أنور مجيد: أنا هو المهاجر الذي أضاع طنجة

الكاتب المغربي يؤكد أن كل كتاب هو فاكهة قراءات وتأمل، وأن الثقافة الرأسمالية والإمبريالية هي سبب كثير من الأوبئة التي فتكت بالعالم وثقافاته.
الأحد 2018/10/21
أنور مجيد: انصاف الحضارة العربية وثقافة الإسلام من باب نقدي
كاتب يكاد يكون مجهولاً عربياً، والسبب إقامته المديدة في أميركا التي وصل إليها في الثمانينات من القرن الماضي طالباً، وتحوّلت إلى مقر لإقامته. ولد في طنجة (1960). وغادر إلى أميركا لدراسة السينما، في رصيده رواية “السي يوسف” التي صدرت في طبعتين (1992 و2005). وفي رصيده ثلاث روايات وخمسة مجاميع قصصية غير منشورة. له عدد من الكتب في الفكر والحضارة الصادرة بالإنكليزية هي “إماطة اللثام عن التقاليد”(2000)، و”حرية وأرثودوكسية” (2004)، و”دعوة إلى الزندقة” (2007)، و”كلنا مسلمون” أو موريسكيون ويقصد الذين طردتهم إسبانيا وأبادت أغلبيتهم (2009)، و”الإسلام وأميركا”(2012). يشتغل حاليا أستاذ الحضارات والأدب بجامعة نيو إِنكلند، ونائب رئيس الجامعة ذاتها بولاية ماين بأميركا. وهو مدير فرع جامعة “نيو إنكلند” بطنجة، والمكلّف بالتواصل ومتابعة فروع الجامعة عبر العالم. وهو مؤسس “منتدى طنجة العالمي”، ومدير مجلة تحمل اسم “طنجة”. هو عاشق لهذه المدينة، ويشعر أن الشيء الوحيد الذي أضاعه في حياته هو طنجة. “أشعر بالضياع، والتيه هناك بعد خمس وثلاثين سنة. أشعر أني أضعت روحي. وهل رأيت أحدا أفلح في استرجاع روحه؟” يتساءل. زار المدينة لافتتاح الموسم الجامعي الجديد، فكان لـ”العرب” هذا الحوار معه.

أتى مجيد إلى الكتابة عبر كتابة سيناريو عنوانه “السفر الطويل” (1983) وهو طالب بمدرسة الفنون البصرية بنيويورك. يدور النص حول هجرة مواطن مغربي إلى بريطانيا، حيث سيعاني من مشاكل عدة منها صعوبة التأقلم في المجتمع الغربي وتعنيفه سيدة كان ارتبط بها.. وحين عيّن مجيد أستاذا بجامعة “سيراكيوز″، واختارته إدارتها لتدريس سجناء خطيرين يقبعون بأحد السجون الأكثر حراسة بالبلد سيتعرف على مغربي يقضي مدة حبسية لأنه عنف زوجته تعنيفا يضج بالقسوة. أيستوحي الواقع الخيال؟

يقول “انتميت إلى جامعة مدينة نيويورك، لمتابعة الدراسة بالشعبة الأدبية. وكتبت رواية قصيرة، هذه المرة، عنوانها “السيد ريتشارد”، وهو مواطن أميركي جاء للعيش بطنجة. وتقدم الرواية الحياة بالمدينة عبر رؤية هذا المواطن، وتأملاته. واقترح أحد أساتذتي عرضها على كاتبة شهيرة جدا بالكلية يومها، گْرَايْسْ بايْلي، لتدلي برأيها النقدي في النص. وبعد أيام توصلت برسالة من توقيعها. ومما جاء فيها “كتابتك باللغة الإنكليزية رائعة، وتمثل هبة هواء جديدة..”. وشاركت بنص “السيد ريتشارد” في مسابقة أدبية وأحرزت على الجائزة الثالثة، لمسابقة “DeJur Prize”. وقال عن النص وصاحبه أحد الأساتذة “إنك كاتب، ويمكن أن تكون جوزيف كونراد الجديد”. وهكذا جعلت من الكتابة هواية خاصة أمارسها إلى جانب الدراسة.

“وقد خففت الكتابة، يومها، من وجع الحنين والدراسة.. ومنحتني القوة، والمتعة، والإقبال على الحياة. ولا تمنحك الكتابة الفكرية المشاعر ذاتها، لأنها تقوم على البحث، وتحري الدقة”.

