أوبرا نوبية تحفظ لهجة مصرية قديمة من الاندثار

الصوت الأوبرالي جزء من نسيج هرموني متكامل يحتاج إلى جمهور متذوّق يحب اللغة والموسيقى معا.
الثلاثاء 2020/11/17
"طرح البحر".. أوبرا عمانية عن تأثير الطبيعة على البشر

يعكف المخرج المسرحي المصري عبدالله سعد على إعداد أول “أوبرا نوبية” لحفظ لغة وتراث أهل النوبة في جنوب مصر من الانقراض، بعد تقديمه “طرح البحر” أول عرض غنائي أوبرالي بتلحين وتوزيع عربي خالص عن التراث العُماني، وباللهجة المصرية.

القاهرة- تبنى أستاذ الإخراج المسرحي بأكاديمية الفنون في القاهرة، عبدالله سعد، اتجاها ينقل الغناء الأوبرالي من كونه فنا غربي المحتوى إلى أداء صوتي راق يجسّد التراثين العربي والأفريقي، على جانبي المحتوى والموسيقى.

ويضع سعد حاليا لمساته الأخيرة على أول “أوبرا نوبية” بالتعاون مع الأديب حجاج آدول، ليصبح العمل الأول من نوعه، الذي يتم غناؤه باللغتين العربية والنوبية معا.

وقال عبدالله سعد في حوار مع “العرب”، إن النوبية لغة مظلومة فنيا وثقافيا، رغم أهميتها التي لا تقل تاريخيا عن الهيروغليفية، لغة قدماء المصريين، وتواجه شبح الاندثار بتواترها الشفهي، واتجاه أبنائها إلى هجرها، والتحدث باللهجة العامية.

ويعتبر سعد، من أبرز المتخصّصين العرب في إخراج الأوبرا، وقد أسهم في كسر الاحتكار الغربي لتلك المهنة، التي يشغلها الأجانب في غالبية المسارح العربية، ويملك سجلا حافلا في مجاله بعد إخراجه 25 عرضا في أوروبا، غالبيتها في إيطاليا التي درس فيها وحصل منها على درجة الدكتوراه.

طرح البحر

الفن النوبي

يتطلب ابتكار أوبرا نوبية جهودا مضنية فأبناء النوبة لا يملكون مسرحا يمكن الاتكاء على تجاربه، ولغتهم مكونة من 24 حرفا، منها أربعة صوتية خاصة، و17 حرفا ساكنا وخمسة متحركة، وحرفان نصف متحركين، وهي تعقيدة كبيرة لنقلها إلى الغناء الأوبرالي ذي الإمدادات الصوتية العريضة.

وفاجأ سعد، الذي شارك كممثل في نحو 25 عملا فنيا، بين المسرح والسينما والدراما وأسّس قسم الإخراج بدار الأوبرا المصرية، الجمهور أخيرا بأول أوبرا يتم تلحينها وتوزيعها كليا بإبداع عربي خالص تحت عنوان “طرح البحر”، وقدّمها على مسرح الأوبرا السلطانية في العاصمة العُمانية مسقط.

وأوضح أن “طرح البحر” من أهم العروض التي قدّمها، لأنها خاطبت المواطن العُماني باللهجة المصرية، ولامست حسّه الفني وعبّرت عن تراثه بقصص عن مجتمع الصيادين القدامى، وكان يتوقّع تكرار عرضها أكثر من مرة، لكن جاءت جائحة كورونا لتحول دون تحقيق تلك الغاية.

وتتناول “طرح البحر” تأثيرات الطبيعة على البشر بحكايات عن مغامرات صياد أسماك شاب، في حوار كتبه شاعر العامية أحمد حداد، لتتضمن عناصر إمتاع متعددة ما بين سرد القصة والأغاني والأشعار ورقصات الباليه، مع تنويعات مميزة لمنير الوسيمي، النقيب الأسبق للموسيقيين المصريين، في الأغنيات الفردية والمقطوعات الكورالية.

