أوبرا دمشق تحتفي بفن فريد الأطرش وأسمهان

للعام الثالث على التوالي يقدم في دمشق مشروع “رحلة مع الأنغام” وسط متابعة جماهيرية تتزايد عاما بعد آخر. وفي ظهوره الثالث يحضر بعض من أعمال الموسيقار فريد الأطرش والمطربة أسمهان، في شكل موسيقي حمل التجديد والحيوية، مواكبا العصر السريع وتغير أذواق الشباب الناشئين.
“رحلة مع الأنغام” مشروع موسيقي غنائي للمايسترو مؤيد الخالدي انطلق منذ عام 2021 يقدم من خلاله موسيقى كبار المؤلفين العرب الذين أثروا الحياة الموسيقية والغنائية العربية بمجدها خلال النصف الأول من القرن العشرين وما تلاه.
النسخة الثالثة من هذا المشروع الموسيقي عرضت في الأول من شهر أغسطس الجاري في دار الأسد للثقافة والفنون “أوبرا دمشق”. وقدمت تحت عنوان “فريد وأسمهان أمراء الفن”. ومن اللافت أن المشروع صار جزءا متميزا من المشهد الغنائي الموسيقي السوري الراقي الذي يحرص الجمهور المتذوق للموسيقى الأصيلة على متابعته، ودليل ذلك الجمهور الكبير الذي ملأ مسرح الأوبرا عن آخره لحضوره.
احتوى الحفل العديد من الأعمال التي قدمها فريد الأطرش وأسمهان، فكانت البداية مع موسيقى “نجوم الليل” وهي جزء من أغنية كتب زجلها مأمون الشناوي ولحنها وغناها الموسيقار فريد الأطرش وظهرت عام 1953 في فيلم “لحن حبي”، وهي من الأعمال الأوركسترالية الضخمة التي دأب فريد الأطرش على تقديم العديد منها وكانت تحمل اسم الأغنية ذاتها. فهناك أغنية “نجوم الليل” وكذلك موسيقى “أول همسة” و”الربيع” وغيرها.
في المؤلف الموسيقي “نجوم الليل” يقدم الموسيقار فريد الأطرش إبداعا موسيقيا لافتا ينتقل فيه بين عدة مقامات موسيقية وإيقاعات مختلفة ضمن توزيع موسيقي عالمي، قدمته الفرقة الأوركسترالية في الحفل بقيادة المايسترو مؤيد الخالدي وتوزيع جورج موسى.
وكانت خير تمهيد أوجد حالة جليلة من المتابعة لدى الحاضرين. ثم قدمت أغنية شعبية من لبنان غناها إيليا بيضا وألفها ولحنها يحيى لبابيدي في ثلاثينات القرن العشرين وغناها فريد الأطرش في بداياته الفنية في مصر وبها اجتاز فحص القبول في الإذاعة المصرية واعتمد فيها مغنيا.
حظيت الأغنية بمتابعة كبيرة وهي أغنية “يا ريتني طير لطير حواليك”. أدى الأغنية ببساطة وسلاسة ريان جريرة الذي قدم بعدها أغاني “مش كفاية” التي قدمها فريد الأطرش بنفسه و”على الله تعود” التي لحنها فريد الأطرش للمطرب الكبير وديع الصافي وأخيرا “يا وحشني رد عليا” بصوت فريد الأطرش. كما قدمت المغنية الشابة ديانا سعيد وهي طالبة في المعهد العالي للموسيقى أغنيتي “امتى حتعرف” زجل مأمون الشناوي وألحان محمد القصبجي و”يا بدع الورد” زجل محمد حلمي الحكيم وألحان فريد الأطرش.
أما المغنية سيلفانا دياب الطالبة في ذات المعهد فقدمت أغنيتي “ليالي الأنس في فيننا” الفالس الشهير الذي ألفه أحمد رامي ولحنه فريد الأطرش وقدمته بمقدرة نادرة السيدة أسمهان. وبعدها “يلي هواك شاغل بالي” للثنائي الكبير رامي والأطرش. وكان الختام مع الأغنية الشهيرة “تأمر عالراس وعالعين” زجل ميشال طعمة وألحان وغناء فريد الأطرش التي غناها المغنون الثلاثة مع الجمهور.
المايسترو مؤيد الخالدي درس الموسيقى في الاتحاد السوفييتي في ثمانينات القرن العشرين واختص فيه بقيادة الأوركسترا والتأليف وهو مقيم منذ سنوات في كندا ويرأس هناك أوركسترا أندلسية.
مسيرة ومشروع
يقدم مشروعه الموسيقي المتميز رحلة مع الأنغام ليكون إضافة نوعية لمسيرته الفنية وكذلك في المشهد الفني السوري عموما. وهو يحاول من خلال ظهوراته الموسيقية إعادة طرح الموسيقى العربية الأصيلة التي سكنت في وجدان المواطن العربي من خلال توزيعها أوركستراليا بما يتوافق مع الشكل الأكاديمي العالي وروح العصر الحيوية والمتدفقة والحافلة بالجديد. وفي مشروعه الحالي عن فريد وأسمهان ما يؤكد هذا التوجه.