الكتابة التخييلية خلق لعالم جديد
الكتابة التخييلية خلق لعالم جديد

طنجة الحلم والإلهام

يقول عن بلسم الكتابة إنه يكتب من دون وضع تصميم. “والكتابة التخييلية خلق لعالم جديد يختلف عن المرئي الذي أمامك. هو أكثر من محاكاة. كنت دائما منشغلا بمدينتي طنجة، وأنا أوجه ناطحات السحاب، والشوارع الفسيحة بنيويورك.. طنجة تشغل فكري، تبدد قلقي.. هي موطن التفتح، لوجود جاليات مختلفة من العالم يعلّم بعضها بعضا قبول الآخر، وقبول فكره من دون أن تشعر أنك الأرفع أصلا، والأسمى شأنا.. قيمة الإنسان في ما يبذله من جهد لخدمة بني جلدته، وبني إنسانيته”.

“وذات يوم لفت انتباهي مواطن طنجي يرتاد مقهى، أرتادها بدوري.. وسمعت شذرات عن حياته فشكلت منطلق الكتابة. وهكذا رأت رواية ‘السي يوسف’ النور. وكل ما في النص خيال وهواجس المرحلة والذات. وقد رأى بعض النقد في النص رسالة حب إلى طنجة وفيها.. وهي السحر عينه.. وأحس وأكاد أدرك أن هناك روحا تسكن طنجة، أقصد مناخا روحانيا يدثر المدينة. أحس في طنجة بما لم أحس به في أي مكان زرته، وأقمت به. وأنت تعلم أني شبه رحالة”.

إسبانيا، لا أميركا واليابان

يؤكد مجيد أن أحسن نموذج للدولة، عبر العالم، هو إسبانيا. وعلينا أن نتخذ من إسبانيا الآن نموذجا لبلدنا. هي بلد يحافظ على تاريخه ورموزه التاريخية، وهي في الغالب رموز ذات طابع إسلامي، (شخصيات: ابن رشد.. وعمران: غرناطة، والحمراء..). وقد أحسنت إسبانيا المحافظة على هذه المآثر كما لم تقم بذلك أي دولة أخرى. وحولتها إلى مصادر لجلب العملة الصعبة عبر السياحة.. وقد تغيّرت إسبانيا سياسيا واجتماعيا ودينيا.. كانت دولة كاثوليكية وتحررت الآن من طابعها الديني وصليبيتها المتشددة.. كما تصالحت مع تاريخها، واستوعبته، ولكنها لا تقدسه بل انخرطت في الحداثة التي تغزو كل شبر من العالم بحكم العولمة.

حين كتب مجيد أول مقالة فكرية “هل يستطيع النقد ما بعد الكولونيالي أن يتحدث؟” بعث بها إلى مجلة شهيرة (Cultural Critique). أحالتها على متخصصين، وأعضاء لجنة علمية، لإبداء الرأي. ومن الذين قرأوا البحث عالم معروف جدا ويسمى لويد. وقال لويد وغيره لأعضاء اللجنة “هذا البحث مهم جدا ويستحق أن نخصص له العدد كاملا، ونستكتب إدوارد سعيد وسبيفاك للرد عليه، وغيرهما أيضا”. ونشرت المقالة واحتلت صدارة المجلة.. ويعلق مجيد “كانت المقالة فاتحة خير، فقد أسهمت في التعريف بي”.. والمقالة رد على غاياتري سبيفاك ومقالتها “هل يستطيع التابع أن يتحدث؟”.

إصلاح المجتمعات الإسلامية يجب أن يكون إصلاحا تدريجيا
إصلاح المجتمعات الإسلامية يجب أن يكون إصلاحا تدريجيا

ويؤكد مجيد “كانت سبيفاك تقصد هل يمكن لهؤلاء المنبوذين في الهند التعبير عن أنفسهم؟ وهم طبقة ما تحت الكادحين. وقد بينت أن هناك شخصا آخر يتحدث عنهم، باسمهم. ووجهت نقدي لها ولإدوارد سعيد أيضا. فهو أسس نقده للفكر الغربي من الثورة الفرنسية إلى القرن العشرين بينما الاتصال الحقيقي بين الغرب والعالم العربي والإسلامي بدأ نهاية القرن الخامس عشر مع سقوط الأندلس؛ وهو خروج من التاريخ والجغرافية. فهما معا لا يلمان بكل تفاصيل الثقافة العربية وموضوعة الإسلام. وقد اعترفت سبيفاك ببعض هذا، وأورده باحث في إحدى المجلات”.