وأكّد سعد، أن العرض مختلف عن غيره من الفنون، فهو عمل درامي غنائي يشمل التأليف والموسيقى والتمثيل ورقص الباليه والديكور والأزياء والإضاءة، والقصة والشعر، واحتاج إلى مؤدّين بصفات بدنية وفنية خاصة، يتمتعون بسلامة الجهاز التنفسي والقوة العضلية، وقوة الصوت الذي يجب أن يعلو الآلات الموسيقية المصاحبة مهما كانت مرتفعة.

وأضاف المخرج المصري، أن الصوت الأوبرالي جزء من نسيج هرموني متكامل ويحتاج إلى جمهور متذوّق يحب اللغة والموسيقى معا، والاقتصار على الصوت العالي فقط يعود إلى اختلاف الثقافة الغربية عن المحلية، وعدم مراعاة بعض مقدّميه الفوارق بين اللغات في التقديم؛ فالعربية لا تتحمل المساحات العريضة لرفع الصوت، حتى لا تتحوّل إلى صراخ غير مفهوم.

ونشأت الأوبرا في بدايتها كفن ارستقراطي مرتبط بقصور الأثرياء بإيطاليا، في نهاية القرن 19، قبل أن يحاول روادها ربطها بالقصص الحياتية لجذب الطبقة المتوسطة إليها، ودخل هذا الفن إلى المنطقة العربية عام 1869 مع إنشاء دار الأوبرا بمصر احتفاء بافتتاح قناة السويس، لكنها قدّمت عرضا بلغة ومغنين أجانب.

وقدّم المخرج المسرحي الأوبرالي، في البداية بعض الأعمال العالمية المعروفة مثل “هاملت” و”الملك لير”، لأنها تجمع بين المسرحية والأوبريت، رغم أن قصتها معروفة للجمهور، باعتبار أن تقديمها في شكل أوبرا يجعلها مختلفة عن النص الأصلي، من زاوية تكثيف الأحداث، وتحويلها من السرد إلى غناء صرف.

وأشار سعد في حواره إلى أن الجمهور العربي في طريقه لتذوّق الأوبرا كفن، حتى لو كان الأمر متأخرا مع إنشاء غالبية البلدان العربية دورا لتقديمها على مستوى تقني متطور، والسنوات المقبلة سوف تشهد بالتأكيد تكوين فرق أوبرا محلية لها، بديلة عن الأجنبية التي تعمل حاليا.

مجهودات مهمّشة

الفن النوبي.. عالم جمالي لا مثيل له
الفن النوبي.. عالم جمالي لا مثيل له

عانى جيل الرواد في الأوبرا عربيا من تسطيح مجهوداتهم أو تقديمها في صورة كوميدية، مثل اللبناني محمد البكار، قبل أن ييأس من توصيل فنه ويهاجر إلى الولايات المتحدة حتى وفاته، والمصري حسن كامي الذي شارك في قرابة 660 عرضا للأوبرا حول العالم، قبل أن يتحوّل إلى فنان سينمائي ودرامي.

ولفت سعد إلى أن الجيل الثاني من فناني الأوبرا بمصر حاليا، يرتقي إلى درجة العالمية ويقدّم أوبرا محلية خالصة، وهو ما كان يفتقده الجيل الأول.

وتوقّع أن يتزايد الاهتمام بالأوبرا مع بناء دار جديدة لها في العاصمة الإدارية الجديدة بشرق القاهرة، وزيادة عدد الفرق في مصر إلى خمس للموسيقى العربية، واثنتان للأوركسترا وكورال وباليه ورقص حديث، وجميعها متميزة ترتقي إلى العالمية.

وشدّد على ضرورة الاهتمام الرسمي بفن الأوبرا لرفع الذائقة الفنية للجمهور ودعم الفنون بتضمينها في مناهج التعليم وعودة الموسيقى إلى الأنشطة المدرسية التي لا تقل أهمية عن المادة العلمية، مع تدريس اللغات القديمة التي يمكن عبرها إنتاج أشكال فنية تتماشي مع التراث العربي العريق وحفظه في قوالب فنية شيّقة.

