أمير فخرالدين.. نزيل الاحتلال الذي يرفع أفلامه كالقصائد في وجه القمع

المخرج الجولاني أمير فخرالدين: رغبتي أن أحفر عميقا في الشخصيات أكثر من إنتاج حكاية.
الأحد 2021/10/31
الشخصية السينمائية مُركّبة من عدّة انعكاسات لشخصيات في المجتمع

غالبا ما تكون العلاقة بين السينما والشعر إشكالية، إذ لا بد من حكاية ليكون هناك فيلم، ولكن من جهة أخرى ليست كل حكاية فيلما سينمائيا، إذ لا بد من أساليب الشعر لاستخراج جماليات أخرى من الحكايات، كما تتجسد علاقة الشعر بالسينما في إنتاج الصورة وجمالياتها وتأثيرها وبنائها والمعطيات الحسية المرتبطة بها. ولكن تبقى هذه العلاقة شائكة إذ يسقط فيها كثيرون في شعريات مجانية تغلق الفيلم على نفسه وتتوه بمنتجيه في غنائية بلا طائل. فيما يلي حوار مع المخرج الجولاني أمير فخرالدين الذي أجاد في اللعب بين عالمي الشعر والسينما.

في ختام الأمسية التي أقامها برنامج “بينالي فاينال كَتْ” الذي فاز فيلم المخرج العراقي الشاب أحمد ياسين “جنائن مُعلّقة” بجوائزه الثلاث، أخذني النجم الفلسطيني علي سليمان جانباً وقال لي: “يلّلا نكمّل السهرة”! ولكوني لست ممّن يحبّون كلَّ السهرات، سألت: سهرة مين؟ أجاب: مسابقة “أيام المخرجين في فينيسيا” لفيلم “الغريب” لأمير فخرالدين.

وافقته في الحال وتوجّهنا إلى مكان الحفل، إلاّ أنني غيّرتُ رأيي في منتصف الطريق واعتذرت وأبلغتُ علي سليمان بأنني سأخبره بالسبب في اليوم التالي؛ لم أكن قد شاهدت فيلم “الغريب” بعدْ، ولم تُعجبني فكرة لقاء أمير فخرالدين وبطل فيلمه، النجم الرائع أشرف برهوم، دون أن أتمكّن من الحديث معهما عن الفيلم. كنت قد سمعت الكثير عن الفيلم من الأصدقاء والزملاء العرب والإيطاليين ومن منظمي المسابقة، لكن، أنْ تسمع عن الفيلم شيء، وأنْ تشاهده شيءٌ آخر.

جاءت مشاهدتي للفيلم لتؤكّد ما ذهب إليه الجميع، فنحن أمام عملٍ يحمل كلّ مواصفات التميّز والجودة وفرادة التغريد في سربٍ واسع ومزدحم بالطاقات السينمائية العربية، وشعرت بالارتياح لقراري بعدم الذهاب إلى الحفل، وكنت على وشْكِ لقائيَ بأمير فخرالدين وأشرف برهوم. ووجدْتُني أنا الشاب اليافع يتناقض مرآهُ وعمره مع مقدار التأنّي والشاعرية التي برزتْ خلال ما يربو على الساعتين من العرض، وبمجرّد ما ابتدأنا الحديثَ اكتشفت لديه صفاء الفكرة، سلاسة اللغة، قدرة السرد والمعرفة العميقة بأداته الإبداعية، وبالانتماء الفخور إلى معلّميه الذين يحملون أسماء مثل الإيطالي ميكيل آنجيلو أنتونيوني، الروسي أندريه تاركوفسكي، اليوناني ثيو آنغيلوبولوس، الإيراني عباس كياروستمي، التركي نوري بيلغي جيلان وغيرهم.

 ولاحظت خلال الحوار أنّ لملامحِ أمير فخرالدين ثباتاً يُشبه الحزن، وقد أثار ذلك فضولي، إذْ لماذا يعجز هذا الشاب عن الحبور الطبيعي لتواجد فيلمه الروائي الأول في أعرق مهرجان سينمائي في العالم، وهو ما يكفي، لكي يطبع على سحنةِ حتى الأكثر كهولةً، مثلي، ابتسامةً متواصلة؛ ينبغي التذكير بأنّ أمير فخرالدين كان سعيداً للغاية لوجوده في المهرجان، لم يكن حزيناً لوجوده هناك، بل كان كذلك لأنّ حزنَهُ نتاجٌ طبيعي لذلك “الاحتلال المنسي” الذي يعيش في ظلّه، هو وأهله، منذ عقودٍ طويلة، احتلال الجولان الذي لا يتحدّث عنه أحدٌ وصار وكأنّه ليس قائماً.

