ألا تكون في خدمة الكذب.. المهمة الأخلاقية الأولى للصحافي

طرح ألبير كامو في مقال منع من النشر طيلة سبعة وسبعين عاما، مسألة الأخلاقية المهنية للصحافي ومسؤوليته عن قلمه، ورفض خدمة الكذب والتضليل رغم ما قد يواجهه من ظروف وتحديات وتهديدات، في نص اعتبر بمثابة مؤسس لفن الصحافة.
الاثنين 2016/04/25
الحرية والحقيقة عاشقتان متطلبتان ولهذا قليل عشاقهما

"من المبادئ الحسنة في فلسفة تستحق هذا الاسم، هو ألا نفيض في بكائيات تافهة أمام وضع واقع لا يمكن أبدا تجنّبه، ليست المسألة في فرنسا معرفة كيفية الحفاظ على حرية الصحافة وإنما هي البحث عن كيفية بقاء الصحافي حرا أمام إلغاء هذه الحريات، إنها مشكلة لا تهم المجموعة وإنما تهم الفرد”. اختصر ألبير كامو في هذا المقال الذي منع من النشر منذ العام 1939 جوهر فن الصحافة، وأثار مسألة الشروط المهنية والأخلاقية التي يجب أن يلتزم بها الصحافي، ووضع على عاتقه وحده الحفاظ على أخلاقياته المهنية وسط انهيار منظومة الشرف المهني في أي زمان ومكان.

تتغير التحديات والوقائع والظروف التي تواجه الصحافي، إلا أن الصفات الأخلاقية في العمل الصحافي ثابتة لا تتغير، وهذا تماما سبب حظر المقال طيلة هذه السنوات.

وكان من المفروض أن يصدر المقال في 25 نوفمبر 1939 في جريدة ”لو سوار رييبليكان” (المساء الجمهوري) وهي صحيفة يومية تصدر في الجزائر العاصمة، رأس تحريرها الكاتب والفيلسوف ألبير كامو، الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1957. ومؤخرا عثرت جريدة ”لوموند” على النص الذي لم ينشر إلى اليوم.

ويكتسب المقال أهميته كونه يصلح لكل زمان ومكان، ومن التاريخ الذي يعيد نفسه، والتحديات والظروف الراهنة التي ترافق الثورات العربية، وسقوط أنظمة قمعية لتعوض بأخرى تتصرف أحيانا بعنف أشد من سبقها مع الصحافيين، علاوة على تهديد حرية التعبير والجرائم التي تطال الصحافيين والمؤسسات الإعلامية، ليظل التحدي أمام الصحافي هو نفسه “كيف تستطيع المحافظة على مهنيتك”. واعتبر نص كامو (1960-1913) مؤسسا لفنّ الصحافة، إذ يقول فيه “إنه من الأكيد أن كل شيء يمكن إزاحته في عالم تجربتنا. إن الحرب نفسها التي هي ظاهرة إنسانية يمكن أن تتجنّب أو أن توقف بوسائل إنسانية في أيّ لحظة. يكفي معرفة السياسة الأوروبية في السنوات الأخيرة للتأكد من أن الحرب لها أسباب بديهيّة. فهذه الرؤية الواضحة للأشياء تزيح الكراهية العمياء واليأس الميسّر للأمور، حيث لم ييأس الصحافي الحر مطلقا سنة 1939 وصارع لأجل كل ما يعتبره صوابا، وكان عمله ذاك مؤّثرا في مجرى الأحداث، كما ابتعد عن نشر أي شيء من شأنه أن يثير الكراهية أو ينتج اليأس، فكل هذا كان ضمن الأشياء التي ناضل من أجلها”.

وشدد كامو في مقاله على معنى أن يكون الصحافي نقيا وسط سيل من المعلومات المضللة والتحولات السياسية التي سيطرت على تلك المرحلة، وهو ما استمر حتى اليوم، وقال “من الضروري أيضا وأمام مدّ الغباء مواجهة بعض الرفض. إن كل مصاعب العالم ليس بمقدورها أن تجعل من فكر شبه نقي فكرا ضالعا في القذارة. فيكفي معرفة آليات المعلومات كي تسهل صحتها. وهذا هو ما يجب أن يهتم به الصحافي الحر، فإذا كان لا يستطيع قول كل ما يعتقده فإنه قادر على عدم قول ما لا يعتقده ويعتبره خطأ. وبالمثل فإن صحيفة حرّة تُقيّم بما تقوله لا بما لم تقله”.