ربما ترتبط مطالبة سعد بالاهتمام الرسمي بتجربة سابقة تعطلت بسبب الظروف السياسية، فبعدما وضع أوبرا خاصة للأطفال بتشجيع من زوجة الرئيس الأسبق حسني مبارك (سوزان مبارك) بعنوان “بونوكيو”، الشخصية الخيالية المُستمدة من رواية كتبها الروائي الإيطالي كارلو كولودي، عن طفل يكبر أنفه كلما تحدّث بالكذب.

وحاول إعادة المشروع إلى لنور مع “راديو الفاتيكان” عبر الاستعانة بعدد من سفراء النوايا الحسنة والفنانين المشاهير، مثل عادل إمام وصفية العمري ودريد لحام، الذين قبلوا المشاركة دون أجر، ولم ييأس من إمكانية ظهوره مع تزايد الاهتمام بدور الفن في تشكيل وجدان الأجيال الجديدة ومواجهة العنف.

النوبية لغة مظلومة فنيا وثقافيا، وتواجه شبح الاندثار بتواترها الشفهي واتجاه أبنائها إلى هجرها والتحدّث باللهجة العامية

ذكر سعد أن المجتمع المصري كان مثقفا ومشحونا بالإبداع قبل عام 1952، فالعائلات المتوسطة اهتمت بالفنون، وآلة البيانو قطعة أثاث أساسية في المنازل، والأغاني تصدح في كل مكان، والمقاهي حافلة بترديد أعمال سيد درويش، والشوارع مليئة ببائعين حوّلوا النداء على بضائعهم إلى مقطوعات شعرية غنائية.

واستدلّ المخرج المسرحي على ذلك بنشأته في أسرة بسيطة، مكونة من والد يغزل الثياب لأبنائه، ووالدة تخصّصت في صناعة المشغولات القماشية المطرّزة يدويا “الكانفا”، ولم يمنعهما ذلك من إلحاقه بالمدرسة الإنجيلية، ولم يعترضا على تعلمه لمادة التربية المسيحية إلى جانب الدين الإسلامي، وإتقانه الموسيقى والتمثيل، ثم التحوّل إلى بطل رياضي في مجال ألعاب القوى.

وقال عبدالله سعد، لـ”العرب”، إنه مشغول بجعل “الأوبرا” فنا يخدم المجتمع، في ظل تراجع الحالة الإبداعية وتدني الذوق العام للجماهير، وجنوح الكثير من الفنانين إلى التربّح المالي وليس الارتقاء بالمضمون، وغياب الأعمال الهادفة التي تساهم في التطوير السلوكي للأفراد.

ولا يلتفت المخرج المسرحي إلى محاولات سابقة لم يكتب لها النجاح لتحويل الأوبرا إلى فن شعبي وجذب مختلف الطبقات الجماهيرية إليه أو رفض أجيال أخرى المحاولة بحجة أن الجمهور يجب أن يرتقي بالفن وليس العكس، فالقضية عنده مرتبطة بالجماهير، ونشر الثقافة الفنية بزيادة عدد الأعمال المقدّمة.

ويستند سعد، الذي اختارته الأمم المتحدة سفيرا للنوايا الحسنة منذ أربعة أعوام، إلى مساهمته في وضع بعض المناهج الدراسية الأكاديمية في دول أفريقية، بينها برنامج تطوير الفنون في جيبوتي، فالفقر والظروف الصعبة لم يمنعا الشعوب على مدار تاريخها من الإبداع والتذوّق.

وما يخشاه المخرج المسرحي هو التطوّر التكنولوجي المتسارع الذي خدم المسرح في مجال عرض الوسائط المتعددة والشاشات التفاعلية وتقنيات الصوت والإضاءة، لكنه أخذ كثيرا من الإبداع الشخصي ومهارة الفنان وإحساسه، ما زاد في الاعتماد عليها قصد الإعداد الموسيقي للأغنيات الحديثة، بإيقاع واحد دون تلحين بالمعنى الحقيقي.

الفن النوبي

 

16