لكن، ينبغي التذكير أيضاً، بأن فخرالدين لم يصنع في فيلمه بياناً أو مانيفستو سياسياً بحتاً، بل كتب قصيدة طولها 112 دقيقة، تروي وحدة الجولانيّين وعزلتهم، عبر وحدة بطله “عدنان” وعزلته (تُرى هل اختار هذا الاسم بالصدفة؟)

الغربة والفقدان

الفيلم هو جزء من ثلاثية وبطله "الغريب" في مجتمعه بينما الجزء الثاني بطله "الغريب" ما بين غرباء آخرين

الجديد: هذا أولّ فيلم يُنتج في الجولان المحتل، فعن ماذا يتحدث وما الذي يسرده؟ وما الذي يعنيه للسينما السوريّة والفلسطينيّة أيضاً؟

الفيلم يروي قصة شاب اسمه عدنان، وهو طالب طب متخرّج من موسكو، يمرّ بأزمةٍ وجودية لكونه لم يستجبْ لتوقعّات مجتمعه ولم يُلبِّ ما كان يترقبّه منه أهله، ووالده بالذات (يؤدّيه بصمت شبه متواصل وحضور لافت النجم الفلسطيني الكبير محمد بكري). تزداد حياته تدهوراً وانحداراً عندما تقوده الصدفة إلى لقاء شاب مصاب بطلقٍ ناري ما وراء الجدار العازل بيننا والوطن سوريا، ومُذْ تلك اللحظة، منذ أن يُقرّر إنقاذهُ، يبدأ عدنان رحلةً مليئةٍ بالمغامرة، يكتشف خلالها أبعاداً جديدة عن نفسه وعن كونه غريباً في مجتمعه.

من هذه الحالة ولد أيضاً اسم الفيلم، الذي يذهب إلى مناطق عميقة في دراسة الشخصية أكثر من الرغبة في إنتاج حكاية أو أن يتبع هيكلاً قصصيّاً معيّناً.

الجديد: لا أعرف ما إذا سبق لك وقرأت مسرحية “مهاجر بريسيان” لجورج شحادة، أم لا! هناك أيضاً ثمةَ قادمٌ مجهول إلى القرية من بعيد يقلب حياتها رأسًا على عقب، إلاّ أن الوضع هنا، في قصّتك، مختلفٌ، فالقادم ليس غريباً، كما سنكتشف، بل إنّ “عدنان” هو الغريب، المكان هو الغريب، الحالة غريبة، وكلّ شيءٍ، ممّا نرى، غريب، ماذا يعني “الغريب” بالنسبة إليك أنت الذي تعيش بعيداً عن الوطن، وآصرتك معه مؤسّسة عبر ما تعيشه عبر ذكريات، وعبر ما يُروي لك من قبل ذويك؟

ربّما سيكون من المفيد أن أروي لك عن واقع الجولان، المجهول للكثير من الناس للأسف، نحن نسميّ هذا الوضع بـ”الاحتلال المنسي”؛ هناك نصف قرن من الحياة في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي والكيان الصهيوني، وهذا ما نعانيه يوميّاً، وتكبُرُ معاناتنا مع مرور الوقت وتتطوّر وتتغلغلُ في دواخلنا أسئلةٌ جديدة كثيرة تدفعنا إلى التفكير. وتعمّق ذلك بالتحديد عندما اندلعت الأوضاع في سوريا وانطلقت الثورة السوريّة؛ كنّا نرى المناظر الخلابة للجولان المحتل، في ذات الوقت الذي نسمع فيه ضجيج الحرب وصخبها.

في البداية كانت هناك صدمة، وابتدأ الناس بالدخول في اكتئابٍ تدريجي، وهذا ما هو طبيعي عندما تعيش الحرب عن بعد، لدينا عائلات في سوريا عزلها عنّا الجدار الشائك، لذا فإنّ سماع صوت الحرب في خلفية تلك المناظر الخلابة، كان يزيد من الاكتئاب، وقد أثّر عليّ كثيراً ودفعني إلى إنجاز هذا الفيلم.

