أمشي ثم أمشي ثم أمشي

"إني أمشي لكي لا أبكي”.. عبارة وردت في أحد مؤلفات الكاتب الأميركي هنري ميلر، فأجدها حقيقة أتوقف عندها صباحا مساء، وأنا أمشي، خصوصا في النهارات التي يبللها رذاذ المطر فيمحو دموعا قد تلتمع غصبا عنك أو يموّه عنها أمام المارة على الأقل.
أمشي لا حبا في هذه الرياضة التي يلجأ إليها البدينون لإنقاص الوزن وعملا بنصائح الأطباء، ولا رغبة في إراحة كراسي السيارات والمكاتب والصالونات خلفي كما يفعل الميسورون والأثرياء. لا أرافق إلا نفسي، أمشي وحدي، وليس مثنى أو ثلاثا أو رباعا كما يفعل المشاؤون من أتباع أرسطو في مدارس فلاسفة الفلاسفة الإغريق.. لا شك أن أغلب هؤلاء كان من الثرثارين. أمشي لا للتمتع بما يسر الناظر في شوارع ليس فيها ما يسر الناظر ولا السامع بل على العكس، فإن هذا الكم الهائل من الضجيج والتلوث السمعي، يتيح لي التحدث بحرية إلى نفسي، وبصوت عال مصارحا ومعاتبا ومخاصما في أحيان كثيرة. إنني أمشي كي لا أصل إلى أي وجهة، وغالبا ما ينتهي بي الطريق، بعد خصام طويل، إلى بيتي وقد عقدت “هدنة” مع نفسي.. هدنة تنتهي صباح يوم الغد، حالما أنتعل حذائي وأخلع البيت خلفي لـ”أجهش” بالمشي مرة جديدة هربا من البكاء.
المشي يجعلني أسابق ما يتقافز في ذهني من أفكار تشبه الضفادع المزهوة بنفسها في بركة آسنة، إنه يشعرني بالحرية التي لا تعترف إلا بالحركة حتى وإن جسدتها التماثيل الثابتة في الساحات وفوق المباني الشاهقة.
أحسد الذين يمشون في نومهم، ذلك أن في الأمر مزجا لذيذا وممتعا بين الحلم والتفكير والحركة دون أن ترى إلا من تقرر أن تراه.. ثم أن هذا النمط من المشي عادة ما يكون في بدلة النوم ودون حذاء يعكر إيقاعه صفو مزاجك الرائق أو حتى المتشنج.. المهم ألا يكون سريرك قبرا مؤقتا وألا يصبح نومك مجرد “بروفة للموت”.
أشفق على الذين لا يعيشون المشي، ولا يمارسون هذه الغريزة إلا في الجنازات والملاعب الرياضية والأسواق التجارية أو حتى في النزهات العاطفية البلهاء. أضحك لآلات المشي في صالات التنحيف.. أحس أن أغلبية ممتطيها ـ في ثباتهم وهم يلهثون ـ يشبهون صغار الموظفين من ذوي الراتب المحدود في المجتمعات العربية.
وبالإذن من الشاعر سميح القاسم، والمغني مارسيل خليفة، لم يطلب منك أحد أن تمشي “منتصب القامة” ولا “مرفوع الهامة” ولا أن تحمل “قصفة زيتون” وأنت تمشي، ولكن امش كي لا تصدأ أفكارك، وتبهت مشاعرك فتمسي كائنا صوتيا لا يبرح “الأفكار الحشايا” ولا تجفف دموعه نسائم الصباح الذي قيل إنه سوف يأتي.