أل هيلد المسافر بين العاطفة والعقل

لم يعامل الفنان الأميركي أل هيلد المكان كما تعامل معه غيره من الفنانين التشكيليين، وخاصة رواد التجريد الذين تأثر بهم، بل حرره من المفاهيم السابقة محاولا تفكيكه وإعادة تشكيله والتفكير في صياغاته الأولى الممكنة، مضفيا عليها بعدا هندسيا يجعل لعبته الفنية الجمالية مختلفة.
في المعرض الاستعادي للرسام الأميركي آل هيلد (1928 – 2005) الذي يقيمه متحف وايت كيوب في لندن بعنوان “عن الفضاء”، هناك نمط جديد من التفكير في المكان من جهة الرغبة في تفكيكه من أجل إعادة اختراعه حجما ومساحة وألوانا وصولا إلى القبض على الخصائص التي تميز علاقتنا به.
الرسام من خلال إعادة المكان إلى عناصره الأولية يلج بنا إلى خفته بالرغم من كل ما يحيط علاقتنا به من تعقيد يجعله ثقيلا، ولذلك فإن أسلوبه يحتمل تسمية “التجريد المكاني” لتكون هناك مسافة تفصله عن التجريد البارد أو الصافي أو الخالص.
في بحثه عن الفضاء يمر آل هيلد بمختلف أنواع التحديات التي يفرضها المكان من صلابة وتماسك واكتظاظ وكثافة. وبالرغم من صعوبة الوضع الذي صنعه نقاد الفن وهم يصنفون فنه جزءا من التعبيرية التجريدية الأميركية رائدا في جيلها الثاني فإنه شق طريقا مستقلة لفنه مندفعا في اتجاه فهم الحجم والفضاء. ذلك ما جعل النقاد يعيدون النظر في تقييماتهم للنتائج الفنية التي توصل إليها بحيث وُضع أل هيلد في مكان ريادي كونه صنع للتجريدية هيكلا وأنقذها من استرسالها في ضبابيتها. وهو ما يُذكر بالنسبة إلى النقاد بنجاح الفرنسي بول سيزان في استدراج المدرسة الانطباعية إلى قفص رؤيته الهندسية للعالم. مع سيزان انتهت نظرية المنظور واستبدلت بنظرية الأجسام الهندسية أما مع هيلد فقد صار التجريد مرتبطا بالرؤية التي تهب الفضاء حجما هندسيا.
فضاء يضيق ويتسع
“إن أفضل لوحة تجريدية تحول صفاتها الشكلية إلى استعارات للحقائق غير المتاحة للإدراك البشري” يقول أل هيلد. حين يرسم هيلد منظرا طبيعيا -وهو نادرا ما يفعل ذلك- فإنه لا يستجيب لهيئة الأشكال التي يراها بل يبحث عن أصولها الهندسية ليستنبط منها أصولها العقلية قبل أن تتحول إلى مادة طبيعية بالمعنى الذي ينهي قطيعتها الشكلية ليجعلها جزءا من كل.
في رسومه الكبيرة المنفذة بالأسود والأبيض تبدو تلك العلاقة أكثر وضوحا. لا يكمن ثراء تلك اللوحات في الدراسات الأولية التي يجريها الرسام على الورق تمهيدا لرسم لوحاته بالأكريلك على القماش. تلك فكرة تروع أل هيلد لما تنطوي عليه من سذاجة واستسهال. فالرسام يستخرج أشكاله الهندسية من أعماق المشاهد الطبيعية التي هي ملهمته في عودة منه إلى عناصر البنية الداخلية لتلك المشاهد. وهي بنية تركيبية تقع في منطقة يتسع فيها معنى التأمل ليضم التفكير إلى وسائله التنفيذية.