الجديد: هناك في الفيلم مفردات كثيرة، لكنّ أربعا من هذه المفردات تطفو إلى السطح بوضوحٍ كبير: “الدخان”، دخانُ الحرب والمواقد؛ “الضباب” الذي يتحوّل في بعض الحالات إلى ما يُشبه الممثل، يتحرّك ويُبلّل الغرفة؛ “الليل بظُلمته”؛ ومن ثمّ “الصمت”، والصمتُ هنا، في فيلمك، برأيي، أكثرُ فصاحةً من الكلمات، بالذات في فيلم تندر فيه الكلمات. تبدو الشخصيات بأسرها صامتةً، تُدقّق، تأتي بإيماءات ولحظات صمتها كلام، وإذا ما تكلّمت فهي تهمسُ. كيف جمعت هذه المفردات، وغيرَها، وكيف تمكّنت من الربط فيما بينها؟ وما هي المفردات الأخرى التي يجب أن يراها ويلمسها المشاهد من الفيلم؟

أشكرك لانتباهك إلى هذه التفاصيل ولذكرك لهذه العناصر كشخصيات في الفيلم، وقد جاء ذلك للتشديد على أهميّة المكان والزمان في نفس الوقت وتأثيرهما على الحالة الذهنية التي يمرّ بها البطل والشخصيات الأخرى، فعندما نتحدث عن هذا البطل، واسمه عدنان، الذي يعيش في ظلِّ أزمةٍ وجودية، فأنا أراه كبطل تراجيدي، وأراه أيضاً كبطل نوستالجي.

الجديد: بأيّ مفهوم؟

بمعنى أنّ النوستالجيا، غالباً ما، أو بالأحرى، هي لا تتّجه أبداً إلى المستقبل، فالنوستالجيا، لنقلْ عنها، هي بعدٌ يوتوبي، لكنّها متّجهة دائماً صوب الماضي، وهو، في هذه الحالة، شخصية نوستالجيّة. بإمكان النوستالجيا أن تكون حنيناً إلى بيتٍ كان موجوداً مرّةً، إلاّ أنّها، في الوقت ذاته، يمكن أن تكون حنيناً إلى بيت لم يسبق له الوجود، أبداً.

هذه هي حالة العزلة والغربة والفقدان الأعمق التي يمكن أن يمرّ بها إنسان، وهي ذات الحالة التي يعيشها “الجولان”، بهذه المساحات وبهذه الأبعاد السياسيّة، لكن بحالة حلم، وأنا أرى شخصية عدنان في حالة نوستالجيا الحلم في وطن ساحر أو سحري، لم يسبق له أنْ عَرِفَهُ، كما لا نعرفه نحن أيضاً؛ بهذا أحببتُ تجسيد الأمل، فضمن الواقع الذي نعيش في ظلّه، ما يزال لدينا أمل بواقعٍ أو بوطن سحري.

الأمل والمجتمع

Thumbnail

الجديد: الأمل برز منذ اللحظات الأولى في الفيلم. أوردُ لك جملةً قالها لي مرّةً المخرج الإيطالي الراحل الكبير إيرمانّو أولمي “عندما تكون هناك عاصفةٌ مهتاجة خارج منزلي وأسمع طرقاً على الباب وأفتحه لأرى أمامي شخصاً أغرقهُ المطر العاصف.. قبل أن أسأله عن اسمه أو من أين أتى، أرمي عليه بطّانية تقيه من البرد”. أنا شاهدتُ هذه الصورة في فيلمك عندما رفض عدنان التحقيقات التي أجراها أصدقاؤه مع الجريح ليعرفوا من هو ومن أين جاء وما هي أغراضه، وأقدم على تغطيته ببطّانية، والجريح نفسه يقول لعدنان “غطّيني! مُش عايز أموت بردان..”

صحيح أن  كل هذا الفعل، وهذه العلاقة تأتي من إنسان، يبدو في الظاهر فاقداً للأمل، لكنّه في الواقع مليءٌ بالأمل، ويكفي أن ننطر إلى آصرته مع ابنته والرسالة التي كتبها لها، وعلاقته مع هذا الشاب الجريح وإصراره على علاجه في كلّ الأحوال ورفضه تسليمه إلى المستشفى، أي بين براثن جنود الاحتلال، فإنّ كلّ ذلك يُدلّل على مقدار الأمل الذي يمور ويتحرّك في داخله، ويظهر ذلك بجلاء في الرحلة الأخيرة التي يقوم بها، والتي توحي إلينا، بجلاء أكبر، أنّه ذهب إلى المكان الذي سيستعيد فيه كلّ الأمل، وليس مجرّد جزءٍ منه، أهي قراءةٌ صحيحة، هذه؟

صحيحة مئة في المئة! بالضبط، فأنا أرى الشخصية مُركّبة من عدّة انعكاسات لشخصيات في المجتمع أو للشخصيات التي أنا أحبّها وأحلم بها، هو أيضاً حالمٌ وطموح، لكنّه مقموعٌ ومحاصر؛ لاحظْ، نحن العرب نستخدم دائماً صيغة “بَلَا أصل..!”، وتعني هذه الصيغة الكلامية أموراً كثيرة من بينها أنّ ذلك شخصٌ لا يُعتمد عليه ولا يُعتدُّ به، وأنّه نتاج بذرةٍ فاسدة وغير مثمرة، أو أنّ ثمارها ستكون مسمومةً.