الصحافي الحر إذا كان لا يستطيع قول كل ما يعتقده، فإنه قادر على عدم قول ما لا يعتقده ويعتبره خطأ

ويرى كامو إن تمكن الصحافيون من الحفاظ على هذا المبدأ في الحرية، فإنه سيمهد لميلاد الحرية الحقيقيّة، وبناء على هذا، تنفرد الصحيفة المستقلة بتقديمها لمصادر المعلومات وتساعد القرّاء على تقييمها ودحض السلوك الديماغوجي وحذف الشتائم ونبذ الاستعاضة بالتحاليل أحادية المعلومات. وبهذا فقط تخدم الحقيقة الإنسانية قدر استطاعتها.

وإذا التزمت الصحف بهذه الإجراءات حتى وإن كانت بشكل نسبي، فإنها على أقل تقدير ستتمكن من رفض أكثر شيء في العالم يمكن قبوله: خدمة الكذب.

مسألة أخرى تطرق لها كامو في مقاله: السخرية كسلاح صحافي في مواجهة الطغاة، إذ يعتبر أن عقلا يملك ذوقا ووسائل لفرض الحواجز هو عقل رافض للسخرية. فلم نلحظ هتلر- وهو مثال من بين أمثلة عديدة- يستعمل السخرية السقراطيّة. فالسخرية إذن تبقى سلاحا ضد الطغاة الأقوياء. إنها تكمل الرفض، بمعنى أنها تؤدي إليه، ليس بما هو خاطئ قطعا، بل غالبا بقول ما هو صحيح.

ولا يشك الصحافي الحر عام 1939 في غباء هؤلاء الذين يقمعونه، لكنه متشائم في ما يخص الإنسان. إذ أن حقيقة معلنة بنبرة دغمائية تحذف تسع مرات من أصل عشر ونفس الحقيقة تصاغ بلطف لا تحذف إلا خمس مرات من أصل عشر.

وهذه المعادلة تصوّر إمكانيات الذكاء البشري. وهذا ما تفسره الصحف الفرنسيّة مثل ”لو مارل” و”لو كانار أونشاني” القادرة على نشر المقالات الساخرة بانتظام. إذن الصحافي الحر سنة 1939 ساخر بالضرورة وإن كان ذلك له تبعات وخيمة. لكن الحرية والحقيقة عاشقتان متطلبتان.. ولهذا السبب قليل عشّاقهما.

وعلى الرغم من العراقيل الموضوعة ضد حريّة التعبير، إلا أنها ليست الأكثر صرامة لإحباط الفكر لأنّ التهديدات والإيقافات والتتبّعات تعطي في فرنسا عكس ما هو مُتوقّع منها. غير أنّه يجب الاعتراف بوجود عقبات أخرى مثبّطة للعزائم، كتواصل الحمق والسفاهة المنظمة والغباء الحادّ وغيرها. وهنا توجد العقبة الكبرى التي يجب تخطّيها. ويبدو التعصّب بمثابة الفضيلة الجذريّة. وفق تناقض غريب، إلاّ أنّه بديهيّ، فإنّ هذا التعصّب يخدم الموضوعيّة والتسامح.

وينهي كامو مقاله بخلاصة تقول “هنا إذن جملة القواعد للحفاظ على الحريّة حتّى داخل العبوديّة. وماذا بعد؟ يسألنا بعضهم. وماذا نقول بعد ذلك؟ علينا بالتريّث. وإذا أراد كلّ فرنسيّ أن يحافظ في محيطه فقط عمّا يعتقده صحيحا وصائبا وإذا أراد من موقعه المتواضع المحافظة على الحريّة والمقاومة من أجل الخير ومعرفة إرادته، فحينئذ فقط ستكسب هذه الحرب بالمعنى العميق للكلمة”.

18