"أنا وأنا" معالجة فنية لواقع المرأة العراقية

صارت التشكيلية العراقية منى مرعي بفعل نضوج تجاربها الفنية من الأسماء المهمة التي انطلقت في فضاءات الفنون التشكيلية كاشفة عن حضور مميز إلى جانب أساتذتها وزملائها من مختلف الأجيال الفنية في العديد من المعارض الجماعية أو الشخصية، حيث جاوزت معارضها الشخصية الأربعة عشر معرضا، وامتازت أعمالها بالتعبيرية التجريدية، وكانت المرأة ثيمة أساسية في أغلبها.
منى مرعي فنانة تشكيلية عراقية، من مواليد بغداد منتصف سبعينات القرن الماضي، لقبت بـ(مرعي) نسبة لاسم جدها واسمها الكامل (منى يحيى مرعي)، تنفست الفن منذ نعومة أظفارها حين وجدت نفسها ترسم وكان حلمها أن تدخل معهد الفنون الجميلة، ومن أجل صقل موهبتها بالدراسة الأكاديمية انضمت في عام 1989 للدراسة في هذا المعهد العريق الذي تأسس في منتصف ثلاثينات القرن الماضي وكان أعرق وأقدم مؤسسة لدراسة الفنون في الشرق الأوسط، وتخرج منه المئات من فناني عصر الرواد وعصرنا هذا.
ومن حسن حظها أنها تتلمذت على أيادي فنانين تشكيليين كبار لهم باع طويل وخبرة واسعة بالفن حيث كان المعهد في فترته الذهبية آنذاك، وكانت من المتميزات في الدراسة الأمر الذي أهلها لإكمال دراستها للفن في أكاديمية الفنون الجميلة بعد ذلك، وتتابع إلى الآن البحث والدراسة والتجربة، وقد شاء القدر أن تصبح أستاذة للفنون التشكيلية في المعهد ذاته.
وتوجت مرعي هذه المسيرة بإقامة معرضها التشكيلي الجديد الذي احتضنه المعهد الفرنسي في بغداد من الثاني عشر لغاية الرابع والعشرين من فبراير الماضي وحمل عنوان “أنا وأنا”، وهو عنوان معبر ودال يكشف ثيمة هذا المعرض الذي ضم لوحات وأعمالا نحتية متنوعة، تكشفت عن صراع داخلي جسدته عبر هذه الأعمال التي تختزل فيها مرعي الجمال والحياة والحضور المحتدم بتجريدية تعبيرية كانت ومازالت القاسم المشترك لكل أعمالها.

معالجات فنية لواقع المرأة
وفي دليل العرض كتبت انثيالات شعرية شفيفة حملت عنوان “أنا وأنا” هو ذاته عنوان معرضها، معبرة فيها عن ثيمته التي تنم عن رؤى وتداعيات ذات طبيعة فلسفية أنيقة شكلا ومضمونا، وقالت:
أنا وأنا
حين يعتلي المدى فوق المدى
ويصبح الصدى أجد ذاتي تمتزج مع ذاتي
لونا ورمزا وعالما آخر من النقاء
هنا وجدتني حيث الأنا تبحث جامدة عن الأنا…..
وجدتني بين لوني ورمزي حيث لا أحد يفقه أنا سوى أنا لذا
قد قررت أن أرافق ذاتي في رحلة أخرى ملؤها اللون والحياة
ملؤها الصدق والنقاء
وعالم آخر من لون ولون
حيث أنا وأنا.
بهذه الأبيات أطلقت الفنانة العنان لريشتها وألوانها لترسم على سطح لوحاتها، بمعالجات فنية لواقع المرأة التي هي جزء منه، ومعايشتها في بيئتها ومحيطها الاجتماعي والثقافي وجغرافية الفن التشكيلي العراقي المعاصر، عبر مخاطبة واعية وجمالية لعقل ووجدان المتلقي رجلا كان أو امرأة.