في الفيلم حاولت أن أُلقي الضوء على ذلك، وإعادة التأكيد بأنّنا مجتمعٌ أبوي، مجتمع يؤمن بسيادة القطيع؛ لكنّ هذه البذرة، التي يراها البعض “خربانةً” تحوي بالتأكيد ثماراً ينبغي أن نفكّر جدّياً بمنحها فرصة ومكاناً في حياتنا.

الجديد: مجتمع الكبار في الفيلم يخرج كسير العظام حقيقةً، بعض الشخصيات الطاعنة في السن تبدو، حتى أثناء كلامها، كاريكاتيريّة وغير مُقنعة على الإطلاق. وحتى الأب الذي يُصرّ على حلب بقرةٍ ما عادت حلوباً ويرفض محاولات عدنان لعلاجها، ومع ذلك فإنّ عدنان يقول له “أنا لست عدوّك”.

بالإمكان أن نُشاهد في هذا الفيلم أكثر من جيل. نحن لدينا في العالم العربي عادة وراثة الحروب، نحن نَرِثُ حروباً ونورّثُ أخرى إلى من سيأتون بعدنا، وغالباً ما نُعامل الأجيال القادمة كما عُوملنا نحن من الأجيال السابقة، لا نجد أبداً جيلاً مّا يتحمّل مسؤوليته ويحمل على عاتقه تبعات ما فعل، أنْ يُعيد محاسبة الأشياء أو أن يُحطّم خرافات كثيرة.

وبالتأكيد ففي إصرار الأب وعناده في أنّ بقرته ليست مريضةً، وليس ما تعانيه من جدبٍ إلاّ نتاجاً للـ”صقعة”، محاكاة ومحاولة تأكيدٍ لخيبة آماله وللتوقّعات التي كان يترقّبها من ابنه، وهي آمالٌ وتوقّعات بنتها وجهة نظره، أنّه يُصرّ على أنّ ابنه ليس طبيباً، وهو ليس إلاّ شخصاً مُخيّباً للآمال ولا شيء أكثر من ذلك، لذلك فإنّنا نرى بأنّ هناك بين عدنان وما يُحيطهُ، دائماً، بونٌ وبعدْ شاسعين حاولت إظهارهما: إنّه البونُ بينه وبين أبيه، بونٌ بين جيلين، بين الجولان المحتل وبين الوطن الأم سوريا، وفيه أيضاً البون الذي يختاره “عدنان” نفسه بالابتعاد عن زوجته وابنته، لذلك فما الذي يُمكن أن نتوقّع أن يُنتج هذا الوضع! وهذا هو ما حاولت إبرازه في الفيلم.

مدارس سينمائية

Thumbnail

الجديد: أمير فخرالدين، لو قلت لك آندريه تاركوفسكي، فبماذا تُجيب؟

رائع، “غاد فاذر” العرّاب، عرّاب السينما. أنا متأثّر كثيراً ليس بتاركوفسكي لوحده، بل أيضاً بالإيراني عبّاس كياروستمي واليوناني ثيو آنغيلوبولوس والتركي نوري بيلغي جيلان وبالمايسترو الإيطالي ميكيل آنجيلو أنتونيوني؛ أهميّة هذه السينما بالنسبة إليّ هي بذات الأهميّة التي لأي فنٍ آخر، في التأثير بالفنان وإلهامه وتطوير رؤيته عن الحياة. أنا شخصيّاً أنظر إلى ذلك التأثّر كمهمّةٍ تُفضي بي إلى الانفتاح على آفاق وحضارات مختلفة وتُساعدني أيضاً على فهم طبيعة الإنسان.

ما أخذته، في هذا الفيلم، من هؤلاء المعلّمين الذين ذكرتهم، لم يكن عبر الصورة فحسب، بل أيضاً كيفية بلوغ ناصية الاهتمام والعناية بالنتيجة وليس في السبب لوحده؛ كيف أُعامل، أو أحاول معاملة النتيجة وليس السبب.

