أمي تشاهد الأفلام أفضل من نقاد السينما

إن الأفلام والمسلسلات التي نشاهدها، وراءها العشرات من الحرف، تتعاون كل واحدة منها في سبيل إنتاج فيلم أو مسلسل نقضي أمامه ساعات أو أكثر في مشاهدته، فكل الفنيين والتقنيين على درجة متساوية من الأهمية لكل عمل فني، فهم يؤلّفون وحدة متكاملة ومتعاونة، وقد تؤدي الثغرات الصغيرة بينهم إلى تشويه بقية البناء وإفساد الفيلم أو المسلسل كمجموعة أو وحدة فنية متماسكة.
السينما والتلفزيون ليسا مجرد منتج وسيناريست ومخرج، فهؤلاء يأمرون والباقي يكدح ويتعب ويبدع، وإذا أردت أن تتأكد من كلامي، احذف مهنة السكريبت وانظر كيف سيبدع المخرجون. أما أنا، فقد أدركت قيمة الحرف السينمائية عندما كانت أمي تشاهد فيلما.
◙ الرأي والأذواق والنقاش، ومشاهدة الأفلام والكتابة عنها ما هي إلا رأي يعبر عن صاحب المقال، لا هو عالم فراسة ولا هو عالم أفلام، هو من الرأي العام مثل الجمهور
أمي تشاهد فيلما! يا لها من فكرة سخيفة يقول البعض.
مادام الناقد والمنظّر في دراسة الأفلام يكسب عيشه من خلال المشاهدة والكتابة عنها، فلم يعد هناك شيء سخيف، لماذا؟ لو كانت أمي تعرف الكتابة والقراءة لفعلت نفس الشيء، وينبغي ألا نفكر أن الجمهور الواسع الذي يشاهد الأفلام، وخاصة الوالدين الذين يقضون معظم أوقاتهم أمام التلفاز، أقل شأنا من ذلك الناقد الذي يعتبر أن سلطة نصه فوق الذوق العام، ويقال إن الأذواق لا تناقش، ولكن ذوق أمي يستحق النقاش، وذلك لأن الفيلم هو وسيلة شعبية بالأساس ويحتل مكانة بارزة في المجتمع، وقد كتب كريستيان ميتز أن “السينما يصعب شرحها لأنها سهلة الفهم”، ويجب أن نتمكن من تقديرها تقديرا أفضل سهل الاستيعاب والهضم.
ينتهي بالكاتب في تحليل الأفلام، إما بوصف ما يراه أو بتحليله، أو يقوم بكلا الأمرين معا، ونحن عادة في الوصف نكرر بالكلمات ما نشاهده، فبإمكاننا أن نصف محتوى الفيلم، أي الفكرة الرئيسية وهدفها، أو شكله، أي الطريقة التي بُني بها، بما فيها حركات الكاميرا وتتابع اللقطات وإيقاع الأحداث، والوصف شرط ضروري للكتابة عن الفيلم، فكل ما ينجزه الكاتب هو بكل بساطة تكرار ما يعرضه الفيلم.
وماذا يخربش الناقد عادة؟ إما أن يتحدث عن السيناريو أو الإخراج أو أداء الممثلين، وإذا اجتهد يمكن أن يتحدث عن المونتاج أو الموسيقى التصويرية، وهذه كلها جزء صغير من المهن التي تصنع الأفلام.
أما أمي فتشاهد الأفلام لأنها مهتمة بالأثاث والمناظر، كالموائد والمقاعد والمصابيح والأفران والستائر والسجاد وأحواض المطابخ والثريات، وليس هذا فحسب، بل أيضا ألوان الصباغة والنقوش والبنايات والزرابي المفروشة، ثم تنتقل إلى الأرضية وتشاهد أنواع الزليج، وتنظر إلى الملابس وتخبرك عن أيّ موضة إليها تنتمي وتناقش المكياج وتخبرك بما هو مكلف وغير مكلف، فتخيل أنت أيها الناقد، لو أمي كانت تكتب في هذا الاتجاه؟
أكيد ستكتب الصحافة السينمائية عن ظهور موجة جديدة من النقاد، رغم أنا هذا بالفطرة كائن وموجود، فلماذا لا تكتب عن الموجود بما هو موجود؟
التذوق الفني فطرة عن الأمهات. تقضي الأمهات دورا عظيما في حياتنا، فهن مصدر الدعم والإلهام، إذ تكمن جمالية علاقتنا معهن في اللحظات الصغيرة التي نقضيها معهن، وتأتي لحظات مشاهدة الأفلام مع الأم بمثابة ملاذ من الحياة اليومية، حيث تجتمع الإثارة والترفيه مع الفرصة لتبادل الحديث والتعبير عن الآراء، وهنا تكون مشاهدة الأفلام فرصة للتواصل والتعبير عن الإبداع والتفاعل مع الفن.
