكثر وصفا، مع ثلاثية بات باركر “تجدّد”، دون التغافل عن رواية “ستالينغراد” لفاسيلي غروسمان، عن أهوال الحرب العالمية الثانية وغيره من الكتاب الذين حملوا المسار المكثّف في الوصف والتحليل فكريا واجتماعيا واقتصاديا ونفسيا.
الأمر ذاته دفع التشكيليين إلى توقيع الحدث بالرؤى وتفكيك الإنسانية بالمطلب الباحث عن السلام بين ثنايا السواد، وهو المنفذ الحقيقي الذي أثّر في الإنسانية منذ الحرب العالمية الأولى حتى نهايات الحرب الثانية، ليحمل المستوى البصري في التشكيل فلسفة شاهدة على التحوّلات المهمة في تاريخ الفنون التشكيلية والبصرية، ما أفرز مواقف مختلفة وكثّف امتلاءات الفراغ المعنوي والصمت والخدوش بالمدارس الجديدة مثل التعبيرية والواقعية والموضوعية والواقعية السحرية وأفرز مواقف ولوحات ومنحوتات.
الخيال ومعايشة الحرب
لم تؤد الحرب إلى تمزيق الدول والعائلات فحسب، بل أيضا كان تأثيرها عميقا على الفنانين، الذين عانى العديد منهم من أهوال الجبهة بالقتال مثل جورج براك، فرناند ليجيه، جان كوكتو، بول كلي، إيغون شيلي وأوسكار كوكوشكا، عاشوا الحرب عن قرب شديد، أدى إلى جروح وإصابات وموت مثل الفنان التعبيري الألماني أوغست ماك الذي اختفى في السادس والعشرين من سبتمبر 1914 عن عمر يناهز 27 عاما.
وتبقى تجربة الألماني أوتو ديكس الأكثر براعة تصويرية والأكثر تأثيرا من حيث التفاصيل النفسية الدقيقة لفترة الحرب وما بعدها من مخلفات، لأنه تناولها بأسلوب جمع السوداوية والتكثيف بالسخرية والانقلاب، درس العلامات الحسية والنفسية بشكل اقترب من التشويه في ماورائيات الصورة التي بدورها كانت ماورائيات نفسيّة أثّرت على الفرد والمجموعة.
رسم أوتو ديكس ليتوهّج، رسم ليتعافى من صدماته، رسم ليلعق الجرح الدامي في تفاصيله الحسيّة، بدقّة تفجّرت في تلك اللوحات التعبيرية التي ارتحلت به نحو موضوعية تبنتها المدرسة الأميركية وسارت بها أبعد في إبداع المفهوم المناهض للحرب رغم بشاعة الصورة إلا أن مفهومه كان القاطع مع أهوالها.
بالفن كان الباحث عن التعافي من كوابيس الحرب إنه الألماني فيلهالم هاينريش أوتو ديكس (1891 – 1969) هذا ما يغمر المتلقي الذي تقع بين عينيه لوحاته ويقع في ثناياها المظلمة في سوداوية الوحشية البصرية التي توحي بها الوجوه المشوّهة أو الملامح المحروقة، تلك التي حفرت في ذاكرته فحفرها بصمت، بحيرة، بقلق، بتأمل، ليثبت أن الحرب ليست إلا صدمات وخدوشا لمحبي الحياة.
إذ لم يتعامل أيّ فنان تشكيلي مع الحرب وبشاعتها بشكل متداخل بين الموقف والإنسانية بين التماهي والمعايشة وبين النفسية والمقاومة الفنية أكثر منه، ربما لأنه نجا منها جسدا ولم ينج منها معنويا حسيا، حُفرت أهوالها في روحه فقرّر أن يستعيدها من تكاثفاته العالقة وصدماته التي اندلعت في روحه فكانت لوحاته وثيقة بصرية سجّلها التاريخ بفنية جادلت الصدام بالصدمة والحزن باللون والمأساة بالتعبيرية وجمالياتها الصارخة بوجع الإنسانية.
أعمال أوتو ديكس لا تعكس البشاعة التي أثارتها الحرب فقط بل أثارت أيضا شغب التمرد على إمبراطوريات الفن بالفن
“الحرب عودة قذرة إلى الحالة الحيوانية، ذاك الصخب الجهنمي.. تلك الصدمة.” هكذا يرى الفنان.
دمج أوتو ديكس تصويره الواقعي المروّع ورؤاه الرمزية وتفاصيله الواقعية السحرية التي احتمى بها في خياله الصارخ من صور الجرحى والقتلى في خنادق الحرب التي خزّنتها الذاكرة التصويرية الجماعية بمنحاها الفني والإنساني، إذ تعد الثلاثية الضخمة “الحرب” (1929 – 1932) في Galerie NeueMeister أحد الأعمال الرئيسية للرسم الواقعي في القرن العشرين، كما الألواح الأربع التي رصدت “كارثة القرن العشرين”، و”الصباح الرمادي”.
لم يوثّق ديكس الحرب كمجرد حالة عايشها بل أثار بفنه مخلفات ما بعد الصدمة؛ كيف يعيش الإنسان صدماته ويعاود حياته، وهو يحمل ذلك الكم الهائل من البشاعة والألم سماها اضطرابات ما بعد الحرب.