وعن بداياتها الفنية وموهبتها قالت مرعي لـ”العرب” “عندما فهمت الحياة وجدت نفسي أرسم ولا أعلم أكان هذا عشقا أم موهبة؟ شيء ما بداخلي يحركني نحو تجسيد الأشياء بخطوط وألوان بل ما أراه في الواقع أحوله في عقلي إلى رسم. وبعد ذلك وجدت هذا العشق يكبر معي حتى صار حلمي أن أدخل معهد الفنون الجميلة”.
لقد صقلت منى هذه الموهبة بالدراسة الأكاديمية وعن ذلك تقول “حين دخلت معهد الفنون الجميلة كان من حسن حظي التعلم على يد أساتذة من عظام فناني العراق في التشكيل، ومنهم في النحت سهيل الهنداوي، وفي الرسم مهين الصراف ومحمد مهرالدين وسلمان عباس، وفي الغرافيك سالم الدباغ، وغيرهم الكثير، وحين تخرجت من المعهد كنت الأولى على دفعتي، لذا تحولت للدراسة بالمرحلة الثانية لكلية الفنون الجميلة، وأيضا كان من حسن حظي أن أواصل دراستي على أيادي أساتذة كبار مثل محمد صبري، وليد شيت وحسام عبدالمحسن”.
وتضيف “طوال مسيرتي كنت أبحث وأجرب باستمرار لإيجاد شيء غير مألوف يشبهني ولا يشبه أحدا آخر، ومن ثم كان من المؤكد أن سفري وتنقلي بأعمالي في الكثير من الدول ساعد كثيرا على نضوج وتبلور تجاربي الحسية والإدراكية والإبداعية”.
أما في ما يتعلق بمن أثر فيها من الفنانين ومن تعتبره عرابها فقالت “أنا وأنا هو خلاصة إجابتي على هذا التساؤل، فأنا هو الداعم والعراب الوحيد لأنا. أما عن عرابي فهم أساتذتي وكل واحد منهم كان له الأثر البالغ في أي لمسة فنية منحوني إياها، ومنهم مهين الصراف لونا، وسلمان عباس فنا وإنسانية، ووليد شيت جرأة في الطرح، ومحمد مهرالدين فن الحداثة واللامبالاة إلا للطرح الفني الحقيقي”.
ومن المعروف أن ذخيرة مرعي الفنية تنهل من مدارس عدة أبرزها المدرسة التعبيرية وغالبا التعبيرية التجريدية التي تتميز بالألوان والخطوط والأشكال إذا ما استُخدمت بحريّة في تركيب غير رسمي، وهي الأقدر على التعبير وإبهاج البَصَر منها حين تُستخدم وفقا للمفاهيم الرسمية أو حين تُستعمل لتمثيل الأشياء، وعن سر ذلك توضح لـ”العرب” “عملت لمدة خمس سنوات في المعهد وثلاث سنوات بالكلية على دراسة الواقعية وكان لي الكثير من المعارض والمشاركات وفقها، ولأني تتلمذت على أيدي أساتذة فنانين يعلمون الفن الحقيقي تعلمت أن أجد ذاتي بالفن، وأجد هوية خاصة بي كفنانة وأبحث عن تجربة لا تشبه أحدا، لهذا شعرت أني وجدت ذاتي الفنية بالتجريب المستمر، والتجريدية التعبيرية هي أقرب ما يكون لشخصيتي الفنية لكن ذلك لا يعني أن أتوقف عندها تماما”.
أما عن الألوان المحببة إليها والأكثر استخداما في لوحاتها فتقول مرعي “أقرب علاقة لونية تشعرني بذاتي بل وقريبة إلى روحي هي العلاقة بين الأسود والأبيض، وهي علاقة جميلة وتكاد تكون أسطورية ينتج عنها اللون الرمادي وما فيه من دلالات”.
ووظفت هذه الألوان للحديث عن ثيمة المرأة التي تؤكد الفنانة أنها لا تنحاز لها لأنها أحيانا تنساق بشكل لاواع للمرأة لأنها أساس الوجود، و”مع ذلك فللرجل وجود كبير في معظم أعمالي وكذلك الطفولة”.