وأحد الجوانب المثيرة لمشاهدة الأفلام مع أمي هي الاستفادة من تصميمات الديكورات والمنازل والملابس التي تظهر فيها، وفي الحقيقة للديكورات والملابس دور كبير في تعريف شخصيات الفيلم وتقديم رؤية فنية فريدة، ويمكننا أن نستوحي الكثير منها لتحسين بيئتنا الخاصة وأسلوبنا في ارتداء الملابس، كأسلوب من التذوق الفني، أو على الأقل الخروج من دائرة التطبيل والتزمير للمنتج والمخرج والسيناريست والممثل.
إن قدرة أمي وأمك على مشاركتي ومشاركتك في هذه المناقشات تعكس أيضا قدرتها على فهم العمق الذي يمكن أن تصل إليه الأفلام كوسيلة للتعبير الفني والثقافي، تخيل أمك تقفز فجأة إلى عالم الأفلام، عالم مليء بالقصص الساحرة والديكورات الفنية والأداء الرائع للممثلين، هل ستكون هذه التجربة مجرد مشاهدة عابرة، أم ستتحول إلى رحلة استكشافية ثقافية ممتعة؟
◙ كل الفنيين والتقنيين على درجة متساوية من الأهمية لكل عمل فني، فهم يؤلّفون وحدة متكاملة ومتعاونة
ربما لم تتعلم الأم القراءة والكتابة، ولم تقرأ لديدلي أندرو في نظريات السينما الكبرى، ولا كتب فلسفة السينما، ولا جيل دولوز، ولا جاك أمون، ولا كريستيان ميتز، ولا النظرية الواقعية والشكلية، ولكنها تمتلك حسّا فنيا رفيعا، عندما تشاهد فيلما، لا تنظر فقط إلى أحداث القصة، بل تستمتع بجمال الديكورات وتدقيق التفاصيل، فهي تستطيع أن تميز بين الأثاث الفاخر والعادي، وتدرك تأثير الإضاءة والألوان على الأجواء العامة للفيلم، وهذا، يا عزيزي الناقد، يُسمّى في الفلسفة بالتذوق الفني، ورغم عدم قدرتها على قراءة أسماء الممثلين، إلا أن أمي تمتلك حسا دقيقا في تقدير الأداء الفني، إذ تتمكن من اختلاف العبارات الجسدية والتعابير الوجهية، وتستطيع التمييز بين الأداء الممتاز والتمثيل الضعيف.
لماذا تكلّمت عن أمي؟ كي يعلم الناقدُ الذي يظن أن للنص المكتوب سلطة تمكّنُهُ من رؤية ما لا يراهُ العالمُ وأنه وحدهُ العالمُ الفذ المبجلُ الذي يقومُ ببناء الأفلام وقتما شاء وهدمها وقتما شاء، حسب كمية ولائم الدجاج المقدمة في المهرجان، ليس هذا فحسبُ، فلو أن كل واحدٍ من الناس العامة يكتبُ ما يسمعهُ عندما يخرجُ من دور السينما أو مع الجيران أو الأصدقاء أو ما تحكيه أمهُ عن الأفلام، لاتضحت الرؤيةُ وتعددت الآراءُ وانتشرت المقالاتُ في الجرائد والمجلات، حينما يصبحُ تقسيمُ الدجاج أمرا عسيرا ويختفي جنونُ العظمة من الميدان.
لماذا النقد السينمائي مجرد رأي؟ الرأي والأذواق والنقاش، ومشاهدة الأفلام والكتابة عنها ما هي إلا رأي يعبر عن صاحب المقال، لا هو عالم فراسة ولا هو عالم أفلام، هو من الرأي العام مثل الجمهور، والفرق بينه وبينهم هو أنهم غير مهتمين بالكتابة ولا يملكون اللغة السينمائية المتاحة للجميع كي يكتبوا، والناقد يلجأ إلى الكتابة إما عندما يفشل في أن يصبح مخرجا، وهذه لقائلها المجهول: “معظم الذين فشلوا في أن يصبحوا مخرجين أصبحوا نقادا”، وإما أن يفعلوا ذلك من باب الدخول إلى عالم الشهرة والأضواء، وهي في الحقيقة ظلمة تشبه نور الموجة الجديدة المبدعة من الشباب في آخر النفق.