“الحرب… كل هذا من عمل الشيطان، يعتقد الجميع أنهم يعرفون ما ينبغي أن يكون عليه الفن. لكن قلة قليلة منهم لديهم الحس اللازم لتجربة الرسم، أي حاسة البصر التي ترى الألوان والأشكال كواقع حي في الصورة رغم صدمة كل ما يمكن أن يُرى.”
الفن نبذ للحروب
في عام 1914، انضم أوتو ديكس، وهو طالب في مدرسة دوسلدورف للفنون والحرف اليدوية، إلى القوات الألمانية على الجبهة الغربية في بيكاردي، ومثله كمثل كل من نجوا من الصراع، بقي الإنسان الفنان فيه مسكونا برؤية الفوضى؛ التناقض، الصدام مع المشاعر والتصادم مع النتائج والواقع، فشعر بالحاجة إلى تنفيذ دور الإنسان فيه بالفنان.
ناهض الحرب، نبذ العنف وتقيأ الوحشية من الذاكرة الدموية، فقأ عيني المستحيل بالممكن “الفن الرسم”، احتمى بكل ذلك من نفسه أولا ومن المشاهد الكابوسية التي لاحقته، اختار أن يكون شاهدا على تجربته القتالية ويستخرج أثرها من عمق روحه وحواسه إلى القماش واللوحة إلى الإنسان.
في عام 1924، أنتج سلسلة من خمسين نقشا، بعنوان “الحرب” (Der Krieg).
باستخدام تقنية الضوء والظل الاستثنائية، تشكل هذه المشاهد الهلوسة للمعارك والخنادق والجثث المخلوعة والمتروكة على أرض مبتورة، سجلا بصريا يخنق تطرفه ويبهر الفوضى نفسها، يصدمها معا؛ فوضى الخيال وفوضى الواقع وفوضى الكابوس، مزيج يوقّع بها آثار بيان أوتو ديكس السلمي لإعلان الأمان، المستوحى من لوحة “كوارث الحرب” للفنان فرانسيسكو دي غويا، وهو ما أثار جدلا واسع النطاق بين تطرّفها وسلامها.
في مواجهة بطولية القتال التي نادى بها القوميون الألمان وقتها، عارض أوتو ديكس الواقع المهمّش والمروّع والموت المفترس والعبثية المأساوية، وهو ما عرّضه للنبذ وتحويل فنّه إلى المنع بوضعه في خانة “الفن المنحط” الذي نظّم عليه النازيون في عام 1937 حملة منع، أدّت إلى تدمير جزء من أعماله.
صفع الجمال بالإنسانية
كان أوتو ديكس شخصية محورية في الحركة الفنية في نيويورك، الموضوعية التي سعت إلى إلقاء نظرة واقعية لاذعة في الكثير من الأحيان على مجتمع ما بين الحربين العالميتين في قبضة القلق العميق والتشاؤم: التعامل مع أكثر جوانب الحياة الحضرية شيوعا ولكن أيضا أكثرها خشونة في تقليد تصويري كلاسيكي يتضمن الابتكارات الشكلية الرائدة والحديثة.
إن التاريخ الفني المبني على المواقف سجّل لألمانيا منذ الحرب العالمية الأولى عصرا من الإبداع الفني لا مثيل له في أوروبا.
لقد اتسمت هذه الفترة من الاحتفالات المبهجة والجامحة، أي فترة العشرينات الصاخبة، بالعنف والفقر أيضا، والانحطاط الذي أحدثته الحالة السياسية والاقتصادية الكارثية التي كان أوتو ديكس شاهدا عليها، وعبّر عنها في لوحاته، وأثّرت فيه مثلها مثل الحرب لأنها كانت نتاجا ونتيجة وثنائية ملازمة للحرب، للهزيمة وما خلّفته من تدمير معنوي ونفسي حيث كانت أعماله تصور رعب القتال، والوجوه المكسورة للجنود السابقين التي شاهدها في الطرقات حيث كان مصير الجنود التسول والبؤس الأخلاقي، كانوا ضحايا النظام الاجتماعي المضطرب هم وعائلاتهم، وهذا ما جسّده بكل العنف الفني في الثلاثية الشهيرة “الحرب” 1924 واعتبر توثيقا واضحا لذلك وكذلك بالنسبة إلى صوره المذهلة لأشخاص مجهولين هم الجنود المهزومون في الطرقات حاملي إصاباتهم المزمنة بلا سند اجتماعي والواقعين في خطوط الفقر والحاجة واللا مأوى.
إن أعمال أوتو ديكس لا تعكس تلك البشاعة التي أثارتها الحرب في النفوس والعقول والذاكرة والعواطف بل أثارت شغب التمرّد على إمبراطوريات الفن بالفن كغاية ووسيلة حسيّة وذهنية، أعادت للفن أدواره وغايته التي تجاوزت فكرة الجمال نحو التعبير، لم تترك مساحة الوهم واليأس تقبع جاثمة أو تنسج خيوطها على محو تمويهي للذاكرة، بل فجّرها بكل يقظة ووعي ولا وعي دون الاستماع إلى وساوس الظلام تلك التي بدت في خنادق الحرب، فقد أيقظ الكوابيس النائمة في جسده، في عقله، في فنّه حتى يعيد عربدات الحرب إلى تفاصيل الرؤية ويعالجها بالحفر والتعرية، بالتآكل، بالبرود، بالبشاعة حتى تكون الحرب وحيا ماثلا يقدّم رسائل الحياة التي تليق بالإنسان أكثر.