أمكنة الخيال الشعري تختصر عالم الشاعر سيف الرحبي

يكتسب المكان أهمية قصوى في الأدب، وإن كان عنصرا أساسيا في السرد خاصة، فإنه كذلك من ركائز النص الشعري، الذي يظهر فيه وإن متخفيا بتفاصيله، وإن أوفى الناقد الفرنسي غاستون باشلار في بحوثه حول أهمية المكان في النصوص الأدبية، فإن هذا العنصر ما زال فاتحا لأسئلة كثيرة اليوم.
عبر مقدمة وثلاثة فصول تتوزع على ثمانية محاور، تتناول الشاعرة والدارسة فاطمة الشيدي بالقراءة والتحليل تجليات المكان في تجربة الشاعر سيف الرحبي، في كتابها الجديد “جغرافية المخيلة” الصادر حديثا عن دار الانتشار العربي ببيروت.
وتبدو أهمية المقدمة في أنها تشكل مدخلا مهما لاستقراء الخلفية التي تنطلق منها، في دراسة المكان ودوره في تشكيل التجربة الشعرية، باعتبارها واحدا من أهم الروافد، التي تتغذى منها هذه التجربة، أو ذاكرة النص التي تتموضع فيها الصور والأحاسيس في بؤر غير مرئية، تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة بصورة دالة، تمنح النص هويته.
مخيلة المكان
إن المكان في منظور الشيدي هو أحد أشكال الانتماء التي تربط الشاعر بنصه، انطلاقا من دراستها لعلاقة المكان باللغة، كما تتجلى في تعدد اللهجات واللغات وتعدد الألوان والملامح الشخصية، وتظهر في الاختلاف بين أهل الجبل وأهل السهول، ما يجعل من الشعر منذ القديم مرآة لعصره.
وتحدد الشيدي أهداف الدراسة في الوقوف على حضور الجغرافيا الواسع والمهيمن في المخيلة الشعرية للشاعر الرحبي، كما تجلت في نصوص أعماله المختلفة. وترى أن أثر المكان في هذه التجربة يظهر في احتفاء قصيدته المبكر بالذاكرة المكانية بدءا من سيرة الطفولة والمكان والحلم، حيث يؤثث الشاعر بيت قصيدته بغوايات الجسد وجحيم الروح، لكن العلامة الأبرز تبدو في تمثل المكان العماني بقوة نظرا لما يحمله من تناغم وغنى وتباين في معطياته الجغرافية، التي يسعى الشاعر عبرها إلى أنسنة هذا المكان وتأنيثه.
الشاعر يؤثث بيت قصيدته بغوايات الجسد وجحيم الروح، لكن العلامة هي تمثله للمكان العماني وما يحمله من تناغم وغنى
وتحاول الباحثة الاستدلال على القيمة الخاصة للمكان في تجربة الشاعر من خلال حركته الواسعة في المكان، وتنقله بين مدن وجغرافيات مختلفة، ما جعل المكان يشكل تكوينا نحتيا مهما في ذاكرته، كعنصر من عناصرها التي شكلت ذاته الإنسانية وذاته الشاعرة، ما جعل المكان يتحول إلى نص والنص خارطة لكل الأمكنة. لكن المكان في بداية التجربة كما تراه يراوح بين تشكيليتين جغرافيتين متباينتين، تتمثل الأولى في تشكيلة جبلية ومائية خبرها منذ الطفولة وظلت تظهر في نصوصه الأخرى على شكل أودية وشعاب وقرى معلقة على رؤوس الجبال. ويأتي التشكيل البحري تاليا من خلال صور الطبيعة المالحة والممتدة. وتلح الشاعرة على علاقة الطفولة بالمكان من خلال الحضور المكثف للطبيعة الأولى في نصوص أعماله المختلفة.
