أن تحيا مسلحا بممحاة

لا أذكر بالضبط من هو المعلم الذي نصحنا يوما بالعودة إلى ما نكتبه، بعد ساعة أو ساعتين، مسلحين بممحاة أو قلم حبر أحمر. حينها لم يكن الكمبيوتر قد اخترع بعد، كنا نكتب بقلم الرصاص أو قلم الحبر. المهم، أن نعيد قراءة ما كتبناه ونحذف بالممحاة أو نشطب بالقلم الأحمر جميع الصفات التي استخدمناها داخل النص دون تردد. ثم نعود ونقرأ النص ثانية.. النتيجة حتما مذهلة.
ما ينطبق على الكتابة ينطبق على الرسم والنحت. كل من جرب الكتابة والرسم والنحت يعلم أن العمل لا يكتمل إلا بعد حذف أجزاء منه. بل يمكن القول إنّ النحت هو فن حذف الزوائد.
إذا كانت المبالغة في استخدام الصفات عيبا، فإن استخدام المفاضلة عيب آخر لا يقل ضررا عن الإغراق بالوصف. في الحقيقة، المفاضلة بوابة لكل الشرور، فهي تقود إلى التعصب والانحياز وتسوق أصحابها لمواقف عنصرية.. ألا تبدو مثل هذه العبارات مألوفة: شعب الله المختار، وخير أمة، خاصة عندما تفرغ من محتواها الديني والتاريخي.
هل يمكن أن ننقي لغتنا من مفردات مثل: أجمل، أفضل، أحلى، أسرع، أذكى؟
لنعد إلى الوراء قليلا، ونسترجع مصطلح “عصر الانحطاط” الذي استخدم في الأدب والشعر ليشير إلى كتابات تفتقر إلى العمق الفكري والإبداع، وغالبا ما كانت تكرر الأفكار والمعاني السابقة دون تجديد في المحتوى والأسلوب، مع تركيز على الزخرفة اللفظية والتلاعب بالكلمات دون الاهتمام بالمعنى. هناك اتفاق على أن عصر الانحطاط الأدبي بدأ مع سقوط بغداد عام 1258 واستمر حتى نهاية الإمبراطورية العثمانية في 1919.
قد نتفق على أن عصر الانحطاط بدأ عام 1258، ولكن هل انتهى فعليا مع سقوط الإمبراطورية العثمانية؟
يصح القول إن جزءا كبيرا مما يكتب في الشعر والقصة والمسرح تحرر من أساليب عصر الانحطاط. ولكن للأسف لا ينطبق ذلك على الكتابة الصحفية وكتابة المقال. لن نقع في المبالغة إذا قلنا إن 90 في المئة من مقالات الرأي تعكس موقفا منحازا وتكتب بأسلوب عاطفي يعتمد المبالغة والإبهار اللغوي إرضاء لجهة معينة أو كسبا للقراء.
المفروض، عمليا، أن مقال الرأي أحوج إلى الموضوعية والابتعاد عن الكتابة العاطفية من الكتابة الأدبية، إلا أن العكس هو ما يحدث. بينما يلجأ الشعراء والمسرحيون والروائيون إلى تبني مفاهيم الحداثة، في المحتوى والشكل، نجد كتاب المقال الصحفي يغرقون في الأساليب العاطفية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالصراعات الدائرة في المنطقة، الصراع العربي الإسرائيلي مثالا.
غالبا ما تعكس المقالات الصحفية وجهات نظر شخصية للكتاب، وهو ما يسهل وقوعه في مطب النزعات العاطفية والانحياز. الضغوط الاجتماعية والسياسية تؤثر هي الأخرى على الكاتب وتبعده عن الموضوعية بهدف التأثير على الرأي العام.
المقال الصحفي، السياسي خاصة، إما مغرق بالمديح أو بالهجاء، تبعا لموقف الكاتب من الصراع الدائر.
الطريقة الوحيدة للنجاة من أساليب عصر الانحطاط ومن إغراءات النزعة الشعبوية الآخذة بالاتساع، سواء جاءت من اليمين أو من اليسار، هي التخلص من أي زوائد عاطفية، تظهر متلبسة إما بصيغة الصفات أو صيغة المفاضلة.
ماذا تنتظر؟ امسك بالممحاة.