“ولما تبين للنقد أني أدافع عن الإسلام والمسلمين طلب مني بعض الباحثين وجوب التعرض لحقوق الإنسان في الإسلام، وطبيعتها فكتبت “سياسات الأنثوية في الإسلام” متناولا حقوق المرأة في الإسلام. وهو موضوع السجال الذي يحاول الباحثون الغربيون أن يطعنوا من خلال قناته في الإسلام والمسلمين. وبينت أن النسوية ليست رديفا للهيمنة الثقافية، بل يجب أن يكون هناك نظام يمكن المرأة من أن تعيش هويتها، وشخصيتها، من دون مضايقات، وبكل عدالة. فلا يجب أن تتخلى عن ثقافتها، وعن عاداتها.. وذلك لأن الثقافة الرأسمالية والإمبريالية هي سبب كثير من الأوبئة التي فتكت بالعالم وثقافاته. وقد ولجت هذا الباب لأ تمكن من توضيح معاناة الحرية من الوهم. ووجوب المحافظة على ثقافة الشعوب الأخرى حتى لا تندثر تحت وطأة هيمنة الثقافة الإمبريالية والرأسمالية الغربية. نشرت المقالتان ضمن كتاب “إماطة اللثام”، إماطة اللثام عن كل أصناف التقاليد: تقاليد الاستعمار، وتقاليد الرأسمالية، والنزعة الأبوية الإسلامية. وتقاليد كل الأنظمة.. وقد انتقد الكتاب كل ما هو سلبي في تقاليد الغرب، وكذلك في تقاليد المسلمين، لأن العالم أصبح عالما متعدد الأقطاب.

مصل حرية الفكر

يتابع مجيد، وفي كتابي الثاني “حرية وأرثودوكسية” اعتمدت على الفكرة التي طورها المفكر الفرنسي كورنيليوس كاستورياديس، وهي “المتخيل الاجتماعي”. وهي نظرية معقدة جدا، وتبين أن المتخيل الاجتماعي يحدد ويتحكم في قواعد اللعب بين اللاعبين في المجتمع، ويصعب عليهم بل يكاد يستحيل التحرر من هيمنته، وتوجيهه للفرد. لأنه يتسرب إلى مسام الفرد. وقد كنت أتساءل دائما كيف يمكن لنا أن نقوم بإصلاح داخل واقع ثقافي يتسم بالتعقيد؟ “ولذلك اتجهت صوب گلانفيل هيكس للانطلاق من كتاباته وفهم نظريته للوقوف على أسباب كون أميركا هي الدولة الوحيدة في العالم الغربي التي اضطهدت فيها الشيوعية بطريقة عنيفة جدا. بينما كانت الدول في أوربا الغربية تسمح بوجود حزب شيوعي، وتقبل بنشاطاته. وهو ما تطلب فهم المجتمع الأميركي، وفهم ثقافته، وطبيعة نظامه الرأسمالي.. وقد استعملت هيكس كوسيلة للفهم، لبلوغ هدف معيّن. وفي الآن نفسه، حاولت الإجابة عن الأسئلة التي تعيق قبول الفكر الاشتراكي، أو الشيوعي في المجتمع المغربي، والعربي الإسلامي عموما. كما طرحت علي وأنا طالب بمدينة فاس يعاين صراع الطلبة اليساريين واليساريين الجذريين، وطلبة التيار الإسلامي.

التطرف الأميركي

معا يمثلان نظاما قمعيا
معا يمثلان نظاما قمعيا

هو عنوان بحث لمجيد، ويبدو أن أثر گلانفيل هيكس عليه كبير لأنه جعل من مشروع هيكس بعض مشروع عمله. لرفض أميركا والمغرب الفكر الاشتراكي ومحاربته. وهو طالب بمدينة فاس لاحظ أن طلبة اليسار والإسلاميين لم يفهموا معا طبيعة ثقافة المغرب. إذ كيف ليساري أن يتحدث إلى فلاح مغربي عبر فكر ماركس، ولينين؟ فهل يستطيع أن يناقش الفلاح المغربي ويقنعه، ويجذبه إلى صفوفه؟ “ولم أستطع أن أفهم سعي الإسلاميين لأنهم جلبوا ثقافة وفكرا غريبين عن المغرب والمغاربة وهما ثقافة وفكر الوهابيين من عادات، وممارسات وشرعوا يزرعونها في رحم المجتمع المغربي. لعل ما يميز إسلام المغرب هو بعده الصوفي المتسامح”.

غربلة وتنخيل

الكتابان الأوليان (إماطة اللثام) و(حرية وأرثودوكسية) جعلا الكتاب والنقاد في بحوثهم كما يكشف الكاتب” يصنفونني ضمن نقاد النظام الاستعماري الغربي، والمدافعين على الهوية الإسلامية في بعدها التقدمي، التي تمنح الحقوق للناس أجمعين. لكن ما إن حلّت سنة (2007)، ونشرت كتابي “دعوة إلى الزندقة” حتى تكسرت تلك الصورة، وتم اعتماد تصنيف آخر.

