أليف شافاك ترصد تناقضات المجتمع الإسطنبولي

الأحد 2016/06/05
كاتبة مولعة بالأطعمة التركية وصاحبة انحياز نسوي

تحظى الأديبة التركية أليف شافاك بمكانة مرموقة وسط الكُتَّاب الأتراك فهي توصف بأنَّها مِن أكثر الكُتّاب -على الإطلاق- مَبيعًا، حيث تحقّق رواياتها أرقامًا قياسية في التوزيع.

المكانة التي حظيت بها أليف جعلت أورهان باموق الحاصل على نوبل عام 2006 يقول “إنها أفضل من كتب الروايات في هذا العقد”. في أعمال أليف شافاك -على كثرتها- ثمة اختلافات عن أقرانها من الكتّاب الأتراكزومن بينهم أورهان باموق ويشار كمال وإسكندر بالا.. إلخ، حيث هاجس الأقليات وتعدّد الهويات ملازم لها في معظم كتاباتها بلا استثناء وهو ظاهر بصورة لافتة في أعمال “لقيطة إسطنبول” (وهي الرواية التي حوكمت بسببها) و”شرف” و”الفتى المتيم والمُعلِّم”، وأخيرًا روايتها “قصر الحلوى” وهي الرابعة في مسيرتها الإبداعية، وقد حققت أعلى المبيعات وقت صدورها في تركيا.

وإزاء هذا الإلحاح في معالجاتها لمعاناة الأقليات، تعرضت للملاحقة القضائية حسب الفقرة 301 من القانون التركي؛ لتعرضها لقضية الأرمن.

تصالح الهويات

ولدت أليف شافاك في عام 1971 بمدينة ستراسبورغ، وتحمل لقب أمها شافاك أتيمان، وليس أليف بيلغين؛ بسبب أنّ والديها انفصلا وهي في السنة الأولى من عمرها، وتعيش متنقلة بين لندن وباريس وأميركا، تكتب في الفترة الأخيرة أعمالها باللغة الإنكليزية مباشرة، وهو ما يصيب كثيرا من عباراتها التي تقصدها أثناء الترجمة بتحريف المعنى الذي تقصده في لغتها الأصلية، خاصة في وصف أنواع الأطعمة والعادات الاجتماعيّة على نحو ما حدث في رواية “شرف”، وكذلك بخصوص ما أوردته من عادات وتقاليد في تجربتها اللافتة عن الحمل والولادة في نص “حليب أسود”.

كما أن أثر الثقافة التحتية منسرب بغزارة داخل نصوصها، وهذا الاطراد -مع الأسف- يشكِّل نسبة كبيرة من وعي النساء اللاتي يؤمنّ به إيمانًا إلى حدِّ التقديس، كما عبّرت في شخصية مريم وما انتابها من هواجس أثناء الحمل.

تتسم كتابات شافاك بالولع بالتاريخ، ففي معظم كتاباتها يكون التاريخ هو الخلفية الأساسية للرواية، ومن ثم لا يتم فهم مغزى حكايتها إلا بقراءة وفهم الدلالات السياسية والثقافية لهذه المرجعية التاريخية، وفي بعض الأعمال تزاوج بين الماضي والحاضر كما فعلت في رواية “عشق” أو “قواعد الحب الأربعون” حسب الترجمة الإنكليزية، حيث زاوجت بين عصر جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي وعصرها الحديث، عبر حكايتيْن عن العشق.

كما أن معظم أبطالها ثمة ماضٍ يخايلهم ويزاحم حاضرهم وهو ما يصيبهم بالتوتر، فيقع الأبطال في أحبولة الصراع بين الماضي الذي ينتمون إليه، والحاضر المتورطين فيه. كما لا يغفل قارئ أليف شافاك هيمنة ثيمة الشتات أو الهروب من الواقع بكافة إشكالاته وإكراهاته هي محور مهم في أعمالها أيضًا، فأبطالها دومًا مغتربون عن أوطانهم أو مدنهم الأصلية، مع تنوِّع أسباب الهجرة بين الخشية من الاضطهاد السياسي كما في رواية “قصر الحلوى” فالزوجان مهاجران روسيان بعد الثورة البلشفية، ووالدا سيدار هاجرا أيضًا طالبين اللجوء السياسي، أو تجنبًّا لفضيحة أخلاقية (كما في “لقيطة إسطنبول” و”شرف”) أو بحثًا عن عمل أو حب (كما في روايتي “عشق” و”لفتى المتيم والمعلم”).