يقول في ذلك لصحيفة “العرب”، “موسيقى فريد الأطرش تمتلك روحا أصيلة، وفيها رؤية متجددة مليئة بالتطور، لجهة الطروحات والتوزيع الموسيقي الجديد وهي تجديدات جعلتها في مصاف الموسيقى العالمية التي تعزف في العديد من دور الأوبرا العالمية، إضافة إلى كونها حاضرة في وجداننا الموسيقي حتى الآن، هي موسيقى دائمة التجدد من تلقاء نفسها. لأنها موسيقى أصلية نابعة من فنان أصيل ورؤية فنية ثاقبة نابعة من فنان كبير وموهوب. ألحان فريد الأطرش مدرسة في التلحين، وأي شخص حتى غير الملم بالموسيقى سيتعرف إلى موسيقاه بمجرد الاستماع إليها. والسيدة أسمهان صوت لا يتكرر في تاريخ الغناء العربي وهو نادر الصفاء والجمالية، سواء في الأداء الأوبرالي أو في طبقات الصوت العالية. وكان ذكاء الموسيقار فريد في أنه وضع لها ألحانا خلدت هذا الصوت البديع”.
ويتابع الخالدي عن تعامل الموسيقيين مع صوت أسمهان “خامة ومقدرة صوت أسمهان جذبا إليها بقية الملحنين لكي يقدموا لها ألحانا حققت الكثير من الحضور لدى الجمهور وكذلك التجديد.
غنت الشعبي والأوبرالي والفالس مثل ‘ليالي الأنس في فيننا’. كل هذه التجديدات تناولتها في فقرات الحفل، والتي نفذت بشكل أوركسترالي عالمي كما في ‘نجوم الليل’ التي وضعها فريد الأطرش في شكل موسيقى عالمية فيها بصمته الخاصة بمزجها بالموسيقى الشرقية الأصيلة”.
وعن كيفية اختياره لفقرات الحفل ووضع ترتيبها يتابع “وضعت المختارات ورتبتها بشكل محدد، فكرت فيه بعمق، حاولت تقديم كل الأنواع الموسيقية التي قدمها فريد الأطرش خلال مسيرته الفنية. ومسار الحفل كان تصاعديا، لم أقدم شيئا يخالف هذا المنطق، الخيار كان صعبا في أن تحدد عشرات الجواهر من المئات التي وضعها الموسيقار فريد الأطرش وأن تقدمها في حفل واحد، تعبت في هذه المهمة، لكنني من خلال إيجاد توليفة بين ما قدمه للمطربة أسمهان أو ما قدمه لغيرها من الفنانين العرب استطعت تقديم الفكرة التي أريد”.
وعن الحيوية التي ظهر فيها برنامج الحفل وتفاعل الجمهور مع ما قدم وصولا إلى النهاية التي غنى فيها الجمهور مع الفرقة والمغنين، يتابع “رتب البرنامج بأسلوب المزاج الحيوي المتدفق الذي يناسب الوقت الراهن. حياة فريد الأطرش الخاصة مليئة بالكآبة والحزن، ولم أشأ أن أقدم هذه الأجواء في الحفل الموسيقي لكي لا تؤثر على المزاج العام. في جانب آخر للموسيقار فريد الأطرش ألحان مبهجة، اخترت أن أقدم هذا الجانب للجمهور للخروج من المزاج العام المتشح بالحزن، وركزت في الخيارات والترتيب على تحقيق هذا الأمر”.
تجديد للذاكرة
في تقديم مشروعه الموسيقي يحقق الخالدي حلما بعودة الموسيقى العربية الأصيلة مجددا إلى أذهان الجمهور، وكأنه يحلق خارج سرب الموسيقى الرائجة حاليا.
يقول في ذلك “التحليق خارج السرب يكون بعودة المبدع إلى الموسيقى الأصيلة التي تسكن في وجدان الناس، والمشروع عبر ظهوراته السابقة والآن أثبت أن هذه الألحان موجودة ومحفورة في وجدان الناس ويجب أن نعيد تجديد ذاكرة الناس بها. أرى أن السرب العشوائي الذي يطير الآن تعب من هذه المسيرة المتعثرة العشوائية. والضوضاء الفنية التي طغت حديثا على مستوى العالم كله ناتجة عن كونها أغانيَ آنية تسجل في دقائق وتنسى في دقائق لأنها تتشابه. لذلك تتساقط كل هذه الطيور العبثية ويبقى الطير الصادق الذي يعود إلى السرب الإبداعي الأصيل».
ويتابع «كنت أدعو دائما إلى الاستماع للغناء القديم الأصيل. وعبر سنتين سابقتين وفي هذا العام كان هناك تفاعل شبابي كبير مع ما نقدمه، وتفاعلهم كان بنفس درجة من يحفظون تراث فريد من الأكبر سنا. هؤلاء الشباب سوف يتركون الضوضاء الموسيقية التي تحاصرهم ويأتون إلى الفن الأصيل عندما يتعرفون عليه بشكل عصري. فنحن كنا ومازلنا نشع من خلال الفن العربي الأصيل، ونقدم للعالم كله فنا يستقبل هذا الفن الأصيل. آمل أن نعود إلى تقدير هذا الفن الأصيل وأنا متأكد أننا في نهاية عصر الضوضاء الموسيقية”.