ذلك أن معظم القراء، والنقاد لم يفهموا الهدف من الكتاب، باستثناء قلة قليلة. ومنهم ناقد هولندي مختص يكتب في الموضوع ذاته. التقاني ذات ندوة وقال لي “لا تزال الاستمرارية حاضرة في كتاباتك”. وطربت لذلك لأني عرفت أن هناك من فهم القصد من تأليف الكتاب. ذلك أنني كنت أومن، في كتابي الأول والثاني، أن إصلاح المجتمعات الإسلامية يجب أن يكون إصلاحا تدريجيا. وبعد ذلك، وانطلاقا من كتاب “الدعوة..”، فكرت وقلت يجب أن تحدث قطيعة تدعو القارئ، وعامة الناس إلى النظر إلى وجه آخر للإسلام. هو جزء منه.. ولا يبقوا تحت رحمة دعاة الفكر المتزمّت، الذين يعتقدون أنهم من يملكون الحقيقة الوحيدة الممكنة. “وعدت في الكتاب إلى فترات من تاريخ الإسلام حيث سادت حرية الفكر، وهي فترة قصيرة نسبيا، وما ارتكب الفكر الحر آثام كما ارتكبها غيابه وفرض الإجماع. ولحظتها نشط الفكر، وناقش المفكرون النبوة، ودلائل النبوة، والخلق”.

لعل القراءة تلهم كما المكان. يضيف مجيد قائلا “للعرب” “كل كتاب هو فاكهة قراءات وتأمل. ثم إنني أتعامل مع قراءاتي بعقل منفتح. ولست من النوع الذي يمتلك قناعات لا تتغير. قراءاتنا تغيرنا، تأمل الكون والناس يغير بعض مفاهيمنا. الواقع اليومي خير معلم. لا يجب أن نقرأ لتأكيد قناعاتنا.

“في تلك اللحظة، فتحت لي القراءة آفاقا جديدة في البحث. وانتقلت في كتابي الآخر (الإسلام وأميركا: من أجل مستقبل بدون أفكار مسبقة) إلى سؤال، وهو لم تحتج أميركا والإسلام إلى الفكر “الزندقي”؟ لأنهما معا يمثلان نظاما قمعيا. أميركا لأنها تعاني من ضغط اجتماعي واقتصادي وليد النظام الرأسمالي، وهو نظام قمعي بامتياز لأنه يستهدف الربح. وقمع في الآن ذاته المفاهيم التقدمية التي أتت بها الثورة الأميركية في القرن الثامن عشر. ويعاني المسلمون من قمع ديني، قمع يرتدي لبوس الدين، لم يستطع المجتمع التحرر منه. قمع وليد النظام الرأسمالي كسر المبادئ الديمقراطية ووأدها، وآخر وليد الإسلام السياسي، التقليدي فرض حياة تفقر الوجود الفردي والجماعي”. ولا يقصد مجيد بالزندقة الإلحاد، بل التعامل مع الأديان بعقل نقدي، منفتح، لا يقبل بتعطيل العقل.

دفاعا عن المسلمين
دفاعا عن المسلمين

كلنا أقليات

فاجأ مجيد الكتّاب والقرّاء بالكتاب الرابع “كلنا موريسكيون” حيث رأى فيه الجميع دفاعا عن المسلمين، بينما كان انتقد جوانب من حياتهم وأميركا في الكتاب السابق.

وصدر الكتاب بمناسبة مرور أربعمئة سنة على طرد المسلمين من الأندلس سنة (1609) وتعرضهم للإبادة الجماعية باعتبارهم “أقلية” لحظة سعت إسبانيا إلى بناء الوحدة الوطنية وتوحيد ساكنتها في ظل المسيحية واللغة القشتالية واحتاجت إلى إلغاء الآخر (المسلمون واليهود باعتبارهم أقلية) باعتباره عدوا.. اشتغل على الكتاب طيلة أربع سنوات وأصدره سنة (2009) مواكبة للذكرى.. ويجمع الكتاب بين التاريخ وتناول كل القضايا الراهنة: الهجرة والأقليات والإبادة. ذلك أننا جميعا، بشكل أو بآخر، أقليات في نهاية المطاف. وقد جاء في المقدمة، قد يفاجئ الكتاب الناس. لكن هدفي الأسمى هو النقد وهو مواجهة كل فكر قمعي أينما كان، والتيارات القمعية كيفما كان لونها، وهويتها. والحرية ديدني. لأنه ديدن الإنسان منذ حلّ بهذه الأرض. لعل على هذه الأرض ما يستحق العيش والنضال والفكر.

14