كما في معظم كتابات شافاك ثمة ولع بالأطعمة التركية التي تؤكِّد انحيازًا نسويًّا للمطبخ التركي، فتقدِّمُ هنا وصفًا تفصيليًّا لعمل العاشوراء، علاوة على أنواع من الأطعمة والحلوى التي تشتهر بها المناطق المختلفة في تركيا

سردية كبرى

في روايتها “قصر الحلوى”، التي ترجمها محمد درويش وصدرت عن دار الآداب ببيروت 2016، وهي الرواية التي سبق أن ترجمها عبدالقادر عبداللي بعنوان “قصر القمل” وقد صدرت عن دار قُندس للنشر والتوريع في سوريا، تعود أليف شافاك إلى مدينة إسطنبول؛ المدينة التي كانت حكاياتها محورًا لرواياتها السابقة “لقيطة إسطنبول” و”الفتي المتيم والمعلّم” و”شرف”، لكن هذه المرة تُقدِّم توليفة من سكان المدينة الأوائل الذين سكنوا فيها حيث كانت إسطنبول مدينة جاذبة لكافة الجنسيات الروسية والرومانية واليونانية والإيطالية، وأيضًا حاوية للتعددية الدينيّة والإثنيّة، يعيش الجميع في إهابها دون خوف أو ترويع، حتى تحلّلت المدينة من سماحتها رويدًا رويدًا، وحلّت بدلا منها المُغالاة والإقصاء والنعرات الطائفية والدينيّة والأيديولوجيّة وهو ما جعل المدينة تفقد طابعها الذي ميّزها، حتى أضحت بمثابة “المدينة التي اشتهاها العالم” كما وصفها فيليب مانسيل.

وهو الإحساس الذي سَرى إلى كلِّ القادمين إلى المدينة إسطنبول، فأصابهم بالخيبة والصدمة، فناديا التي جاءت مع متين تشتين جوز، اكتشفت أن المدينة ليست كما توقعت، ومريم التي اتخذت قرارًا بالمجيء إلى إسطنبول وتزوجت من موسى لسوء الحظ، بدلاً من انتظار عيسى تشعر أن الأمور “لا تسير وفق ما تشتهي”، حتى غابا كلب سيدار الذي جاء به من سويسرا، أُغمي عليه في الطريق ما بين سويسرا وإسطنبول، وعندما وطئت قوائمه أرض إسطنبول “كانت أعصابه في غاية التوتر”.

لا تقدِّم أليف شافاك حكاية كلاسيكية بسيطة، وإنما هي تتأسَّى في كتاباتها بالسَّرديات الكُبرى مثل “ألف ليلة وليلة”؛ حيث الرواية الواحدة زخم من الحكايات المتناثرة والتي تشكِّل قراءتها عالِمًا متكاملاً، فتعمد في بنية روايتها “قصر الحلوى” إلى المنمنات وتوالد الحكايات؛ فالرواية أشبه بحكاية منسوجة ومضفورة عبر أساليب حكي تشحذ الذهن وتشغله دومًا لربط المقدمات بالنهايات التي تأتي مفاجئة وغير متوقعة.

ومن ثمّ الرواية لديها أشبه بالقماشة أو قطعة النسيج التي تغزل منها حكايتها، وهو ما يجعل الزمن في معظم روايات شافاك يتسم بالتشظي والمراوحة بين عدة أزمنة في وقت واحدة، فالسّرد يتنقل بين الماضي والحاضر وأيضًا يقطع الحاضر عائدا إلى الماضي البعيد، ليس بهدف التشتيت بقدر ما هو إعطاء الحكاية نوعًا من التوثيق وإضفاء البعد الواقعي رغم أن الحكاية منبتها الخيال.

كما لا توجد شخصية من شخصياتها إلا ولها تاريخ قد يوغل في الزمن وهو ما يُسهم في خلق أبعادٍ نفسية للشخصية؛ وهو ما يجعلها تتراوح بين الشخصية الإشكالية والضدّ، وكذلك الشخصيّة السّلبية بتعريفها البسيط كما هو واضح في شخصية الراوي الذي يسكن في شقة 7، فهو سَلبيّ إلى حدّ أن أثيل صديقته تتحكم في كلّ شيءٍ في حياته.

وبعضها يصير أشبه بالشخصيّة النمط وهو ما تمثِّله شخصية حاجّي حاجّي بما يرويه لأحفاده من حكايات تمزج بين التاريخي والأسطوري. إضافة إلى تدبيج النص بحكايات خرافية تعكس سيطرة البني التحتية على ثقافة قطاع عريض من المجتمع التركي الذي ينشدّ إلى تراثه مهما بلغ التطوّر الحضاري أَوْجه.

كما في معظم كتابات شافاك ثمة ولع بالأطعمة التركية التي تؤكِّد انحيازًا نسويًّا للمطبخ التركي، فتقدِّمُ هنا وصفًا تفصيليًّا لعمل العاشوراء، علاوة على أنواع من الأطعمة والحلوى التي تشتهر بها المناطق المختلفة في تركيا، كحلوى الفستق، والحببة والأرز باللبن وغيرها.