أغلب الأفلام التي نشاهدها اليوم من السينما التجارية تُعنى بالسبب وتحاول أخذه لتُركّب فوقه موجة من “المواقف المسبقة” ولا تُقدّم، في خاتمة المطاف إلاّ “موقفاً مُسبقاً” آخر، أُسِّسَ على السبب الذي اعتمدته في قراءة الحالة.

ما أخذته من المخرجين الكبار، أو من تأثّري بالسينما الروسيّة أو الإيرانية، هو الفهم العميق لمعالجة النتيجة سينمائياً، وهنا أعني بالنتيجة “الشخصية”، أي دراسة تلك الشخصية من خلال استخدام الوسيط السينمائي والعلاقة الجدليّة القائمة ما بين الصوت والصورة.

مهمٌ ما نراه من فعلِ التبادل الثقافي الذي يحدث في المهرجانات التي تُشكّل جسراً يُوصل ما بين الحضارات

الجديد: بالإضافة إلى هذه المدارس والقامات العالية في السينما، ثمةَ في عملك حضور كبير للفن التشكيلي، بالذات في تكوين الصورة التشكيليّة، لديك في الفيلم مشاهد تبدو وكأنّها لوحة مرسومة، فاللقطة التي نرى فيها “عدنان” جالساً إلى الطاولة وهو يشرب وأمامه شمعة متّقدة، تبدو لوحةً، واللقطة التي تدخل عليه خلالها ابنته وهو يُلقم النار في  الموقد بقطع الخشب، وتجلس إلى جواره، ثم تضع رأسها على كتفه، هي لوحةٌ أخرى، يبدو فيها كلّ شيء وكأنّنا أمام لوحة واقعية مئة في المئة، وهناك تكوينات كثيرة تبدو مستفيدة من رسوم عصر النهضة، فكم استفدت من الفن التشكيلي بشكلٍ عام، لرسم صورتك؟

بالتأكيد أنا متأثر بالفن التشكيلي وبعصر النهضة، وفي نهاية المطاف فإنّ تطوّر الفن على مدار العصور هَدَفَ دائماً إلى خدمة الحالة الإنسانيّة، وكان توجّهي يستند على إمكانية تأطير هذا الفيلم بسلسلة من البورتريهات، أي أنْ تكون كل لقطة عبارة عن بورتريه لحالة معيّنة، تخدم السرد.

كان ذلك هو المحرّك الأساسي الذي دفعني إلى اختيار هذه اللغة، لأنّها لغة تحترم المكان والزمان والشخصية الموضوعة في هذا الإطار، وهذا ما أنتج ما تحدّثت عنه أنت، أي الإحساس بأنّك تشعر وكأنّك تُشاهد لوحةً، أردتُ أن يُعطي الإيقاع الصوري مساحة  الرؤية هذه وألاّ تُفرض على المشاهد بالقطع المفاجئ.

الجديد: الآن أنت في فينيسا، وفي برنامج مهم هو “أيام المخرجين في فينيسيا”، وهو برنامجٌ مهم كبرنامج “نصف شهر المخرجين في كان”، فماذا يعني بالنسبة إليك الحضور هنا بفيلمك الروائي الأول، وهو الأول الُمنتَجُ في الجولان المحتل.. وما هي انشغالاتك المقبلة، بالتأكيد تختمر في ذهنك العشرات من الأفكار، لكن ما هي الفكرة الأولى التي ستشتغل عليها بعد بلوغ  إحداثيّة هذا الفيلم نهايتها؟

بالتأكيد، أنا سعيدٌ للغاية بتواجد الفيلم في هذا البرنامج وفي مهرجان فينيسيا، إنّه حدثٌ مهم في حياتي وفي بداية عملي. أنا سعيد وأشعر بأنّ هذا المكان هو المكان المناسب لهذا الفيلم، ومهمٌ جداً ما نراه من فعلِ التبادل الثقافي الذي يحدث في المهرجانات، وأعتبر نفسي محظوظاً بوجود هذه المهرجانات التي تُشكّل عملياً جسراً يُوصل ما بين الحضارات وتوفّر المنصّة التي تُتيح لك مشاهدة العديد من الثقافات والأفلام المختلفة والتطّلع على تجارب مبدعيها.

هذا الفيلم هو جزء من ثلاثية، وقد انتهيت من كتابة الجزء الثاني منه وسنبدأ بتصويره العام المقبل. في هذا الفيلم تحدّثنا عن “الغريب” في مجتمعه، أمّا في الجزء الثاني فسنتحدّث عن “الغريب” ما بين غرباء آخرين، وسيتحدث عن لاجئ سوري يعيش في مدينة ألمانية.

ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

11