واعتادت مرعي اختيار عناوين وكأنها عناوين لقصائد أو روايات أو قصص مع إيجاز ذي طبيعة شعرية في مقاربة بين النص اللوني والنص الشعري. وهي تفسر ذلك فتقول “ربما لأنني أكتب منذ الطفولة مقطوعات رمزية ذات طبيعة فلسفية، وكذلك الأعمال تجدها هي الأخرى أشبه بنص لوني رمزي فلسفي، وأجد أن ثيمة المعرض ‘أنا وأنا’ تتجسد باسم رمزي فلسفي”.
وفي إجابة عن سؤال يطغى النص الشعري على النص اللوني، ومتى يتماهيان ومتى يفترقان؟ قالت “لا يطغى شيء على شيء فكل نص يثبت وجوده من حيث المعنى والفلسفة والرمز الخاص به، لهذا تجد أن كل عمل ينطوي على قصة يقرأها الشاعر حسب رؤيته ويقرأها التشكيلي بشكل آخر ويقرأها المسرحي والكاتب بشكل آخر”.

وعن عنوان معرضها الأخير أوضحت “كل منا يجهد نفسه اللاواعية بالبحث عن ذات تشبه أو تقرأ دواخله بشكل صحيح أو تقترب من فهم ذاته، لكننا نشعر غالبا بالخيبة من وجود تلك الذات أو الأنا الأخرى لكني وجدت ذاتي من خلال هذا ‘الكائن الروحي’، وهو العمل الذي أبوح له بدواخلي فيخرجها لونا ورمزا، لقد وجدت فيه الأنا الأخرى التي أبحث عنها”.
وعن رسالة هذا المعرض ولمن توجهها، قالت مرعي “لا أوجه رسالة لأحد فأنا أشعر أنني فكرت وأخرجت ذاك الاحساس والتفكير على شكل لون ورمز، أجد أنه يوجه نفسه بنفسه حيث يصبح رسالة يقرأها كل شخص بشكل خاص”.
وفي المعرض نلحظ لوحة فيها تجسيد لمرعي وصراع ما بين الأمر بعدم التحرك وما بين أخبار جيدة ولوحتين أخريين إحداهما تجسدها والأخرى تجسد ابنتها ذات العشرين ربيعا في نهاية اللوحات المعروضة، توضح ذلك بقولها “هذه اللوحة هي سر آخر من أسرار تسميتي للمعرض، فأنا لا وجود عندي للتوقف لذاك غالبا أنقل من خلال عملي وفني للآخر الأخبار الجيدة، برغم ما يحصل وما نعيش من مشاكل، وبخصوص لوحتي مع ابنتي الوحيدة فكانت لأنها اعترضت على تسمية المعرض حيث تساءلت: إن كنت وجدت الأنا الخاصة بكِ فأين أنا إذاً؟ فقلت لها أنتِ الأنا الصغيرة التي تسكن ذاتي فرسمتها!”.
وانطوى المعرض على أكثر من عمل نحتي تواءم مع أعمال الرسم التي أنجزتها الفنانة مرعي وهي خليط من خامات عدة، ولكنها لم تكن التجربة الأولى لها بالنحت لاسيما أنها درست فن النحت على يد الفنان النحات الأستاذ سهيل الهنداوي.
وعن الطقوس التي تمارسها حين تدخل مرسمها تقول “مرسمي هو صومعتي التي أبوح فيها حين أعتزل ليلا، تحديدا، على سطح لوحاتي خطوطي وألواني وأفكاري وتجاربي البصرية المعبرة، ودائما ترافقني موسيقاي الخاصة التي تناغم روحي وعقلي وأعمالي”.
واختتمت مرعي “أنا أتمنى أن أجد ذاتي وسعادتي دائما مع لوني وعملي حتى أجد ضالتي التي أبحث عنها باستمرار”.