ويظهر الملمح الآخر للمكان في هذه التجربة بصورته المتحركة عبر صور ديناميكية وفعل مكان متحرك، في حين يتخذ طابعا ماهويا في هذه العلاقة التي يتوحد فيها مع المكان. أما على مستوى التشكيل الشعري فإنه يكشف عن الحضور غير المباشر للمكان، والذي تمحي فيه الفواصل بين المحتمل وغير المتوقع، إضافة إلى البعد السينمائي للصورة المكانية والغرائبية التي تمنح المكان خصوصية الحضور.
المدينة والبحر
مع أن ثمة اختلافا بين المكان المديني والبحر على المستوى الجغرافي والدلالي إلا أن الشيدي تحاول أن تجمعهما معا في عنوان واحد، على غرار استخدام مصطلح الفضاء النصي الذي يتكرر كثيرا في دراستها. فالمدينة التي يستنطقها الشاعر تتجلى في صور ودلالات كثيرة تعكس طبيعة العلاقة معها وما ترمز إليه على المستوى المحلي والعالمي، وهو ما كان يقتضي التفصيل فيه. إن المدينة كما تجدها عند الرحبي هي ملاذ وغربة في آن معا، فهي مزيج من الجمال والقبح والقسوة، لكن ما سكتت عنه الدراسة أن المدينة هي رمز لقيم الاستهلاك وعلاقاته، وقبل هذا هي مدينة مختلقة، وبلا هوية في عالم الصحراء.
وفي دراستها للبحر تكشف عن العلاقة بين الجبل والبحر، لكنها لم تحاول أن تتناول دلالاته في ضوء هذه العلاقة، وما تحمله من معان. وتبرر الشيدي علاقة المدينة بالبحر بأن الأخير كان ملاذا يهرب إليه من المدينة. لكنها تنتقل إلى تقديم قراءة إحصائية للثيمات المكانية في أعمال الشاعر المختلفة، في حين أنها تنتقل تاليا إلى دراسة الملامح الفنية للمكان في هذه التجربة بدءا من دراسة الصورة الفنية بأشكالها المختلفة البصرية والسمعية والحركية، لكن كان يمكن أن تتناول الصورة ببعديها الساكن والمتحرك مقابل الصورة البصرية والسمعية.
تتناول الباحثة المكان ببعديه الواقعي كما يظهر في الجانب اللوني، بينما تتداخل الصورة الغرائبية مع الأسطورية لترسم ملامح مكان متخيل. وتنطلق الكاتبة في دراستها للصورة من العلاقة بين الخارج والداخل، ثم تبرز أهم ملامح المكان البصرية في أبعادها اللونية المختلفة، وتقوم بتحليل لأبعادها الفنية وما تنطوي عليه من حيوية في الحركة، كان يجب اكتشافها من خلال الاستخدام المكثف للأفعال المضارعة في القصيدة. لكن الدارسة تخلص إلى نتيجة مهمة هي تداخل مستويات الصورة، وهو ما تفرد له جدولا خاصا.
تبحث الشيدي في مرجعية الصورة من خلال علاقة الشاعر القوية بالأسطورة التي تشكل ميراث الأجداد، إضافة إلى علاقته بالطبيعة، التي يحاول أن يكتنه من خلالها المجهول والغامض والقصي من حياة تملكت عليه روحه.
وتضيف أن معظم نصوص الشاعر توظف الدلالات الطبيعية والمكانية نفسها، وتبني صورها وأساطيرها من المألوف والعادي الحسي أو المتخيل. وتنتقل فجأة إلى دراسة المهيمنات الأسلوبية انطلاقا من رؤيتها لنصوص الشاعر، بوصفها متباينة ولا تأبه إلا لسياقها الداخلي، ما يجعلها تجمع بين الخبر والإنشاء الطلبي والنهي والاستفهام والنداء والتعجب، إضافة إلى القسم، وإن كان النداء كما ترى يمثل السمة الأبرز في نصوصه، بينما يشكل الاستفهام حالة استنفار لذاكرة الشاعر وروحه، من خلال جدل العلاقة بين المكان والقصيدة.