"قصر الحلوى" فضاء الذكريات والآلام والهويات المتصارعة والمتصالحة

لا تقف أليف شافاك في روايتها عند حكايات أصحاب الشّقق وماضيهم المتأزّم الذي لوّث حاضرهم بالقلق والريبة مِن كلّ شيء، وإنما تُناقش مسائل فلسفيّة على لسان أبطالها كالقدر والحظ، ومفهوم الإيمان والصّبر والاعتقاد في أولياء الله الصّالحين، وأيضًا الإيمان بالجن والعفاريت وتأتي مناقشاتها عبر اختبار أبطالها لهذه المقولات، ومدى ترجيحهم لها، وأيضًا وفق آراء كبار الفلاسفة مثل كيركجار وجان جاك روسو وغيرهم.

قصر الحلوى

مبنى قصر الحلوى الذي اختارتْ مكانه الزوجة؛ لمّا شهد وفاة طفلتها الوحيدة، تتخذه الكاتبة بنية مكانية تدور فيه أحداث روايتها. فتقدم لقارئها تاريخ إنشاء القصر الذي شيّده مهاجر روسي هو بافيل بافلوفيتش أنتيبوف، لزوجته أغريبينا فيودروفنا أنتيبوفا، بعدما لاذا هما والآلاف من الروس بإسطنبول هربًا بعد الثورة البلشفية، وعملا في أعمال دنيئة بعدما ضَاع ما لديهما مِن أموال، وما أنْ فَقَدَا طفلتهما قبل أن يحتفلا بعامها الأوّل، هاجرا إلى فرنسا بعيدًا عن شرور إسطنبول، وهناك استاءت حالة الزوجة فأدخلها في دار للرعاية، وقد ارتبط هو الآخر بفتاة تصغره بعقود، وحصل منها على طفلة غير شرعيّة، لكن بعد فترة من الزمن تَطْلُبُ منه أن يعيدها إلى إسطنبول مرّة ثانية ويعودان معا ويبني لها قصر (بونبون)، وهو يحمل الاسم الذي كانت تريده لابنتها، ويأتي كتعويض لها عن الظلم الذي لحقها منه، ثم يؤول فيما بعد إلى فاليري جيرمين الابنة غير الشرعيّة لبافيل من زوجته الفرنسية الشّابة عام 1972، فيتم تأجيره شققًا إلى أنماط مختلفة من السُّكَان منها رجل الدين والأستاذ الجامعي والعشيقة والمرأة العجوز الوحيدة ومصفف شعر.

ومع هذا التأريخ للبناء الذي يشهد الأحداث، إلا أنه عبر مقطع قصير أشبه باستهلال تسميه “ما قبل” وآخر بعنوان “حتى ما قبل” ترصد جغرافية المكان التي بني عليها القصر فيما بعد، والتغييرات التي شهدها المكان منذ أن كان ثمّة “مقبرتان قديمتان في هذا الحي” إلى حدث التحوّل في المكان خلال خمسينات القرن العشرين، عندما قامت الحكومة الهشة بنقل المقابر إلى أماكن أخرى لعمل طريق جديد، وما ارتبط بأعمال التحويل من أساطير عن حكاية قبري الولي “الذي جمع متاعه ورحل”، وما صحب هذه التغيرات من ظهور عمارات سكنية أنيقة، وفي أقل من خمسة عشر عاما تغيَّر وجه المنطقة تغيُّرا تامًا، ولم يعد شخص واحد يتذكر أن “مئات القبور كانت ذات يوم وما تزال تحت هذه المكاتب الضخمة والمتاجر العصرية والشقق الخيالية وهي تتلألأ على امتداد الجادّة، ناصعة مثل أسنان من الخزف”.

تركيا في القصر

تبدأ الأحداث في التنامي بعد إرسال “السّيدة العمّة” السّاكنة في الشقة 10 من القصر، رسالة إلى الابنة غير الشرعية، تخبرها بما في داخل شقة والدها من أثاث ذي قيمة عالية، وعليها أن تحضر لاستلامه وإذا تعذّر حضورها فمن الممكن إرساله لها عن طريق الشحن البري، لكن جاء الرد مخيبًا فالابنة التي لم تحضر عزاء والدها ولا تشعر نحوه بأيّ مشاعر سوى فراغ لا يكرّر أيّ صدى، ردّت على صاحبة الرسالة بأن تختار ما يناسبها من أثاث وتلقي الباقي في المزبلة، وكنوع من التشويق أرسلت لها في رسالة السيدة العمة رسالة بما تحتويه الشقة من مقتنيات، وصورة خارجية لبناية قصر الحلوى كان التقطها والدها قبل أن يسكنه السكان. لكن في نقلة مفاجئة تتحوّل وتنحرف الأحداث إلى صالون جمال وجلال لتصفيف شعر السيدات، حيث فيه يتمّ التقاء بعض الأطياف من ساكني قصر الحلوى.

كاتب من مصر

12