بالنسبة إلى الفنان أل هيلد لا تأمل من غير تفكير، أي لا قيمة للتأمل السلبي. وفي ذلك تتزامن المتعة البصرية مع قناعة عقلية تكون في النهاية هي الأساس في إنتاج الصورة. فهل يمكن الحديث عن صورة تحضر كاملة البناء؟
تطور مفهوم الصورة لدى الرسام الأميركي حسب المسافة التي تفصل بين ثقته بالوعي وتسليمه بقوة اللاوعي. وهي المسافة ذاتها التي تحكمت في ما بعد بعلاقته بالفضاء. بموجبها يضيق الفضاء من حوله ويتسع.
تحرر من وصف الواقع
لمَ لا يكون أل هيلد رساما واقعيا؟ يعيدنا ذلك السؤال إلى كتاب “واقعية بلا ضفاف” للمفكر الفرنسي روجيه غارودي. ولكن المقصود هنا شيء آخر. يحيلنا السؤال بطريقة مواربة إلى خزين المؤثرات الفنية التي خضع لها الرسام الأميركي في مرحلة مهمة من حياته العملية.
يجمع نقاد الفن على أن هيلد الرسام الأميركي الذي انحاز كثيرا إلى قوة التعبير في بداية حياته كان قد سُحر بالزخرفة العربية والعمارة الباروكية يوم عاش جزءا من شبابه في توسكانا بإيطاليا.
واقعية هيلد لا تمت بصلة إلى المفهوم المدرسي المتعارف عليه بل هي تتصل بالواقع الذي كانت المؤثرات الجمالية التي شغف بها جزءا منه. خلص هيلد في علاقته بالفضاء إلى تكريس الطابع الهندسي الذي هو عامل مشترك يعيد المرئيات إلى أصولها كما أنه في الوقت نفسه يطلقها من قيودها الشكلية لتكون جزءا من الفضاء اللامتناهي. المكعب أو متوازي المستطيلات ليس مجرد مفردة شكلية يبدأ منها ومن خلالها الرسام لعبته الجمالية. إنه اللبنة الأولى التي يتأسس عليها عالم الرسام الذي لا يتصف بأحاديته.
هو عالم يغري المشاهد بالتفكير في اتجاهين. الاتجاه الأول ينفتح على الفضاء بتكويناته المعقدة التي سعى الرسام إلى تبسيطها من أجل استيعاب مسراتها البصرية، والاتجاه الثاني يحتفي بعناصر الرسم التي تحررت من وصف الواقع واستقلت بخصائصها يوم فرض التجريد درسه الجمالي بديلا عن درس التشخيص ونقل صورة الطبيعة كما هي أو كما يراها الناس في حياتهم العادية.
وبالرغم من هيمنة الأشكال الهندسية على لوحات هيلد -وهو الذي درس الرسم في باريس حين كانت مدرسة باريس في أوج سطوعها- فإن عالمه لم يفك ارتباطه بتعبيرية غامضة، تحضر غنائيتها باعتبارها عنصر إذابة لصرامة الرؤى الهندسية الباردة.
لقد عاصر هيلد تجارب كبار فناني التجريد البارد وتأثر بهم غير أن تفكيره في الفضاء اللامتناهي دفعه إلى تجاوز تلك التجارب من خلال التسريع في عملية الاحتواء المزدوج التي شكل الإيقاع فيها عاملا مشتركا يجمع بين الطبيعة والخيال. ففي الوقت الذي يشعر المرء فيه وهو يقف أمام إحدى لوحات هيلد بأنه يقوم بنزهة كونيه فإنه لا يكف عن استحضار مشاهد طبيعية تحول ركامها البصري إلى مجموعة من الصور الخيالية المتلاحقة.
تعيدنا تجربة الفنان الأميركي أل هيلد إلى مفهوم الانسجام الكوني الذي سبق أن تم طرحه في ما يتعلق بالشعر الذي كتبه كبار الشعراء. لا يخطئ الرسام طريقه في اتجاه الوحدة البصرية التي تتألف من جزأين، مرئي ولامرئي. وبتكامل الجزأين يصل الرسم إلى غايته. العالم وقد امتزجت عاطفته بعقله ليتمكن من السيطرة على جنونه. الرسام هو الآخر مسؤول عن السيطرة على الكون كما لو أنه كان حارسه.